حقًا، “ليس كل ما يلمع ذهبًا” ففي الوقت الذي تزخر فيه البلدان العربية بوفرة في الثروت الطبيعية المختلفة فإن بلدانًا أخرى مثل سويسرا وسنغافورة مثلًا لا تملك ثروات ولكنها تكون في أول المراكز في المؤشرات العالمية للسعادة والحرية والإبداع، فليس لدى سويسرا مناجم ذهب ولا تنبت في تربتها البن من أجل القهوة أو الكاكاو من أجل الشوكولاتة، إلا أنها تحتل المركز العالمي الأول لتنقية وتكرير معدن الذهب؛ حيث تشير التقديرات أن ثلثي كميات الذهب في العالم تعبر ماديًا من خلال سويسرا.
فعلى الرغم من امتلاك البلدان العربية لثروات هائلة كالذهب في السودان والنفط والغاز في الخليج والرخام والغرانيت في اليمن والفوسفات والبوتاسيوم من المغرب إلى العراق أضف إلى ذلك الثروة السمكية والحيوانية والزراعية في أقطار مختلفة من الوطن العربي، إلا أن إتقان استغلال تلك الثروات من قِبل الحكومات العربية لم يكن بدرجة إتقان المصانع السويسرية ذات الحجم الصغير والمتوسطة التي ترتكز على نوعية البضائع وليس الإنتاج بكميات كبيرة.
تعتبر سويسرا من أهم دول العالم الصناعية؛ حيث تعتمد في صناعاتها على معالجة المواد الخام المستوردة وتحويلها إلى منتجات عالية الجودة يتم تصديرها وكي تكون تكلفة المواد والنقل أقل ما يمكن تتخصص هذه الصناعات في إنتاج بضائع بالغة الدقة وعالية الجودة ومرتفعة الثمن قليلة الحجم، فالساعات السويسرية لا تزيد تكلفة المواد على نحو النصف من تكلفة العمل وتصدر 95% من الساعات التي تنتجها لكل أنحاء العالم.
فبدل النفط والغاز والثروات التي نمتلكها في وطننا العربي أوجدت سويسرا الساعة ولوح الشوكولاتة وسبيكة الذهب والقهوة السويسرية، علاوة على الخدمات المالية واللوجستية التي تمتعت بها الكنتونات السويسرية ومكنتها من احتضان شركات كبيرة تعمل في مجال تجارة المواد الأولية وتوفر الآلاف من فرص العمل وتدفع الضرائب للحكومة.
كما يصنع السويسريون منتجات هندسية كالمولدات والمعدات الكهربائية، والآلات الصناعية وأدوات الآلات والأدوات الدقيقة ومعدات النقل والكيميائيات والورق والأطمعة المصنعة بما فيها الأجبان.
انخفاض أسعار النفط أرهق ميزانيات دول عربية تعتمد على إيرادات النفط بشكل كبير، جعلها تدخل في سياسات انكماشية للتخفيض من العجز في الموازنات المالية والتفكير “الآن” بتنويع مصادر الدخل، ومجرد التفكير بنفاذ كمية النفط في باطن الأرض في تلك الدول يعني انعدام أكبر مورد مالي تصرف منه على شعبها.
سياسة الإتقان والابتكار والتجديد في الدول العربية وجدت طريقها في الأبراج العالية والفنادق الفخمة والمنافسة في استقبال سياح أكثر في العقود الماضية، في حين دولة صغيرة مثل سويسرا استغلت هذه القيم لبناء اقتصاد قوي بدون موارد.
سويسرا البلد غير الأوروبي يبلغ عدد سكانه حوالي 7 ونصف مليون نسمة أي أقل من سكان بعض البلدان العربية وتحتوي على أربع لغات قومية رسمية هي الرومانش (ذات الصلة باللاتينية) والألمانية والفرنسية والإيطالية بينما في البلدان العربية اللغة القومية والرسمية هي اللغة العربية إلى جانب اللغة الإنجليزية أو الفرنسية في بلدان أخرى، وتصنف من أأمن البلدان عالميًا ما اكسبها شهرة مالية واسعة النطاق؛ فاحتوت مصارف وبنوك عالمية تتكدس فيها معظم نقود العالم، كما تعد ثالث بلد في مؤشر السعادة لعام 2015، في العام 2013 بلغ الناتج المحلي الإجمالي لسويسرا 685 مليار دولار وصدّرت في ذلك العام 311 مليار واستوردت 248 مليار دولار بناتج ميزان تجاري رابح يبلغ 62.9 مليار دولار.
ما الذي جعل سويسرا تتميز على مستوى العالم رغم انعدام مواردها؟
الابتكار والإتقان في العمل ومواكبة الحداثة والتطور في الأسواق العالمية بنكهة سويسرية جلبت الرواج والشهرة والغنى لعلامة “صنع في سويسرا” حتى أصبحت من أغلى العلامات التجارية في العالم.
فانعدام الموارد لم يثن السويسريون ليكونوا روادًا في مجال التجارة في المواد الأولية حيث تنشط في قطاع المواد الأولية حوالي 40 شركة دولية موزعة بين جنيف ولوزان وتوظف ما يناهز 10 آلاف موظف وتقدر قيمة معاملاتها حوالي 800 مليار دولار تدر ضرائب على الحكومة.
تحتل جنيف المرتبة الأولى في تجارة القهوة والسكر والمنتجات النفطية وبرزت كأكبر مركز دولي لتجارة النفط وتعد إلى جانب لندن أهم مركز دولي في تجارة القطن، ففي تقدير للمدرسة العليا للإدارة بجنيف ذكر أن مدينة جنيف لوحدها تستضيف 40% من التجارة العالمية في مجال المواد الأولية الذي يدر 10% من إجمالي الموارد الضريبية.
ما ساعد سويسرا في نمو وتسريع عجلة التجارة في المواد الأولية هو الأمن والفعالية اللتين تتميز بهما مرافق الخدمات المالية واللوجستية في سويسرا واستقرار الساحة المالية وسرية المعاملات والتسهيلات الائتمانية الضرورية لنقل الشحنات الكبيرة من المواد الأولية من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها، هذه العوامل ساعدت سويسرا في أن تتحول لمنصة رائدة لتداول الذهب على مستوى العالم؛ ففي تقارير صادرة عن الإدارة الفيدرالية للجمارك تبين أن خُمس إجمالي قيمة التجارة الخارجية لسويسرا جاءت للذهب متقدمًا على الأدوية والساعات.
وعلى ذكر الساعات فالساعة الصينية تكلف 2 دولار بينما يبلغ متوسط تكلفة الساعة السويسرية الواحدة 685 دولارًا مع نفس القدرة على عرض الوقت، ومع ذلك لا يتوانى الكثير من أفراد الطبقة المتوسطة من اقتناء الساعات السويسرية لجمالها والإتقان في عملها وطول عمرها، وفي هذا المجال تتصدر ماركات مثل: سواتش ورولكس وكوارتز سوق الساعات السويسرية وعلى الرغم من شدة المنافسة مع الماركات اليابانية والأمريكية إلا أن صناعة الساعات الفاخرة مجالًا سويسريًا بامتياز.
في مجال الذهب تم إيقاف العمل نهائيا في آخر منجم للذهب في سويسرا في عام 1961 بعد استفاذ المناجم من الذهب في بلدتي أستونا وسيستا، ولكن انتهاء الذهب في باطن الأرض لم يمنع هذا البلد الصغير أن يحتل المرتبة الأولى عالميًا في مجال تجارة الذهب مع حصة سوقية تبلغ 15% وفقًا لإحصائيات 2012.
وبحسب البيانات الصادرة من الإدارة الفيدارالية للجمارك في عام 2014 بلغت الواردات من الذهب 3500 طن والصادرات 3900 طن، وهو ما يفوق الكميات الإجمالية المنتجة من الذهب في السنة في جميع أنحاء العالم، والتي لا تتجاوز 2500 طن.
كما توجد في سويسرا أربع من أكبر شركات تكرير الذهب في العالم تكرر ما مجمله ثلثي كميات الذهب في العالم، وقد شهدت هذه التجارة تطورًا هائلًا بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 حيث أصبح الذهب الملاذ الآمن والجذاب للمستثمرين وللصناديق الاستثمارية حول العالم.
من يذهب إلى سويسرا لا يمكن إلا أن يتذوق الشوكولاتة السويسرية الفاخرة التي صنفت في المرتبة الأولى عالميًا من حيث جودة الإنتاج والاستهلاك، حيث تملك شركات رائدة في هذا المجال على مستوى العالم منها كيلار ونستلة ولينت وتوبليرون، والسر في الجودة هو في حليب الأبقار الذي يرعى في سفوح جبال الألب.
إذًا نختم كما بدأنا ليس كل ما يلمع ذهبًا، فالثروات في الوطن العربي لم يُستفد منها لبناء قاعدة صناعية وزراعية وتجارية تحفظ الشباب من البطالة والفقر والفساد المجتمعي وتعدل من الميزان التجاري للدول التي باتت تستورد كل شيء من الخارج حتى بدأت بعض الدول تستورد القمح مع توفر الأراضي الصالحة للزراعة عندها.