ترجمة حفصة جوده
إنها تعذب الشباب وترعب المسنين , فقد نحتت بشدة في روح ايميلي ديكنسون (شاعرة أمريكية من القرن الـ 19) وتركت ويليام بليك (شاعر ورسام إنجليزي من القرن الـ 18) فاقدًا لبصيرته.
ينظر العلماء إلى الشعور بالوحدة في يومنا هذا – لعنة الإنسانية منذ زمن بعيد – بأنه يشكل خطرًا كبيرًا على الصحة العامة؛ فالعلماء الذين حددوا وجود صلات مميزة بين الوحدة والمرض يتتبعون الآليات البيولوجية الدقيقة التى تجعل منه أمرًا خطيرًا يصل إلى مستويات جزيئية عميقة، وقد وجدوا أن العزلة الإجتماعية تغيّر الجينيوم البشري بشكل عميق على المدى البعيد.
ليس هذا فحسب, لكن احتمالات الأضرار الناتجة عن هذه التغيرات الجينية تظهر مشابهةً لأخطار التدخين الصحية، بل وأسوأ من مرض السكري وأمراض السمنة، وقد استنتج العلماء أن الوحدة قد تكون خطرًا مميتًا؛ والولايات المتحدة – التي تقدّس القيم الفردية – لم تفعل الكثير من أجل تخفيف حدة الأمر.
” في مجال الصحة العامة , نتحدث طوال الوقت عن السمنة والتدخين وكل هذه الأشياء, لكننا لا نتحدث عن الأشخاص الوحيدين والمنعزلين إجتماعياً” قالت كريستين جيرست إيمرسون, أستاذة مساعدة بجامعة جورجيا, معهد علم الشيخوخة , وأضافت: “نتائج هذا الأمر مرعبة وملموسة بالفعل, فالأشخاص الوحيديون يموتون، كما أن صحتهم تضعف, ويكلفون المجتمع أكثر من ذلك بكثير”.
يقول عالم النفس ستيف كول – الذي يدرس تأثير البيئة الإجتماعية على التغيّر الجيني- إن الباحثين يعرفون منذ سنوات أن الأشخاص الوحيدين أكثر عرضة للإصابة بالنوبات القلبية والسرطان المتنقل والزهايمر وغيرها من الأمراض, “لكننا لم نفهم السبب بعد”.
في العام الماضي , قام كول وزملاؤه بكلية الطب بجامعة كاليفورنيا، بالتعاون مع جامعة كاليفورنا في ديفيز وجامعة شيكاغو, للكشف عن الإستجابات المعقدة للنظام المناعي أثناء عمله لدى الأشخاص الوحيدين، ووجدوا أن العزلة الاجتماعية ترفع من نشاط الجينات المسؤولة عن الالتهابات وتقلل من نشاط الجينات المسؤولة عن إنتاج الأجسام المضادة لمكافحة العدوى.
تم اكتشاف خلل في الخلايا الأحادية, وهو نوع من خلايا الدم البيضاء يتم انتاجه في نخاع العظام, حيث تتغير بشكل كبير في الأشخاص المنعزلين إجتماعيًا، وهذه الخلايا الأحادية تلعب دورًا مناعيًا معينًا وهي إحدى الخطوط الدفاعية الأولى للجسم ضد العدوى، ولكن الخلايا الأحادية غير الناضجة تتسبب في الإصابة بالالتهابات وتقلل من تعداد الأجسام المضادة، حيث وجد الباحثون أن تلك الخلايا غير الناضجة تنتشر بكثرة في دماء الأشخاص الوحيدين.
تعد هذه التغيرات الخلوية نتيجة ثانوية للتطور البشري, كما يقول جون كاسيوبو أستاذ العلوم العصبية الإجتماعية بجامعة شيكاغو؛ ففي وقتٍ سابق, عندما كان البقاء على قيد الحياة يعتمد على التعاون والتواصل، كانت العزلة الإجتماعية خطرًا كبيرًا؛ لذا صاغ التطور عقل الإنسان البدائي ليتطلب ويحتاج للتواصل الاجتماعي بذات الطريقة التي صاغ بها التطور العقل الإنساني ليتطلب ويحتاج الطعام.
من هذا المنطلق، تشابه آلام الوحدة آلام الجوع , فهي تعطي إشارة بيولوجية بأن هناك خطأً ما، “عندما تكون جائعًا قد لا تدرك انخفاض مستوى السكر في دمك, ولكن أثناء القيادة، وإذا رأيت الأقواس الذهبية لمطعم ماكدونالدز، فإن هذا سيلفت انتباهك لحاجتك إلى الطعام”، يقول كاسيوبو.
أما اليوم, أصبحت العزلة الإجتماعية في كثير من الأحيان أسلوب حياة لا يمكن تجنبه، لكنها تضع الجسم والخلايا في حالة تأهب دائمة لأي تهديد، وهذا يساعد في تفسير السبب الذي يجعل الأشخاص الوحيدين يتصرفون بطريقة سلبية مع الآخرين؛ مما يجعل قدرتهم على إقامة العلاقات أصعب بكثير.
“أقابل الكثير من هؤلاء المرضى طوال الوقت”، تقول الطبيبة النفسية جاكلين أولدز صاحبة عيادة خاصة في كامبريدج وماساشوستس وشاركت في تأليف كتابين عن نفس الموضوع, وتضيف: “كثير من هؤلاء الناس الذين ينتهي بهم المطاف ليكونوا وحيدين, يطلقون إشارات بأنهم يرغبون بالبقاء وحيدين نتيجة للقلق, والشعور بالانعزال عن الجماعة له تأثير نفسي كبير ناتج عن مخاوفنا التطورية بأن الجميع سيبقون على قيد الحياة أما نحن، الوحيدون، فلن ننجوا”.
التعريف الأكثر قبولًا للوحدة هو شعور الأشخاص بالضيق عندما يفشلون حقيقةً في تحقيق أهدافهم المتعلقة بالعلاقات الإجتماعية، والشعور بالوحدة ليس مرادفًا لأن تكون وحيدًا؛ فكثيرٌ من الناس يعيشون في عزلة لكنهم لا يشعرون بالوحدة، وعلى العكس تمامًا , وجودك وسط الآخرين ليس ضمانًا لعدم شعورك بالوحدة.
الوحدة أيضًا لا تعني الإكتئاب, بالرغم من أنهما غالبًا ما يتلازمان؛ فالأولى هي شعور تحفيزي مرتبط بالحاجة للشعور بالانتماء، أما الثاني, فلا يعد شعورًا تحفيزيًا، بل شعور أعم من الحزن واليأس.
في جامعة جورجيا, أراد جريست وجايني جايواردانا – عالمة الإقتصاد الصحي- معرفة مدى انتشار الضيق الناتج عن الوحدة بالفعل، فقاما بتحليل بيانات طويلة من دراستين وطنيتين عن الصحة والتقاعد أُجريتا عاميّ 2008 و2012، ومن خلال أجوبة 7.060 فردًا في عمر الستين وما فوق، وجد الباحثون أن الوحدة المزمنة كانت قضية مهمة للصحة العامة وترتبط بدورة المرض واستخدام الرعاية الصحية.
ومن بين النتائج الأكثر غرابة، وجد الباحثان عندما ركزا على عدد مرات زيارة الطبيب أثناء المرض, بأن الوحدة تعد مؤشرًا مهمًا في تلك الزيارات؛ فالعلاقة بين الطبيب والمريض يبدو أنها توفر إحدى المنافذ الإجتماعية القليلة للأشخاص المنعزلين.
أصبح الطبيب النفسي مات لوندكويست – مدير مركز “تريبيكا ” العلاجي في نيويورك – خبيرًا إلى حد ما في أمور الوحدة، حيث يقول , بالكاد لا يمر الأسبوع بدون أن يعلّق أحد المرضى بكلمة “عذاب” على شيء ما شاهدوه في الفيسبوك، “فالجميع يتمتعون بالتواصل بينما هم لا يتمتعون بالأمر ذاته”، كما عبّر ليندكويست عن صدمته من عدم وجود المزيد من الحوارات حول العزلة الإجتماعية في دوائر الصحة العامة “فالوحدة قضية قاسية ومؤلمة”، كما يقول.
في دراسة نُشرت الشهر الماضي على الإنترنت في النشرة الدورية للأكاديمية الوطنية للعلوم, تم تقديم اقتراح بوجود تأثير متوازٍ بين الصحة والشعور بالوحدة؛ فمع كل زيادة إيجابية في العلاقات الإجتماعية, لاحظ الباحثون – في ولاية كارولينا الشمالية والصين – تحسناً في مؤشرات حيوية فيسيولوجية معينة مثل ضغط الدم ومؤشر كتلة الجسم، وكانت أكبر التأثيرات الإيجابية مرتبطة بهؤلاء الذين يتمتعون بتنوع في العلاقات, مثل علاقات الصداقة, العلاقات العاطفية، وزملاء العمل.
“كل واحدة من هذه العلاقات توفر مسارات مختلفة من شأنها أن تؤثر على الصحة”، تقول جوليان هولت لونستاد الطبيبة النفسية بجامعة برجنهام يونج والتي قامت مؤخرًا بتحليل 70 دراسة مختلفة عن الوحدة من كل أنحاء العالم، وقامت بتغطية أكثر من 3.4 مليون مشارك على مدى 35 عامًا.
يعتقد الباحثون أن الولايات المتحدة لا تبذل مجهودًا كافيًا للتصدي للوحدة كقضية صحية عامة، وكعامل ملهم، فقد أشاروا إلى المملكة المتحدة التي بدأت عام 2011 في حملة وطنية للقضاء على الوحدة بمشاركة خمس مؤسسات خدمة إجتماعية وحوالي 2500 مؤسسة صغيرة, يعملون جميعًا على زيادة وعي الناس “بمرض الوحدة”.
“لقد أنفقنا الكثير من وقت الحملة في التواصل مع الناس وإقناعهم باتخاذ خيارات حول الصحة والإنفاق على الرعاية الصحية لمعالجة ومنع مرض الوحدة ” قالت كيلي باين, مديرة الحملة في البحث والتعليم عبر رسالة إلكترونية.
الجدير بالذكر أخيرًا، أن المحللة النفسية الألمانية، فريدا فروم رايخمان، تنبأت بهذا الأمر منذ أكثر من نصف قرن؛ فهي من أوائل الأشخاص الذين درسوا العزلة الإجتماعية من منظور علمي, وقد كتبت حينها بأن “الحقيقة المجردة والمرعبة” للوحدة تلقي بظلالها على حياتنا بسبب حاجتنا الدائمة للألفة، “ولا يوجد أي إنسان لا تتهدد حياته بخسارة هذه الألفة”.
المصدر: واشنطن بوست