“غايوس يوليوس قيصر” الإمبراطور الروماني عندما حاصروه في مجلس الشيوخ وقرروا اغتياله، وأجمعوا على أن يطعنه كل واحد منهم طعنة حتى لا يتحمل واحد منهم فقط حق دمه، تناوبوا على طعنه وهو ثابت لا يتألم إلا كوخز الإبر، وعندما هم صديقه ورفيق دربه – وهناك من قال إنه ابنه -“بروتس” بطعنه نظر إليه الإمبراطور مفزوعًا مغدورًا قائلًا: “حتى أنت يا بروتس”، سجل شكسبير هذه القصة في إحدى مسرحياته وأصبحت من أشهر قصص الغدر والخيانة.
هكذا تعامل بعض من معارضي الانقلاب في مصر ومؤيدي ما يسمي بالشرعية مع تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش ورئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو أثناء زياراتهم الأخيرة إلى السعودية، حيث صرح وزير الخارجية بأن بلاده تريد تطبيع العلاقات مع مصر، وأن السعودية تبذل مجهودات للمصالحة بين مصر وتركيا، بينما صرح رئيس الوزراء بأنه يتمنى أن تكون بلاده صديقة لمصر، وأن تعمل تركيا مع السعودية ومصر في دعم الأمن والاستقرار.
رأى بعضهم أن هذه التصريحات قد تكون بداية تخلي تركيا عن إخوان مصر ومعارضي الانقلاب، وأن تركيا تنفض يدها عن دعم القضية المصرية، وشمت بعض الذين يرون خطأ مسار الإخوان في مقاومة الانقلاب واعتبروا أن أردوغان باعهم واشترى السيسي، وتندر البعض الآخر على مبالغة بعض الإخوان في وصف أردوغان بالخليفة القادم والممثل لنموذج الحكم الإسلامي في العصر الحديث، والحق أن الرجل لم يدع لنفسه بشيء من هذا.
شعر بعض الإخوان بالغدر والقلق على مصيرهم خصوصًا بعض المطاردين الذين استقر بهم المقام في تركيا، أو الطلاب الذين حُرموا من إكمال تعليمهم في مصر بسبب المطاردة ويطمعون في إكمال تعليمهم في تركيا، أو من كانوا يعقدون آمال على تركيا بأن تظل تساعدهم وتدعمهم حتى يتمكنوا من دحر الانقلاب وعودة الرئيس مرسي لرئاسة البلاد.
السياسة والعلاقات الخارجية هي حركة ديناميكية تتغير وتتبدل وتنقلب على حسب مصالح الدول ومكاسبها وخسائرها، وهذا ما لم يفهمه هؤلاء المنزعجون والذين يظنون أنهم مغدورون، دعم تركيا لمعارضي الوضع المصري ليس شيكًا على بياض، وليس على حساب مصالحها ومصالح شعبها، ومن حق تركيا أن تتخلى أو تبعد أو تضع حدودًا لهذا الدعم حسب تقلبات الأوضاع السياسية والإستراتيجية، خصوصًا إذا كنت تدعم طرفًا هو بالأساس لا يريد مساعدة نفسه ولا يريد أن يتقدم للأمام وليس لديه حلول خلاقة أو إستراتيجيات واضحة، بل هو متمترس في مكانه ويهوى دور الضحية.
قبل محاولة البحث والتنقيب عن الأسباب التي قد تجعل تركيا تغير من موقفها الداعم لمعارضي الانقلاب المصري أو على الأقل تضع حدودًا وضوابطًا لهذا الدعم، هناك عدة أمور لا بد أن تؤخذ في الحسبان، حتى لا تغيب بوصلتك وسط فيض التحليلات والدراسات التي تناقش هذا الأمر.
المكان والزمان والقائل
أولًا: الظروف التي قيلت فيها هذه التصريحات الأخيرة ومصدرها ومكانها، فهذه التصريحات صدرت أثناء زيارة وفد وزاري تركي للسعودية يضم بجانب رئيس الوزراء ووزير الخارجية كلًا من رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، ووزير الدفاع عصمت يلماز، والتقى الوفد التركي مع وزير الدفاع السعودي وليّ وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، فالزيارة تحمل في طياتها بُعدًا عسكريًا وإستراتيجيًا مهمًا، خصوصًا بعد تدهور العلاقات السعودية الإيرانية ووصولها لمرحلة حرجة، وكذلك إعلان المملكة السعودية تشكيل حلف ضخم لمقاومة الإرهاب يضم في طياته مصر وتركيا.
السعودية في هذا الحلف الذي تسعي لتفعيله تعمل على جذب الدول الإسلامية السنية ذات البُعد الإستراتيجي والعسكري القوي والمؤثر، وبالطبع تأتي على رأسهم مصر وتركيا وباكستان، لمقاومة حلف آخر تأتي على رأسه إيران ومن خلفها روسيا، لمجابهة التغييرات العسكرية والتبدلات الإستراتيجية في المنطقة، حيث تبرز المشاكل في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وهذا الحلف لن يقوم بدوره ما لم يتم تلطيف الأجواء بين مصر وتركيا وتسعى السعودية بقوة في هذا المجال.
تصريحات كل من وزير الخارجية ورئيس الوزراء جاءت ردًا على أسئلة موجهة لهم من قِبل الصحفيين، ولم تأت بمبادرة منهم، والتصريحات كانت فيها دعوة التقارب والتصالح، مع وجود تلميحات مبطنة بأن هذا الأمر ليس مجانًا بل له مقابل، مع تلميحات بأن الحكومة المصرية هي من يجب أن تبدأ بمبادرات حسن نية من جانبها.
ليست المرة الأولى
ثانيًا: التصريحات والتلميحات التي تصدر من قِبل المسؤولين الأتراك بخصوص العلاقة مع مصر ليست جديدة هذه المرة، بل وسبقتها تلميحات وتصريحات أقوى من تلك الأخيرة، وجاءت من مصادر قوية ومؤثرة داخل الحكومة التركية، فمنذ أكثر من عام عندما حدث صلح وتقارب مصري قطري بضغط من العاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، حدث سيل من هذه التصريحات، كان أبرزها وأقواها في ديسمبر 2014 من نائب رئيس الوزراء وقتها بولنت أرينتش والرجل القوي داخل الحزب الحاكم، حينما صرح بضرورة التقارب مع مصر وتصحيح العلاقة معها، وبهذا أيضًا نصح الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير قطر الحكومة التركية أثناء زيارته لأنقرة في ديسمبر 2014 بأنه لا مفر أمام تركيا من تحسين علاقتها مع مصر ورئيسها عبدالفتاح السيسي.
وكذلك لا يخفى على أحد الرسالة التي أرسلها عبدالله غول رئيس الجمهورية حينها مهنئًا عبدالفتاح السيسي بنجاحه في الانتخابات الرئاسية المصرية، وكذلك انتقاده لتصرف أردوغان وأوغلو في العلاقات المصرية بهذه الطريقة التي يراها تتعارض مع أهداف الدولة التركية وتطلعاتها في المنطقة.
يوضح هذا وجود اختلافات في الرؤى والمواقف بين جناحين داخل الحزب الحاكم التركي في طريقة التعامل مع العلاقات المصرية التركية المتأزمة، فطرف يأتي على رأسه الرئيس أردوغان الذي يتبنى موقفًا حادًا وقطعيًا من الأزمة المصرية، ويرى أن هذا انقلاب عسكري لا يجب السكوت عنه ويجب فضحه في المحافل الدولية، وفضح مهادنة العالم الغربي له والقبول به، وطرف يأتي على رأسه الحكومة التركية ومعها بعض القيادات التاريخية للحزب كالرئيس عبدالله جول وبولنت أرينتش تتبنى فكرة تصفير المشاكل مع المحيط الإقليمي، وضبط زوايا العلاقات مع دول الجوار خصوصًا مع المتغيرات الجديدة والمتسارعة في المنطقة.
حليف ضعيف
ثالثا: ليس من المنطق والعقل أن تطلب من غيرك ليقوم بدورك، ليس من المنطق أن تطلب من الآخرين أن يساعدوك وأنت لا تساعد نفسك ولا يبدو أن لديك النية لتساعد نفسك، هذا هو حال جماعة الإخوان في مصر ومعارضي الانقلاب، يطلبون من تركيا مواصلة الدعم لهم وهم فشلوا في كل المسارات، بل وحتى فشلوا في إدارة الصراع الداخلي فيما بينهم.
الصديق الضعيف قد يكون عقبة في طريق تقدمك إذا أصررت أن تربط تقدمك وخطوتك به، جماعة الإخوان بخلافاتها الحالية الحادة أظنها أصبحت عبئًا على داعميها سواء الطرف القطري أو التركي، فالخلافات الأخيرة التي تأججت بين أجنحة التنظيم تبين مدى الاهتراء والترهل الذي وصل إليه التنظيم، وأكيد أن الدولة التركية ومخابراتها ليست بعيدة عن حيثيات هذا الخلاف، وأنها حاولت رأب الصدع بين الأطراف المختلفة، وإن كنت أظن أنها لا توافق على طريقة تفكير الطرفين المتنافسين على قيادة الجماعة، فلا أعتقد أن مؤسسات الحزب الحاكم التركي البحثية لا ترى خطأ كلا الطرفين وتصوراتهم لحل معضلة الانقلاب.
الخلافات الداخلية لتنظيم الإخوان وضعف الحراك الثوري وعدم قدرته على الإنجاز على الأرض وعدم وضوح الرؤى البديلة لمقاومة الانقلاب، وطريقة تفكير معارضي الانقلاب المتحجرة والتي لا تحاول التفكير خارج الصندوق ومتمسكة بوسائل من أجل الوسائل فقط وليس من أجل تحقيق الأهداف، متمسكة بوسائل لتقول إنها هنا وفقط، كل هذه الأسباب قد تؤدي إلى أن يفكر صانع القرار التركي في تخليه عن هذا الحليف الضعيف أو على الأقل ضبط الدعم المقدم له وتقنينه.
هذه النقاط الثلاثة مهمة للغاية وأنت تناقش أو تقرأ التحليلات التي تتكلم عن العلاقات المصرية التركية وتطورها، لتضاف إليها أسباب أخرى تجعل صانع القرار التركي يعيد تفكيره في علاقاته مع مصر، من أهمها محاولة كسب دعم السعودية المادي والإستراتيجي الذي قد يساهم في دعم الاقتصاد التركي وخطط الحكومة التركية الطموحة في هذا المجال، وكذلك تزويدها بالبترول خصوصًا بعد الأزمة الحالية مع روسيا، ولتكون مؤيد ودافع قوي للخطط التركية في سوريا والتي تستهدف حماية الأمن القومي التركي من خطر النظام السوري وحليفه الكردي حزب الاتحاد الديمقراطي أو خطر تنظيم داعش.