تحت عنوان “الزنادقة الذين قامت على أكتافهم الحضارة الإسلامية”، نشر موقع “رصيف 22” مقالاً نال قدراً من الانتشار في مواقع التواصل الاجتماعي، وتثير في بداية الأمر طبيعة المادة المنشورة شديدة السطحية والقصر الانتباه، وهذه الطبيعة تحديداً هي التي تثير أول ما تثير غريزة تفنيد الادعاءات لدى القارئ، إلا أن إشكالية المقولة العامة للمقال تثبت أنها أكثر عمقاً وعبثية بكثير من أن يقع القارئ في فخ التفنيد.
تنطلق كافة الدراسات التاريخية في تراث ما بعد الحداثة من دراسة ما يعرف بالخطاب التاريخي؛ والسابق هو كلية الحديث والدراسات المعنية بسرد وتفسير التاريخ بطريقة تظهر عليه استمرارية ومعنى كلي. وفي هذه الحالة تحديداً يتضح الخطاب التاريخي الذي ينطلق منه المقال محل النقاش من خلال الجمل الأولى في المقال، يبدأ الكاتب نقاشه عبر التأكيد على ثنائيتي الحداثة\الرجعية والعلماني\الأيديولوجي على حد قوله. وينطلق من ذلك متحدثاً عمن وصفهم بالمتشددين الذين طالما كان لديهم خصومة مع العلم والفلسفة والمنطق والرياضيات.
سبب ذكر مدرسة التحليل الخطاب التاريخي في الفقرة السابقة هو الحاجة لوضع الحديث المكون للمقال السابق في سياق أوسع لفهم أصوله ومراده، فالواضح تماماً من قراءة السطور الأولى للمقال هو عدم إدراك الكاتب لمرد مقولاته في تاريخ تطور الجدل الفلسفي والعلمي في التاريخ الغربي وانعكاساته على الواقع العربي والإسلامي اليوم. انطلاقاً من حقيقة عيشنا في حقبة تمثل مرور قرابة الأربعمئة عام على ما يصطلح عليه بالثورة العلمية في أوروبا، يصبح من الممكن فهم أصول ومراد الإشكاليات الحاكمة لفكر هذه الحركة الفكرية من واقع خبراتنا التاريخية والفكرية في القرن الحادي والعشرين. إذ يتضح تماماً لنا أن مثل هذه الثنائيات انطلقت للإجابة عن مجموعة من الإشكاليات التاريخية التي وضعت واقع الحياة الغربية من وجود مؤسسات كالملكيات والكنيسة الكاثوليكية في تناقض صارخ مع توسع دور الفرد والإنتاج الصناعي والعلمي؛ هذا بطبيعة الحال مع بداية التوسع الاستعماري الأوروبي ليضم تحت لواءه عشرات الحضارات المختلفة والغنية تحت لواءه.
من مكاننا الحالي في التاريخ ندرك تماماً فداحة الخسارة الحضارية والبشرية الناتجة من فرض ثنائيات من نوع الرجعي\التقدمي والأصولي\العلماني على واقع شديد التنوع وحضارات شديدة الاختلاف عن الواقع الثقافي الذي انطلقت منه هذه الصراعات. الإشكالية الرئيسية المحددة لكامل الحديث في المقال والسياق الثقافي والتاريخ الذي ينطلق منه هي عدم قدرة الواقع الثقافي العربي على مبارحة المسلمات الحداثية من حتمية التقدم والعلمنة، وفرضيات التطور المؤسسي للرؤى الدينية في مقابل تطور رؤى عقائدية للجماعة العلمية عن علمانية ومادية العالم والوجود.
والمؤسف في الأمر هو قيام هذه السردية التاريخية بتغييب الواقع بتغييب التنوع الشديد للإسهامات الفلسفية والعلمية في محاولات التراث العلمي الغربي لتفسير الواقع الاجتماعي والمادي، إذ يفرض واقع انحباس الواقع العربي المعاصر في مسيرة مأزومة نحو التحديث والتقدم استثناء أي سردية أو تساؤل يكشف أزمات هذه المسيرة واستحالة تحقق منتهاها. وبما أن لا صوت يعلو فوق صوت معركة المسيرة نحو التقدم بصورته المسلمة تلك؛ فإن كل حديث عن مشاكل هذه الرؤية أو عن عدم قابلية تحقيقها بالمعطيات المحلية يصبح غير ممكناً من الأساس، ولا يتمظهر هذا بوضوح أكثر من حالة عدم قدرة معارضي ما يماثل المذكور في المقال محل الحديث على مبارحة هذه الثنائيات في محاولاتهم للرد على هذه المزاعم.
يمثل المقال محل النقاش حالة نماذجية لأزمة الحداثة العربية الأسيرة على الصعيدين الإجرائي والمبادئي. فبداية من الزعم بأن حضارة ما قد قامت على أكتاف مجموعة من الأفراد وتعريفهم بناءًا على مجموعة من المعايير غير المحددة؛ ومرورًا بمنهجية (أو ربما انعدام أي منهجية) التي تم على أساسها الاقتباس وبناء الزعم الرئيسي للمقال، يتضح أن الأزمة المنهجية تختلف أساساً مع كل ما دعى إليه تراث التحديث من المنهجية والدقة والقياس العلمي الدقيق. أما إذا اتجهنا إلى الأزمة المبادئية؛ فإن طبيعة الثقة الحاكمة للمقال بشكل كامل لا تحاول أن تدع أي مجال للشك أو إمكانية المقاربة بشكل مختلف؛ وهو ما يختلف تماماً مع مبدأية ومحورية الشك الحداثية التي دائماً ما تدع مجالاً لإعادة النظر في محاولة مستمرة للوصول إلى “الحقيقة” التي نسعى إليها ولا نصل.
أشار المقال إلى مجموعة من العلماء المنتمين إلى عدد من الحقب التاريخية الإسلامية (ولا نقول المسلمين هنا لأن وفقاً لسياق ومنطق الحديث لا يبدو أن توجهاتهم الإيمانية ذات صلة كما سنرى لاحقًا) سارداً عدداً من إنجازاتهم العلمية ومنتهياً باختصار مخل لمجموعة مما نسب إليهم، ومجموعة مما قيل عنهم. بدأ المقال بالحديث عن الرازي مسمياً إياه بمنكر النبوات، بدأ الكاتب بتعريف الرازي بأنه محل تفاخر الإسلاميين اليوم، ثم انطلق من ذلك محاولاً إثارة مفارقة انتهت بشكل سخيف متحدثاً عن أنه كتب كتاب عنوانه (مخاريق الأنبياء) عارض فيه النبوة بصراحة، وتشير حقيقة أن هذا الكتاب لم تبق منه أي نسخة ليومنا هذا ولا نعلم عنه سوى نقلاً عن البيروني تدعو للتساؤل عن ثقة وقطعية الكاتب، كما أن الطبيعة التجريبية المعروفة عن الرازي وانغماسه في الفلسفة الهندية والمانوية على عكس التراث العربي المدين بشكل عام لأرسطو تدعو بشكل أكبر لضرورة وضع هذه المزاعم في سياق فلسفي مغاير بشكل كامل تختلف فيه معاني المفاهيم محل الحديث بشكل كامل. وكان من الأجدر بكاتب بذل الجهد في الكتابة أن يشير إلى إشكالية كبيرة نقلت عن الرازي وهي التفرقة بين النبوة والألوهية، وتعريض هذه الإشكالية لرؤية أوسع على طيف كامل لا يقف عند ثنائيات الملحد\المؤمن أو الزنديق\المسلم.
وانطلق الكاتب بعد ذلك في تعريض كل من الكندي وابن الهيثم (الفيزيائي) لضوء إشكالية أزلية العالم ودور المنطق، وهي الإشكالية المحورية جداً في تراث الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام والتي غالباً ما يتم مقاربتها في سياق إيماني عوضاً عن تعريضها لنقاش فلسفي طبيعي جداً له أمثاله في الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطى. وكأن هذا لم يكن كافياً لجعل النقاش على مستوى كبير من الانحطاط، استمر الكاتب ليقارب قانون ابن سينا كحجر الأساس للطب والتشريح الأوروبي الحديث، والحديث عن ابن رشد كمؤسس للفلسفة “الحديثة”، ويمكن لأي مطلع أن يدرك مدى سخافة مثل هذين الزعمين، فنظرة سريعة على عمل كل منهما كفيلة بكشف حقيقة أنهما ينتميان لسياقات جد مختلفة؛ سياقات كفيلة بجعل وصف أي من العملين بالحديث طوراً من الخبل، فكل منهما ينتميان بشكل كامل لسياق وتراث متكامل وكامل الاتصال بطبيعة المناخ والجدل العلمي لفترته ومكانه.
واقع الأمر أننا نعلم تماماً من مكاننا الحالي في التاريخ أن السير على درب التحديث والتقدم غير معروف نهايته، وأن أي نتاج مادي عن هذا السير هو في حقيقة الأمر نتاج سيرنا على هذا الدرب لا نتاج وصولنا إلى نهايته، وبما أن هذا القدرة على السير ترتبط بشكل رئيسي بما يتوافر للسائرين من موارد وفرص تسمح لهم بالسير وتحقيق السبل الميسرة لعملية المسير؛ فإن ما يجب الحديث عنه حقاً ليس مطابقة السير والسائرين للنموذج الذي سبقهم من رواد السير نحو الحداثة والتقدم في الغرب على طول القرون السابقة، وإنما واقع هذا الدرب في يومنا هذا وقدرتنا على السير فيه بمواردنا وقدراتنا الحالية، والعودة تاريخياً بشكل يبارح السردية الحداثية التاريخية للبحث في واقع كانت هذه النظرة فيه مجرد واحدة وسط الكثير من الممكنات ذات الوجاهة المماثلة، أي إدراك غنى التاريخ بمحاولات فهم وتفسير للواقع لا تنتمي للتراث الحداثي ولا يمكن مقاربتها بمعايير تنتمي للأخير من الأساس.
نهاية؛ يلفت الحديث في المقال المذكور النظر إلى أمرين، الأول هو مدى انحطاط مستوى المقاربة والدراسة التاريخية في الواقع العربي اليوم بشكل منهجي ومبادئي، والثاني هو أزمة أكبر بكثير من عبث بعض الهواة بالنصوص التاريخية ظناً بغياب جمهور قارئ قادر على إدراك عبثية مثل هذا المحتوى الذي لا يعمل سوى تسطيح الأزمات لصالح أجندة أيديولوجية تنفي عن نفسها هذا الأمر؛ وهي الحاجة الحقيقية لتعريض المقاربة التاريخية والسردية العامة للتاريخ العربي والإسلامي التي لم تنجح حتى اليوم في مبارحة أصولها الاستعمارية والاستشراقية لنظرة فاحصة ومتمعنة تدرك تحيزاتها الشخصية وتنحاز لها بشكل واعي.