شهدت تونس بعد ثورة الحرية والكرامة، تطورًا كبيرًا وتقدمًا ملحوظًا على المستوى السياسي، في علاقة بتكريس الحريات وتثبيت الديمقراطية، إلا أن هذا الاستحقاق الثوري المتمثل في المنجز السياسي، لم يترجم إلى فعل ثقافي يُثري المسيرة الثقافية للمجتمع وللبلاد.
فالثقافة التونسية ناتجة عن مئات بل آلاف السنين من الحضارة، الخطب الذي يجعلها ثقافة ثرية بالتقاليد والعادات المجتمعية وغنية بالمبادئ والقيم الإنسانية، إضافة إلى كونها تتميز بتعدد الأبعاد الجغرافية وتنوع الاتجاهات التاريخية، لكن هذا الثراء والتميز لا يحجب الضباب الذي كسا سماء الثقافة في تونس من جراء التأخر الحضاري والتخلف الفكري، اللذان انتشرا في صفوف المجتمع – من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية – رغم ما قام به الشعب التونسي من ثورة تعكس أقدارًا محترمة من الوعي والمسؤولية.
وهنا لا بد من التمييز بين ما يُعرف بثقافة البلاد وبين الفعل الثقافي في البلاد، فالمصطلح الأول يدل على المخزون الفكري للمجتمع والموروث الحضاري للبلاد، ويشمل هذا المفهوم كل السلوكيات والعادات والمعتقدات المنتشرة في المجتمع والتي أصبحت ثقافة للبلاد، ليقوم العقل الجمعي بإنتاجها واستهلاكها وفق ما يضبطه الضمير المجتمعي، أما المصطلح الثاني فهو يدل على مدى الاستثمار في هذه الثقافة من خلال الإبداع الفني والأدبي، ليرتحل الحديث من البُعد الثقافي النظري إلى البُعد الثقافي العملي، عبر إنتاج الكتاب والسينما والمسرح والموسيقي، ومن خلال استهلاك المخزون الفكري والموروث الحضاري وترجمت الثقافة إلى فعل ثقافي يعكس مدى وعي المجتمع وتطور البلاد.
وفي الوقت الذي كانت فيه محاولات السيطرة على العالم ترتكز أساسًا على قدم الثقافة ومدى ارتباطها بالتاريخ والجغرافيا، كان لتونس دورًا هامًا وفعالاً من خلال موقعها الإستراتيجي جغرافيًا ومن خلال تعاقب الحضارات عليها تاريخيًا، الأمر الذي جعلها جزءًا من المشهد العالمي بلا إنتاج ثقافي ولا أزمة فعل ثقافي.
باعتبار أن القوى المسيطرة على العالم قديمًا لم تدخل مجال الاستثمار الثقافي وتوظيفه للسيطرة والتأثير وبسط النفوذ، فالمسألة في السابق كانت تحسم بمعزل عن الإنتاج والاستثمار والثقافة، يكفي أن يكون لأي بلد ما عدة وعتاد ليضمن قيادة العالم، ومع تغير آليات التحكم في العالم واكتشاف خطط جديدة قوامها الغزو الفكري والاستلاب الثقافي دخلت تونس في حالة ركود حضاري بدأ مع الاحتلال الفرنسي وانتهى بحكم بن علي، ولم تعد تونس إلى عجلة الإنتاج الحضاري إلا بعد ثورة يناير 2011 والتي لم تنجز بدورها إلى حد هذا اليوم فعلاً ثقافيًا يليق بماضي البلاد والمستقبل الثورة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أمر مهم يتعلق بالركود الحضاري الذي تحدثنا عنه، فبالرغم من أن البلاد كانت تعيش حالة موت غير طبيعي، شهدت عمليات إنعاش ثقافية سواء في زمن الاحتلال من خلال المقاومة الأدبية والفكرية، أو في زمن دولة الاستقلال برئاسة الحبيب بورقيبة التى حاولت رعاية وعناية الثقافة، ولعل أهم مكاسب عمليات الإنعاش الحاصلة، وزارة لثقافة وأعمال فنية وأدبية قليلة وقليلة جدًا.
ويمكن القول أن النخبة التونسية في القرن الماضي قامت بخطوات جدية وفعلية نحو تكريس فعل ثقافي يسعى الى تثبيت ثقافة البلاد، على غرار الطاهر الحداد وعلى الدوعاجي وأبو القاسم الشابي، إلا أن الإشكال اليوم مركب ومعقد بعض الشيء، ويتمحور أساسًا في تطور آليات الفعل الثقافي واتساع الهوة بين الإبداع العالمي والإبداع التونسي، إلى جانب – وهذا الأهم – غربة بعض “النخب المثقفة” على الواقع التونسي وعلى مشاغل واهتمامات المجتمع.
لذلك يجب على كل من يؤمن بالثورة، الثورة التي أعادت تونس إلى السياق الحضاري وأتاحت إمكانية النهوض الفكري أن يعمل جاهدًا على صناعة فعل ثقافي يعتني بالفن والأدب وينتج الكتاب والمسرح والسينما والموسيقي ليصبح هناك “فعل ثقافي يؤثث البلاد وفق ثقافة البلاد”، لتنتهي أزمة غياب الفعل الثقافي وأزمة غربة النخب المثقفة ونذهب بتونس نحو الاستثمار في الفكر والمعرفة أي نحو الإنتاج الحضاري.