يمثل هذا المقال الجزء الأول من سلسلة تنشر بشكل دوري على نون بوست، ونهدف من هذه السلسلة بالأساس أن نقدم للقارئ والمهتم العربي سرد سلسلة وإن كان موسوعي لمبادئ ومجالات اهتمام علم الاجتماع المختلفة، ونطمح أن تكون هذه السلسلة مرجعًا قصيرًا ووافيًا يستطيع أي مهتم أن يرجع إليه عند مقاربة أي قضية ذات صلة، ونحاول في نهاية كل مقال أن نقدم مجموعة من المواد والمراجع التي يستطيع القارئ أن يرجع إليها في حالة رغبته في التوسع في القراءة عن الموضوع، كما أطلب بشكل شخصي من السادة القراء عدم التردد في التواصل معي بشكل شخصي عبر البريد الإلكتروني في حالة الرغبة في أي سؤال أو نقاش.
أحاول في هذا المقال أن أقدم تلخيص سريع للسياق التاريخي لبداية الدراسات الاجتماعية بشكلها الحديث، والتي يمكن الزعم أنها انتهت اليوم بما نعرفه بعلم الاجتماع الأكاديمي الحالي.
ربما تبدو هذه البداية معادة أو مكررة لأي قارئ مطلع على الموضوع محل النقاش، إلا أن أي حديث عن بداية علم الاجتماع في صورته الحالية لا يمكن معها أن نغفل حدثين ذوي أهمية عظيمة: الثورة الفرنسية والثورة الصناعية.
بداية يجب أن نؤكد أن حديثنا هنا – وتحديدًا عن الثورة الفرنسية – ليس بالأساس عن عملية الغضب الشعبي التي انتهت بتغيير النظام السياسي، وإنما ما تتفرد به الثورة الفرنسية عن أي انتفاضة شعبية سابقة عليها هو أنها ثمرة ومجال تغير اجتماعي وفكري واسعين، فالثورة الفرنسية (وإلى حد ما الثورة الأمريكية السابقة عليها وفقًا للسوسيولوجي العملاق أنتوني غيدنز) تمثل نقطة تاريخية هامة جدًا في ترقيم بداية الخطاب الاجتماعي والسياسي الحداثي الحالي ليومنا هذا.
فرضت الثورة الفرنسية لأول مرة على الواقع السياسي لدولة عظمى رؤية سياسية قوامها الفرد بالأساس، وقيمها المنطوقة هي الحرية والإخاء والمساواة، هذه القيم تمثل حتى يومنا هذا قوام أي خطاب سياسي لأي دولة حقيقية (على المستوى الخطابي وليس التنفيذي بالضرورة) والتي تتبلور فيما نعرفه اليوم بقيم الديموقراطية التي تتشدق بها كافة الأنظمة السياسية بغض النظر عن تنفيذها.
مثلت النقاشات الفلسفية لفلاسفة الثورة الفرنسية على ما بها من تناقضات قوام كل التغيرات التي عصفت بفرنسا ومن بعدها العالم أجمع بعد الثورة الفرنسية.
سبق الثورة الفرنسية قرابة قرن من النقاش الفلسفي المستعر على امتداد غرب أوروبا، شمل هذا النقاش أسماء مثل إيمانويل كانط وجان جاك روسو وفولتيير ومونتسيك، وشملت المواضيع المناقشة كلمات كالمساواة والمواطنة والسلطة والعقد الاجتماعي، بالطبع في مثل هذه المرحلة المبكرة لا يمكن الحديث عن علم اجتماع أو علم سياسة منظم، وإنما كان الحديث جزءًا لا يتجزأ من التراث الفلسفي الأوروبي العظيم الذي تلى العصور الوسطى وبدأ بديكارت.
بينما مرت هذه المفاهيم في فرنسا بفترة الصراع الداخلي كعصر الرعب والإمبراطورية النابوليونية، والتي سمحت بدورها ببلورة صور يمكن تطبيقها عمليًا من الآراء المختلفة كالعقد الاجتماعي (روسو) والفصل بين السلطات (مونتسيك) والمواطنة (هيجل)، كانت بذور الثورة الصناعية قد بدأت في الإنبات في فرنسا وبريطانيا تحديدًا، يحاول البعض حد الثورة الصناعية في كونها البدء في استخدام البخار في تحريك الماكينات، إلا أن الحقيقة أكبر من ذلك بكثير؛ فالثورة الصناعية تمثل مرحلة طويلة من التغيرات الفكرية والاجتماعية الجذرية، يمكن الحديث عن كيف تمثل الثورة الصناعية تغيرًا جذريًا في الطريقة التي رأى بها الإنسان الأوروبي العالم كمجال ضخم جدًا من الممكنات والفرص الاقتصادية والإنتاجية، ويمكن رؤية ذلك بوضوح كبير في تغير الممارسات الاستعمارية للقوى الأوروبية في ذات الوقت من السيطرة على ممرات التجارة البحرية نحو السيطرة على المستعمرات للسيطرة على المواد الخام وخلق أسواق جديدة.
وعلى الصعيد الاجتماعي مثلت الثورة الصناعية التحول الأكبر في التاريخ على الصعيد العمراني بتحول غالبية سكان أوروبا لسكان مدن وعاملي مصانع، مما جلبهم بشكل مباشر إلى الدوائر المدنية المركزية التي طالما احتكرت القرار السياسي، على النقيض من الريف المعزول المعني بقوت يومه، كما أنها مثلت النقطة التي بدأت الطبقات الاجتماعية (وخصيصًا المتدني منها) في إدراك ذاتها كطبقات يختلف توزيع الدخول والثروات بينها. في هذه الفترة تحديدًا أصبحت المدن العملاقة كلندن وباريس واقعًا يمكن الحديث عنه بأرقام مليونية.
يمكن الحديث عن هذه الفترة كأساس الحياة التي نعرفها ونخبرها تاريخيًا بشكل رئيسي، بداية التحول لأول مرة نحو عالم يعيش أغلب سكانه في المدن، عالم أغلب دوله جمهوريات أو ملكيات دستورية، عالم سيطرت عليه أوروبا (ومن بعدها أمريكا) اقتصاديًا وسياسيًا لأكثر من 300 عام، توازى مع هذه التغيرات تسارع معدلات ما نعرفه اليوم بالعولمة، بالتدريج أصبح العالم وحدة شديدة الاتصال والترابط بشكل أكثر سرعة.
يمكن لنا في هذه المرحلة بلا شك أن ندرك ضرورة بزوغ نجم علم يستطيع البشر من خلاله أن يحاولوا إدراك هذه التغيرات شديدة الحدة والسرعة.
يشير أغلب المؤرخين إلى نهاية الثورة الصناعية بالربع الأول من القرن التاسع عشر، المرحلة التي أحكمت فيها أوروبا قبضتها على أغلب مساحة الكرة الأرضية باستثناءات معدودة، والمرحلة التي استقر فيها الإنتاج الصناعي والنظام الرأسمالي ليبدأ مرحلته الجديدة من التوسع والمعروفة بثورة الصلب.
ذات هذه المرحلة هي التي بزغ فيها نجم ثلاثة من العلماء يعتبرون اليوم كآباء علم الاجتماع المعاصر بلا منازع، بدأ ما يعرف اليوم بالعصر الكلاسيكي أو العصر الذهبي لعلم الاجتماع بمساهمات هؤلاء الثلاثة، والتي ينبني عليها إلى حد كبير أكثرية ما ينتج اليوم من مساهمات في علم الاجتماع، لم يعد العالم بعد هؤلاء الثلاثة ما كان عليه أبدًا.
بدأ ايميل دوركايم في دراسة المجتمع كبنية محددة مشدوهًا بارتفاع معدلات الانتحار الجنوني في أوروبا، وانتهى بعمل عمره عن دور المجتمع وأثره في حياة الفرد، مرورًا بدور مؤسسات كالدين والدولة الحديثة على شعور الفرد بالاندماج والاغتراب عن مجتمعه.
تبعه كارل ماركس في شمال ألمانيا ثم بريطانيا متألمًا من البؤس الذي يعيش به العمال العاملين في مصانع كتلك التي ملكها أخواله من البورجوازيين (شركة فيليبس الهولندية العاملة حتى اليوم)؛ بدأ ماركس في دراسة التاريخ والفلسفة ليحاول الوصول إلى الميكانيزم الحاكم لتغيره حتى وصل لصورته الحالية، ثم عكف على عمله الأعظم، (رأس المال) ليحلل القوى الاقتصادية المسؤولة عن تشكيل المجتمع بصورته الحالية والعاملة على إبقاء الأغنياء والفقراء في أماكنهم، ولا يمكن حد أثر عمل ماركس على أحداث بحجم ثورة أكتوبر الشيوعية في روسيا؛ بل تظل عمودًا رئيسيًا لمدارس كبيرة في التحليل الاجتماعي.
تلى الألماني ماكس فيبر ماركس عاملًا على دراسة عمودين آخرين من عواميد الحياة الحديثة، البيروقراطية والدين، إلا أن الفصل بين هذين غير ممكن في حالة فيبر، فبالنسبة إليه كانت الحياة الحديثة كلية لا يمكن تجزأتها قد نتجت من تداخل أثر كل منهما، الحياة الحديثة التي تحكمها العقلية الرشيدة التي تسعى للكسب وخسارة أقل قدر ممكن، وفي سبيل ذلك بدأت بتبني صور من الدين تمكن الأفراد من تقديم النفس على الغير والسعي وراء الكسب (البروتستانتية)، وانتهت بالتخلي عن الدين تمامًا لحساب قيم الكسب والاستهلاك.
نحاول في المقالات القادمة تناول إسهامات كل من هؤلاء بشكل من التفصيل لما لها من أهمية
———————————-
مراجع مقترحة للتوسع
– عصر رأس المال – إريك هوبزباوم (متوافر إلكترونيًا)
– عصر الإمبراطورية – إريك هوبزباوم (متوافر إلكترونيًا)
– علم الاجتماع – أنتوني جيدنز (متوافر إلكترونيًا)
– مقدمة قصيرة جدًا لعلم الاجتماع – أوكسفورد
– Sociological Theory – George Ritzer
البريد الإلكتروني للكاتب: [email protected]