حالة من القلق التي لا يمكن إنكارها تعتري أوساط المصريين المؤيدين للشرعية، وخصوصًا المقيمين منهم في تركيا، في ظل التقارير التي تتناول بعض الأخبار المتعلقة بوساطة سعودية بين القاهرة وأنقرة، من أجل تحقيق مصالحة تسمح بما هو أكثر من التقاط بعض الصور خلال قمة منظمة التعاون الإسلامي المقررة في تركيا، في شهر أبريل المقبل، والتي من المفترض أن تسلِّم فيها القاهرة رئاسة القمة إلى تركيا.
وبالرغم من تأكيدات مسؤولين عدة في الحكومة التركية على أن موقفهم من مصر لم يتغير، إلا أنه تبقى لهذه المخاوف وهذا القلق، مشروعيتها؛ حيث إنه من بديهيات السياسة أنه ليس كُل ما يعرف يُقال، وليس كل ما يدور في الغرف المغلقة، يُعلن عنه، بل إنه في الغالب، فإن ما يتم الإعلان عنه من مواقف، يكون مخالفًا لما يدور في الغرف المغلقة!
لا نقول بذلك إن تركيا سوف تغير موقفها من النظام في مصر بالصورة التي يتخوف منها الكثيرون، ولكن على الأقل فإنه من المرجح أن يكون هناك العديد من التحولات في المواقف الرسمية التركية إزاء الأوضاع السياسية في مصر، وإزاء النظام الحالي هناك.
فطبائع الأمور وحقائق السياسة تفرض نفسها في النهاية، ومن القوانين الثابتة في السياسة أنها “فن الممكن”، وهناك مجموعة من المتغيرات التي قد تقول إن تركيا قد تقدِم على بعض الإجراءات على الأقل في الفترة المقبلة، تجاه “العلاقات مع مصر”، وليس مع النظام ذاته، مثل التحسن في المجال الاقتصادي؛ حيث يضغط رجال الأعمال الأتراك على حكومتهم من أجل إفساح المجال أمام المزيد من المرونة في العلاقات مع مصر وليس مع القاهرة، من أجل مصالحهم، وخصوصًا بعد الأزمة الراهنة مع روسيا، التي حرمت رجال الأعمال والمزارعين الأتراك سوقًا مهمةً لهم، في ظل العقوبات الروسية على تركيا التي دخلت حيز التنفيذ في أول يناير الماضي، على إثر إسقاط تركيا للقاذفة السوخوي الروسية، التي تقول أنقرة إنها اخترقت مجالها الجوي في نوفمبر الماضي.
وفي هذا، فقد كان من اللافت أن القاهرة استضافت يوم السبت الماضي، 23 يناير، اجتماعًا لـ “جمعية رجال الأعمال الأتراك والمصريين” “تومياد”، للمرة الأولى منذ الانقلاب على الدكتور محمد مرسي، في 2013، حيث تمت مناقشة كيفية تفعيل الاستثمارات التركية في مصر من جديد.
مبعث الحديث عن تغيرات محتملة في السياسات التركية تجاه مصر، يأتي من أكثر من اتجاه، الأول هو الظروف السياسية والأمنية والإستراتيجية التي تمر بها تركيا في الوقت الراهن، ولها ما لها من تأثيرات على الأوضاع الاقتصادية وكذلك السياسية، سواء فيما يخص حزب العدالة والتنمية الحاكم، أو الأمن القومي التركي بشكل عام.
تعاني تركيا في المرحلة الراهنة من شيء غير يسير من التحديات التي تتصدى لها الدولة التركية بقدر كبير من الصبر والمثابرة، مع كون بعض هذه التحديات مرتبط بقوى سياسية واجتماعية داخلية، وبمصالح أمنية واقتصادية تركية كبرى في الإقليم، وفي الظهير الأوروبي لها.
أول هذه التحديات، هو الحرب الحالية في جنوب شرقي البلاد، مع حزب العمال الكردستاني؛ حيث وصلت الأمور إلى مستوىً حرج، ليس على المستوى الأمني والعسكري فحسب، وإنما الجيوسياسي كذلك، مما يهدد الأمن القومي التركي في مقتل.
فالسياسة الروسية، وكذلك الأمريكية – وهو الأمر المدهش – في سوريا، على المستوى العسكري والسياسي، قادت إلى تحسين موقف القوى والأحزاب الكردية المسلحة في المناطق السورية الواقعة على الحدود مع تركيا.
فمن خلال مطالعة خرائط توزيع القوى والسيطرة على الأرض السورية، سوف نجد أن الضربات الروسية والدعم الأمريكي، قد وضعا “الاتحاد الديمقراطي”، وهو الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، وما يُعرف بـ”قوات سوريا الديمقراطية”، وهذه تدعمها الولايات المتحدة رسميًّا، في مجال السيطرة على المناطق السورية شمالاً والمجاورة للمناطق التي ينشط فيها حزب العمال في تركيا، وكذلك في المناطق التي كانت تركيا تريد إقامة منطقة عازلة آمنة شمال سوريا فيها، من جرابلس إلى عفرين.
وذكرت إحصائيات في هذا، أن 600 مدني و300 عسكري، قتلوا في تركيا في غضون النصف الثاني من 2015 ويناير 2016، نتيجة الصراع في تركيا، بينما تواجه أنقرة ضغوطًا أمريكية وأوروبية، تصل لمستوى الانتقادات، لمزيد من ضبط الحدود الطويلة بينها وبين سوريا.
وكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي له مذهبه في هذا؛ حيث الأمريكيون يريدون المزيد من الفاعلية في الدور التركي في الحرب ضد تنظيم “داعش” ومحاصرته، بينما الأوروبيين يريدون دورًا تركيًا أكبر في عملية ضبط نزوح اللاجئين عبر حدودها إلى أوروبا التي وصلها مليون لاجئ، غالبيتهم سوريين وأفغان، في عام 2015 وحده، بحسب الأمم المتحدة.
أضف لذلك، ولكي لا نستطرد في هذه الجزئية أكثر مما يحتمله المجال الأصلي لهذا الموضوع؛ فإن الضغوط السياسية والأمنية، ما تعانيه تركيا على المستوى الأمني الداخلي بسبب تهديدات “داعش”، مماحكات المعارضة القومية واليسارية، دور الكيان الموازي، بالإضافة إلى السلوك الروسي في سوريا، والتحرشات التي تتم في الأجواء التركية ذاتها، وهو ما منع تركيا من التفكير في أي عمل عسكري كانت تنتويه في سوريا، سواء لفرض منطقة آمنة، أو لإسناد المعارضة السورية المسلحة التي تقاتل نظام الرئيس السوري بشار الأسد، أو حتى حماية التركمان، بعد أن سقط جبل التركمان بالكامل تقريبًا في يد الجيش النظامي السوري، وهو ما خفض إلى الحد الأدنى قدرة تركيا على حماية مصالح أمنها القومي في سوريا، حتى فرض منطقة آمنة غرب الفرات.
الجانب الآخر في ملف المصالحة المصرية التركية المحتملة، هو الضغوط التي تمارسها المملكة العربية السعودية في هذا الصدد.
فالرياض التي تخلت عن فكرة الاستعانة بالإخوان المسلمين وتنظيماتهم وأحزابهم القُطْرية، في تأسيس تحالف سُنِّي واسع النطاق ضد إيران، التي هي هاجس السعودية والخليج الأساسي حاليًا؛ بدأت في محاولة تأسيس تحالف مع الدول السُّنِّيَّة الكبرى، وليس التنظيمات والأحزاب الموجودة.
ومن هنا كانت الاتصالات مع كل من مصر وتركيا وباكستان وإندونيسيا، باعتبار أنها أكبر أربعة بلدان إسلامية يمكنها إسناد الرياض في حربها الخاصة مع طهران، ولكن الأزمة في العلاقات المصرية التركية بعد الانقلاب على الدكتور محمد مرسي في مصر، ودعم أنقرة المتواصل لأنصار الشرعية في مصر، بمختلف الأشكال، بما في ذلك احتضان رموز المعارضة المصرية، الإسلامية – الإخوان بالأساس – وحتى الليبرالية مثل أيمن نور حالت دون نجاح الخطط السعودية في هذا الإطار.
فبدأت الرياض تفهم أنه من دون معالجة الأزمة في العلاقات المصرية التركية؛ فلن يكون هناك تحالف سُنِّي قوي يتصدى لإيران الرامحة بعد أن نجحت في تحقيق اختراقات كبرى في علاقاتها الدولية، جعلتها شريكًا سياسيًّا وأمنيًّا للغرب في سياساته في المنطقة، وبدأت في الاندماج مجددًا كدولة طبيعية في السياسة الإقليمية والدولية، بعد رفع العقوبات النووية الغربية -الأمريكية والدولية عنها، بموجب تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخير الذي أشار إلى أن طهران قد أوفت بالتزامات الاتفاق النووي الموقع بينها وبين مجموعة (5 + 1) الدولية، في يوليو 2015م.
وفي التفاصيل التي تم تسريبها من بعض المصادر السعودية المقربة من “المفاوضات” الحالية، والتي كانت زيارة رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو، إلى المملكة العربية السعودية قبل يومين جزءًا منها؛ فإننا نرى أبعاد الصورة على حقيقتها بعيدًا عن التصريحات الدبلوماسية المعلنة، حيث طرحت كلٌّ من القاهرة وأنقرة حزمة مطالب لاستعادة العلاقات بين البلدَيْن، وقف بعضها حجر عثرة.
فلقد فرضت القاهرة شروطًا تتعلق بعدم تدخل أنقرة في الشأن الداخلي لمصر، والتعامل مع السلطة القائمة في البلاد باعتبار أنها “نظام شرعي منتخب ديمقراطيًّا”، وتسليم كافة القيادات الإخوانية المطلوبة لجهات الأمن أو الصادر بحقها أحكام قضائية، وغلق القنوات الفضائية الأربعة المؤيدة للشرعية التي تُبث من تركيا.
أما أنقرة فقد فرضت 4 شروط بدورها لعودة العلاقات، تتمثل في: إطلاق سراح الرئيس محمد مرسي، وإلغاء أحكام الإعدام بحق قيادات وأنصار جماعة الإخوان المسلمين، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وعدم اعتبار الإخوان وأحزاب الإسلام السياسي تنظيمات إرهابية.
المصادر السعودية قالت إن القاهرة اعتبرت الشروط التركية بمثابة تدخل في شؤونها الداخلية، ويعكس رؤية غير واقعية للأوضاع في مصر، وفق المصادر السعودية.
التدخلات سعودية قادت في البداية إلى موافقة الجانب التركي على إغلاق القنوات الفضائية ووقف التصريحات المعادية للقاهرة، والتعامل مع السلطة القائمة في مصر، لكنها رفضت تسليم المطلوبين أمنيًّا، كما تمسكت بالإفراج عن السجناء السياسيين في السجون المصرية.
في المقابل، وافقت القاهرة على إطلاق سراح السياسين غير المُدانين في أعمال إرهابية أو أحداث عنف، كما وافقت على إلغاء التصنيف الإرهابي للأحزاب والجماعات شريطة إعلان مراجعات أو إعلان موقف يتبرأ من العنف والإرهاب.
إلا أن ذلك تعثر، وبالرغم من أن أوغلو قال في جدة، إن تركيا ترغب في مصالحة مع مصر، لكنه أردف أنه “على مصر حل مشكلاتها الداخلية” في إشارة – في الغالب – إلى مصالحة مصرية داخلية بين النظام والإخوان، تسبق المصالحة بين مصر وتركيا.
وعندما فسَّرت بعض الأوساط المصرية والتركية وكذلك العربية، تصريحات أوغلو بأنها تأكيد لهذه التسريبات؛ سارعت الحكومة التركية إلى التأكيد على أن موقف تركيا من مصر ومن النظام المصري لم يتغير.
في الإطار السابق، تبقى هناك ملاحظتَيْن مهمتَيْن في هذا الذي نقول، الأولى، أن تركيا تسعى بالفعل إلى مصالحات إقليمية مهمة، حتى مع “إسرائيل”، تخرجها من عزلتها الراهنة، خصوصًا بعد ارتكاس الأوروبيين على وعود سابقة لأوغلو في مؤتمر بروكسيل الشهير الذي أعقب موجة النزوح السوري غير المسبوقة لأوروبا، وأزمة السوخوي مع روسيا، وتقرر فيه منح تركيا ثلاثة مليارات يورو، وإعادة فتح باب التفاوض أمامها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما عادت ألمانيا وأكدت أنها لا ترغب في رؤية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
أي أن مصر ليست هي الجهة الوحيدة التي هناك بعض التحسس التركي للمصالحة معها في المنطقة، ولكن تبقى مصر – كذلك – حجر عثرة أمام مصالحة تركية إسرائيلية بأي شكل من الأشكال، لأن القاهرة حذرت إسرائيل من أية استعادة للعلاقات بين أنقرة وتل أبيب لمنح تركيا موطئ قدم ونفوذً جديد في قطاع غزة.
فإسرائيل أبدت بعض البوادر الإيجابية تجاه المطالب التركية برفع الحصار عن قطاع غزة، وتشغيل الميناء البحري للقطاع ضمن حزمة مطالب تركية استجابت إسرائيل لبعضها بالفعل، مثل الاعتذار عن حادث الاعتداء على قافلة أسطول الحرية الأول، في نهاية مايو 2010، ودفع تعويضات لأسر الشهداء الأتراك جراء اعتداء البحرية الإسرائيلية في ذلك الحين، على السفينة “مافي مرمرة” التي كانت تقود أسطول النشطاء الدوليين المؤيدين لغزة.
الملاحظة الثانية، أنه يجب التمييز في هذا الصدد بين “ما ترغبه” تركيا و”ما تريده” تركيا في هذا الشأن؛ حيث إن تركيا تريد انفتاحًا على المنطقة، بعد تردٍّ كبير في العلاقات بينها وبين غالبية دولها، باستثناء قطر والمملكة العربية السعودية، ودعمًا لأنقرة في أزماتها الحالية، ولكن قبول تركيا بالشروط التي تفرضها مصر، وكذلك إسرائيل، سوف يكون على حساب ثوابت ومصالح عدة، لو قبلتها تركيا، فإنها سوف تفقد مصداقيتها إلى الأبد في المنطقة.
ومن بين هذه الثوابت، موقف تركيا من ثورات الربيع العربي، والشرعية في مصر، ومن حصار قطاع غزة، كما أن انخراط تركيا في علاقات طبيعية مع مصر وإسرائيل، وهي – أي أنقرة – التي هي بحاجة إلى الغاز الطبيعي بشكل مُلحٍّ؛ يعني أنها سوف تكون ضمن تحالف الغاز الحالي الذي يضم مصر وإسرائيل وقبرص الرومية واليونان، وهو أمرٌ قد يكلف العدالة والتنمية مقعد الحكم في أية انتخابات مقبلة، مع استغلال المعارضة التركية لذلك بشكل جيد للغاية في إعلامها المتربص!
وفي الأخير؛ تبقى أمامنا قضية “التخوفات” التي أعربت عنها الأوساط المصرية المؤيدة للشرعية من أية تحولات في الموقف التركي؛ حيث إنها – هذه التخوفات – تطرح تساؤلاً شديد الأهمية: أليس كان من الأجدى بناء عناصر قوة ذاتية تغني عن أية تحالفات عُرضة لقلبات السياسة؟! المدهش أن ذات الموقف قد حدث عند مجئ الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى سُدة الحكم في الرياض؛ حيث بُنيت الكثير من القصور على الرمال، أطاحت بها أول موجة مصالح عارمة للرياض.