لم يُخفها أردوغان وقالها صراحة للصحافيين المسافرين معه إلى المملكة العربية السعودية في آخر أيام العام المنصرم بعد سؤال من أحدهم عن العلاقات التركية الإسرائيلية وجهود التصالح الجارية بين الطرفين منذ بضعة أشهر: “إسرائيل بحاجة لبلد مثل تركيا في المنطقة، وعلينا نحن أيضًا أن نتقبل حاجتنا لإسرائيل، هذا واقع المنطقة،” بتلك الكلمات إذن أكّد أردوغان الصفحة الجديدة التي فتحتها كل من أنقرة وتل أبيب في علاقتهما المتوترة منذ سنوات، وأحدث مفاجأة في الحقيقة للكثيرين ممن عقدوا الآمال على تركيا في الضغط على إسرائيل بالمنطقة، وهي آمال لم تكن منطقية أبدًا كما سنستعرض في هذا المقال، والذي نناقش فيه التحولات المرتقبة في السياسة الخارجية التركية خلال هذا العام.
تحديّان رئيسيّان باختصار هما اللذان سيرسمان ملامح السياسة التركية في الفترة المقبلة؛ الأول هو تنامي التواجد الروسي، وهو مصدر تهديد تقليدي وتاريخي، في محيط تركيا، أولًا في الشمال بعد استحواذ الروس على شبه جزيرة القرم وتعزيز موقعهم البحري هناك وتدخلهم الواضح في شرق أوكرانيا، وثانيًا في الجنوب عبر الضربات الجوية الروسية المساندة لنظام الأسد والتي امتدت لدعم سياسي، وربما عسكري تحت الطاولة، لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بشمال سوريا والذي تعتبره تركيا إرهابيًا وشقيقًا لحزب العمال الكردستاني، وثالثًا في الشرق كذلك عبر قرار توحيد نظامي الدفاع الجوي الروسي والأرميني، حيث تُعَد أرمينيا حليف روسيا التقليدي في القوقاز في مقابل وجود جيورجيا وأذربيجان داخل المعسكر التركي والغربي عامة، بالإضافة للدور الروسي المعتاد في آسيا الوسطى والمتنافر مع رغبة تركيا بلعب دور فيها.
أما التحدي الثاني، والأقل خطورة نسبيًا، فهو تمدد النفوذ الإيراني في المشرق العربي عسكريًا وسياسيًا، وهو نفوذ واضح بالطبع في علاقة طهران مع النظام السياسي العراقي، والذي لا توقفه سوى داعش في الشرق وحكومة كردستان العراق في الشمال، ونظام الأسد في سوريا الذي تقع داعش إلى غربه وإن كانت جهوده العسكرية منصبة على مواجهة قوى الثورة المختلفة، والمدعومة بالأساس من تركيا ودول الخليج، وهي تعاني تشرذمًا شديدًا بوجه تحالف أكثر صلابة نسيبًا ترعاه إيران على الأرض مع روسيا.
العودة للغرب: احتياج أم تحدي؟
بوجه هذين التحديَّين تجد تركيا نفسها في المقام الأول بحاجة إلى تعزيز تحالفها الغربي، وحلف الناتو على وجه الخصوص أكثر من الاتحاد الأوروبي، فهي تملك جيشًا ورثته عن استراتيجية الحرب الباردة في نهاية المطاف، وهي استراتيجية اعتمدت على الولايات المتحدة في الدفاع الجوي ولم تسعى بجدية لتأسيس نظام دفاع جوي أو نظام صاروخي خاص بتركيا بالنظر لرؤية الجمهورية الانعزالية خلال القرن السابق، وهو ما انعكس بوضوح في الملف السوري الذي ترفض تركيا التدخل العسكري فيه رُغم قدرتها على ذلك على المستوى البري، لأنها ستكون بحاجة لغطاء الناتو الجوي والذي لا يُبدي الحلف استعداده لتفعيله سوى بمواجهة داعش فقط، وهو هدف لا ترى تركيا أنه كفيل بدفعها لساحة المعركة برًا ما لم يضم حزب العمال بالإضافة لضغوط أكبر على نظام الأسد.
على هذا الأساس، تدرك تركيا اليوم مكامن ضعفها أكثر من أي وقت مضى، وهي عدم قدرتها على استخدام قوتها الصلبة وحدها، وحتى تصبح قادرة على إنتاج نظام جوي أو صاروخي خاص بها يعزز من قدرتها على القيام بفعل عسكري منفرد في محيطها، فإنها ستكون مضطرة للاصطفاف مع الناتو بقوة في الفترة المقبلة لتحقيق أهدافها، وبذل أقصى جهودها الدبلوماسية لتحقيق الأهداف الخاصة بها في إطار التحالف الغربي، والهدف الأبرز الآن في الملف السوري هو إقصاء حزب العمال من طاولة الحوار والذي نجحت فيه تركيا بالفعل، وإن كان هدف إضعافه على الأرض في معاقله بسوريا هدفًا أصعب بطبيعة الحال نتيجة الدعم الذي يتلقاه من واشنطن في مواجهة داعش.
الآن نطرح التساؤل الآتي: هل تعزيز التحالف الغربي احتياج تركي أم تحدي سيواجه تركيا؟ في الواقع يمكن اعتبار الاصطفاف مع الناتو احتياج وتحدي في آن، فهو احتياج للأسباب المذكورة أعلاه، والتي تتضمن بشكل أساسي عدم القدرة على الوقوف بوجه روسيا منفردة بالطبع، وهو تحدي أيضًا نتيجة ما يسببه من اعتماد متبادل بين الطرفين لا يتيح لتركيا حرية الحركة العسكرية، والمطلوبة ربما في تلك المرحلة من تاريخ المنطقة لا سيما مع رؤية صناع القرار الحالية في تركيا من ضرورة اضطلاع تركيا بدور أكبر وفعال في الشرق الأوسط سيتطلب سياسة “هجومية” في المستقبل، وليس فقط دفاعية تحمي الحدود التركية فقط كما خلال القرن الماضي.
استراتيجية تركية لاحتواء إيران
إلى جانب الروس كما ذكرنا يمثل التمدد الإيراني السريع في المشرق تحديًا لتركيا، وهو أقل خطورة لأسباب عدة، أهمها أن إيران ليست قوة بحجم روسيا ولا تملك في نفس الوقت تحالفًا دوليًا كحلف الناتو، مما يعني قدرة تركيا على مناطحتها منفردة دون دعم غربي وإن كان الدعم الغربي تعزيزًا مهمًا لأنقرة، وثانيًا أن إيران خطر فقط في إطار منطقة المشرق تحديدًا وليس بشكل عام على غرار الروس، ففي ملف الخليج الفارسي على سبيل المثال لطالما مالت تركيا إلى توازن بين الطرفين الإيراني والسعودي نظرًا لخطورة هيمنة مطلقة لأي منهما وقابلية هيمنة كتلك للتوسع شمالًا نحو المشرق ومنافسة تركيا.
في الوقت الحالي بالطبع تميل تركيا ناحية السعودية نظرًا لهيمنة إيران المتزايدة بوضوح في المشرق، وهو ما انعكس بتأسيس مجلس استراتيجي بين البلدين لأول مرة في تاريخهما، والذي سيكون معنيًا على الأرجح بالتنسيق بين القوتين الأثقل اقتصاديًا وسياسيًا في المنطقة لدعم القوى السورية المعارضة للأسد في المشرق، وكذلك مواجهة النفوذ الإيراني في اليمن والمتواجد عبر الحوثيين، وهي منطقة قريبة من البحر الأحمر لا ترغب تركيا برؤية نفوذ إيراني فيها.
تباعًا، يمكننا فهم المنطق الكامن خلف بناء “قواعد عسكرية تركية” أو مهمات عسكرية دائمة أولها في معسكر بعشيقة بالموصل بالتعاون مع حكومة كردستان العراق، كمحاولة لوقف زحف النظام العراقي وميليشياته الشيعية، وكردستان العراق هي الحليف الأبرز لتركيا في المشرق كما نعرف، والتي تحاول الرياض ضمها في ثنايا التحالف السني، وثانيها في قطر بعد اتفاق عسكري بين الطرفين، وثالثها في الصومال، المقابلة لليمن والمطلة على البحرين الأحمر والعربي، لتدريب القوات الصومالية، وهو الخبر الذي ربما لم يلتفت له كثيرون (الخبر منشور هنا في جريدة صباح التركية).
علاوة على ذلك يأتي الدور على القوة العسكرية الأهم في المنطقة بعد تركيا، وشديدة العداء لإيران أيضًا في كل من المشرق والبحر الأحمر، وهي إسرائيل، والتي يعلم كثيرون أنه ليست ثمة أسباب جغرافية جوهرية للخلاف بينها وبين تركيا، علاوة على أن العداوة بين الطرفين لم تعدو كونها حربًا إعلامية كسب منها الطرفان ربما بعض المكاسب السياسية في وقت ما دون أن تتطور لقطيعة استراتيجية، فالدولة التركية لا ترى أي منطق في تسخير طاقاتها لمواجهة بلد على أسس هوياتية أو أيديولوجية بحتة، كالصراع بين الإسلام والصهيونية، كما أن أصحاب الصراع الرئيسيين، وهُم العرب، متوقفون حتى إشعار آخر عن القيام بدورهم في هذا الصراع بشكل يجعل من العبثي بمكان مناصبة تركيا وحدها لإسرائيل العداء بشكل مفتوح.
ماذا تبقى من “الرؤية العثمانية الجديدة” إذن؟
هل تخلت تركيا عن “عثمانيتها الجديدة” التي طالما تحدث عنها المقربون من صناع القرار في السنوات الأخيرة واعتبرها المحللون السمة الرئيسية للسياسة الخارجية تحت قيادة رجب طيب أردوغان وأحمد داوود أوغلو؟
يمكننا القول في الحقيقة أنه ثمة رؤيتين عثمانيتين، واحدة رومانسية ارتكزت للـ”عثمانية” كهوية وتجلت باستمرار كهوس “العودة للشرق” بين صفوف الحركة الإسلامية (أو ما بعد الإسلامية) في تركيا، وتضمنت تعزيز العلاقات مع الجوار “الإسلامي” دون إدراك التناقضات والصراعات الجغرافية والتاريخية الموجودة في صفوف المنتمين لهذا الجوار، وهي رؤية ورثها حزب العدالة والتنمية على مدار العقد الماضي بينما كان حديث العهد بالسلطة وتعقيدات المشهد الإقليمي والدولي.
أما الرؤية الثانية فهي رؤية واقعية ترتكز للـ”عثمانية” كاستراتيجية وتنظر لتركيا باعتبارها وريثًا للخلافة العثمانية ليس إلا على المستوى الجيوسياسي والتاريخي، بكل الأعباء والأخطار التي واجهتها في الماضي والتي تضمنت بالأساس الروس إلى الشمال والصفويين بإيران إلى الشرق، دون الهوس بالضرورة بوراثة الخلافة على المستوى الهوياتي في المقام الأول وما أملاه ذلك في السابق من “رومانسية إسلامية” إن جاز القول، لا سيما وأن رومانسية كتلك هي نتاج خطاب الحركة الإسلامية بشكل أساسي داخل تركيا ولم تنطبق على الخلافة العثمانية في زمنها، والتي اتسمت بالبراجماتية كما يعرف قراء تاريخها، فقد كان لها أعداء داخل “الجوار الإسلامي” في أوقات كثيرة تحالفت مع الغرب لصدّهم.
ملامح السياسة الخارجية التركية في 2016
إجمالًا، سيكون متوقعًا تعزيز العلاقات بين تركيا والغرب من ناحية، وتركيا والخليج من ناحية، وإن كان الدخول في علاقات أقوى مع الخليج سيظل محدودًا بعدم الانخراط في محاولة السعودية خلق “تحالف سني،” وهو ما رأيناه من موقف محايد نسبيًا للحكومة التركية في أزمة إعدام النمر، والتي لا يصب في مصلحتها بالطبع رسم الصراع بصورة طائفية محضة كما يفعل الإيرانيون والسعوديون، فهي قلقة من إيران كقوة متمددة في المشرق، وتملك أقلية شيعية علوية في الحقيقة لا تود خلق توترات معها بتبني خطابًا إقليميًا “سنيًا.”
التهدئة مع الإمارات ربما تكون في الطريق أيضًا وإن كانت الرغبة في التعاون معها من جانب أنقرة أقل من الرغبة بتعزيز التحالف مع الناتو والسعودية وإسرائيل، فالإمارات التي توترت معها العلاقات نتيجة الملف المصري أولًا، ونتيجة للعلاقة الوثيقة بين تركيا وقطر ثانيًا، لا ينتظر أن تحل محل قطر في الاستراتيجية التركية، خاصة بالنظر لعلاقات أبو ظبي الجيدة بروسيا واختلافها عن السعودية في بعض الملفات بالمشرق واليمن (اقرأ هنا عن التنافر التركي الإماراتي في البلقان)، ولكن لربما تكون الجهود السعودية الراغبة في خلق اصطفاف “سُني”، علاوة على كون الإمارات ثاني أقوى دول الخليج بمواجهة إيران، هي السبب الوحيد في تهدئة براجماتية تركية إماراتية قريبة.
أخيرًا يأتي ملف العلاقات بين تركيا ومصر، والذي يحتمل كما يتداول بعض المحللين بدء المصالحة فيه، وهو مرة أخرى احتمال ضعيف لأسباب عدة، أبرزها أولًا ضعف الدور المصري تمامًا في المشرق، حيث تقبع أولويات تركيا، علاوة على عدم دعم مصر للثورة السورية أصلًا، وهو ما يجعل التقارب مع النظام المصري ليس ذي قيمة كبيرة بالنسبة للاستراتيجية التركية هناك، وثانيًا نتيجة لعدم ترسخ النظام المصري الحالي كـ”أمر واقع” بشكل كافي مثله مثل إسرائيل والإمارات، فالتصالح التركي الإسرائيلي ينبني على وجود إسرائيل كأمر واقع، وأي تهدئة تركية إماراتية ستستند لنفس المعطيات من حيث كون الإمارات كثاني أكبر اقتصاد في الخليج أمرًا واقعًا وبالتالي إضافة مهمة لاحتواء إيران، أما النظام المصري الحالي فلازال الكثيرون لا يعتقدون بحتمية استمراره، وبالنظر لاستمرار تعنّت أروغان الشخصي في قبول أي تهدئة معه، لا يبدو مرجحًا التصالح خلال هذا العام، وعلى الأكثر قد تكون هناك تهدئة تتيح عودة العلاقات الاقتصادية ليس إلا.