عزل الجيش المصري بقيادة وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي الرئيس السابق محمد مرسي من منصبه في الثالث من يوليو عام 2013، وعين بدلًا منه رئيس المحكمة الدستورية العليا آنذاك المستشار عدلي منصور، مستغلًا حالة من السخط الشعبي على حكم جماعة الإخوان المسلمين التي صعدت بمرشحها الرئاسي محمد مرسي إلى سدة الحكم قبل عام من تاريخ انقلاب الجيش عليه.
تزامن مع تحركات الجيش حملات أمنية مكثفة استهدفت قيادات الجماعة وأعضائها من كافة المستويات التنظيمية بالاعتقالات والمحاكمات، فيما ظل أنصار الرئيس المعزول معتصمين في ميداني رابعة العدوية والنهضة مطالبين بعودته وإلغاء كافة الإجراءات التي ترتبت على الانقلاب عليه، حتى قررت السلطات الأمنية التي تولت حكم البلاد في ذلك الوقت فض الاعتصامات بالقوة.
أعقب ذلك تصاعد في وتيرة القمع والعنف تجاه الجماعة وأنصارها من قِبل النظام الجديد الذي قاده في السر وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي من خلف المعين عدلي منصور، حتى صعد إلى سدة الحكم بعد ذلك بشكل علني، حيث قتل المئات من أعضاء الجماعة وأنصارها في العديد من التظاهرات التي خرجت رافضة للانقلاب العسكري، واعتقل عشرات الآلاف منهم على خلفية معارضة النظام، وعلى رأسهم القيادات التنظيمية للجماعة من أعضاء مكتب الإرشاد ومجلس الشورى العام وهيئات الجماعة التنفيذية في كافة المحافظات.
لم تشهد الجماعة ضربات أمنية متتالية كهذه من قبل حتى في أحلك الظروف التي عاشتها الجماعة، حيث اعتقل المرشد العام للجماعة ومعه أبرز قياداتها السياسية، ولم تكتف الأجهزة الأمنية باعتقال الصف الأول في الجماعة وتوجيه تهم لهم متعلقة بالإرهاب، بل طالت المطاردة الصفوف الثانية والثالثة في الجماعة، لا سيما من الشباب الفاعل على الأرض.
اكتظت السجون والمعتقلات وأماكن الاحتجاز في مصر بأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، ويجري البحث حتى الآن عن بقيتهم، حيث اعتمدت استراتيجية الأمن على اعتقال القيادات التنفيذية التي تولت أي مناصب رسمية داخل الدولة أو ترشحت لأي انتخابات عقدت في السنوات الماضية، وهو الأمر الذي أطلق عليه البعض سياسة تجفيف المنابع التنظيمية للجماعة من قِبل الأمن.
أدركت البقية المطاردة من قيادات وأفراد الجماعة بُعيد عملية فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة أن استمرار تواجدهم داخل مصر يُشكل خطرًا على التنظيم، فقرر البعض منهم بتكليفات رسمية وبتصرفات فردية الخروج من البلاد.
لم يكن في الخارج من قيادات الجماعة سوى الدكتور محمود حسين الذي كان يشغل منصب الأمين العام وقتها بجانب نائب المرشد العام الراحل جمعة أمين، واللذين خرجا بتكليف رسمي من مكتب الإرشاد في مصر قبيل تظاهرات 30 من يونيو التي سبقت تحركات الجيش، وذلك تحسبًا لأي طارئ، وهو تصرف اعتادت الجماعة عليه في أوقات الاضطرابات.
كيف خرج أعضاء الجماعة من مصر بعد فض الاعتصامات؟
أخذت مجموعات من أعضاء الجماعة قرار الخروج من مصر بطرق مختلفة، حيث خرجت القيادات الغير مشهورة عن طريق المطارات والموانئ بصورة قانونية قبيل صدور أي قرارات أمنية بمنعهم من السفر، ولجأ البعض الآخر إلى دفع رشاوى لضباط بالمطارات والموانئ لتسهيل عبورهم إلى خارج البلاد.
ومع ازدياد الضغط الأمني والملاحقات وصدور قرارات المنع من السفر وتشديد الرقابة على منافذ المطارات باتت عمليات الخروج بطرق شرعية أشبه بالمستحيل، خاصة في حالات القيادات التنفيذية المعروفة لدى الأمن، مما اضطر الجماعة للبحث عن سبل أخرى لخروج أعضائها.
كانت البدائل المتاحة كلها تصب في خانة التهريب عبر الحدود البرية بداية من حدود مصر الغربية مع ليبيا، والحدود الجنوبية مع دولة السودان، لكن مسألة العبور عبر ليبيا كانت أشد صعوبة من أمر المرور عبر السودان، وقد سجلت حالات ضبط للعديد من عناصر الجماعة أثناء محاولات التسلل عبر الحدود الغربية، لعل أبرز هؤلاء القيادات الداعية صفوت حجازي الذي ألقي القبض عليه قبل مدخل الواحات على الحدود الغربية التي تنشط عليها دوريات الجيش.
السودان نقطة الانطلاق
تشهد الحدود المصرية السودانية الكثير من عمليات التهريب الخاصة بالبضائع والبشر، وهو الأمر الذي سهل لأعضاء الجماعة الخروج من خلاله إلى دولة السودان التي مثلت لأعضاء الجماعة نقطة انطلاق إلى العالم، حيث تمكن المئات من أعضاء الجماعة من المرور عبر هذا الطريق البري بين مصر والسودان ومن ثم توفيق أوضاعهم بالسودان ومنها السفر إلى الخارج.
لذا تشكلت قاعدة من إخوان مصر في السودان عن طريق هذا الممر البري، ورغم محاولات عدة من الأمن المصري لضبط هذا الأمر إلا أنه يمكن القول بأنه نشاط غير مرتبط بالجماعة من الأساس، لأن نشاط التهريب على الحدود المصرية السودانية أعقد من عمليات التهريب البسيطة التي ربما يستفيد منها أعضاء الإخوان فقط للمرور إلى السودان، لكنها موجودة ومستمرة منذ زمن بعيد.
وقد نجحت عدة عمليات أمنية في إحباط محاولات هروب للعديد من أعضاء الجماعة عبر الحدود البرية الجنوبية، أبرزها إحباط محاولة تهريب لنجل الرئيس السابق محمد مرسي، إلا أن النسبة الأكبر من عمليات المرور عبر الحدود نجحت بشكل كبير.
الجانب المصري يتهم السودان بصورة غير مباشرة بدعم أعضاء الإخوان الفارين إليه، إلا أن الموقف الرسمي السوداني ينفي ذلك دائمًا، وقد خرجت بعض وسائل الإعلام المصرية الموالية للنظام لتردد أحاديث متواترة عن دعم النظام السوداني لجماعة الإخوان المسلمين كون النظام الحاكم في السودان ينحدر من خلفية إسلامية.
ولكن ما حقيقة دعم السودان للإخوان المصريين اللاجئين إليها؟
في الحقيقة لجأ الإخوان إلى عدة دول بعد الانقلاب العسكري كانت في مقدمتهم دولتي قطر وتركيا اللتين رفضتا بصورة أو بأخرى تحركات الجيش ضد الجماعة في مصر، ولجأ البعض الآخر إلى السفر لدولة ماليزيا خاصة من فئة الطلاب، وقد كانت السودان نقطة انطلاق الغالبية إلى هذه الدول.
إلا أنه وبحسب قيادي بالجماعة مقيم في السودان يرى أن دولة السودان هي كبرى الدول التي قدمت دعمًا لأعضاء الجماعة الخارجين من مصر، حتى أنه يراها تتقدم في ذلك على دولتي قطر وتركيا ولكن بدون عملية إعلان رسمي حتى لا تقع الجارة الجنوبية في مصر في حرج مع النظام الجديد الوليد في مصر.
إذ يتواجد الإخوان المصريون في السودان بدون عوائق الإقامة الرسمية نظرًا لعدم حاجة المصريين إلى إجراءات الإقامة في السودان بسبب اتفاقية الحقوق الأربعة التي يتمتع بها المصريون، كما تسهل لهم بعض أجهزة الحكومة الرسمية التحرك في السودان بغية العمل والدراسة، فيما تسهل أيضًا الأجهزة الأمنية السودانية عملية توفيق الأوضاع القانونية لأعضاء الجماعة الداخلين إلى السودان بصورة غير شرعية.
هذا الاحتواء من قِبل النظام السوداني لأعضاء الجماعة الفارين من مصر أوجد حساسية بين النظام المصري بقيادة عبدالفتاح السياسي، والنظام السوداني بقيادة عمر البشير المنحدر من خلفية إسلامية وقائد ما يُسمى بالحركة الإسلامية داخل السودان، هذا الأمر الذي أطلق عليه بعض المراقبين بالتوتر المكتوم الذي لم يظهر على شاشات وسائل الإعلام رغم زيارة السيسي إلى السودان أكثر من مرة في الأوانة الأخيرة.
وثيقة مسربة لاجتماع حكومي سوداني توصي بدعم الإخوان
أكدت وثيقة مسربة لاجتماع حكومي سوداني ترأسه الرئيس السوداني المشير عمر حسن البشير بتاريخ الحادي عشر من أكتوبر العام الماضي، قام بنشرها الباحث المتخصص في الشؤون السودانية “إريك ريفز”، تحدثت عن توصيات بمساعدة الإخوان المصريين في السودان وتأمينهم وتوفير فرص الاستثمار لهم.
إذ تتحدث الوثيقة عن اجتماع حكومي لقيادات أمنية وإدارية من المستويات العليا في الدولة السودانية حضره كافة الولاة للمحافظات السودانية، وبدأ بتقرير الولاة عن الأوضاع الأمنية والسياسية للبلاد، وأعقبها البشير بتعليقات على تقارير الولاة، ومن ثم أصدر توصيات وقرارات بشأنها.
كانت أبرز تعليقات البشير في هذا الصدد تتحدث عن نظرة السيسي العدائية إليهم باعتبارهم أعداء له، كما اشتكى والي البحر الأحمر علي أحمد من الاختراق المصري المتكرر للمياه الدولية والتجسس على المواقع الإستراتيجية والقواعد العسكرية السودانية، وعندما تلقي القوات السودانية القبض عليهم تعلل مصر بكونهم صيادين، ولتفادي هذا أشار والي البحر الأحمر أنهم قاموا بترحيل العديد من مخازن الأسلحة لمناطق آمنة.
هذا وكانت القوات السودانية قد ألقت بالفعل القبض على العديد من المصريين في حوادث متفرقة في الشهور الماضية ووجهت إليهم تهم التجسس، ولكن الجانب المصري تدخل لنفي التهمة عنهم بصفتهم صيادين.
وبالعودة إلى موقف الرئيس السوداني من الإخوان المصريين في السودان فقد أكد أن السيسي يتعامل معهم بعدوانية بسبب استضافتهم للإخوان المصريين، وقد ذكر أن العديد من طلاب الجماعة باتوا يدرسون في الجامعات السودانية، واستبعد البشير في تعليقه طرد الإخوان المسلمين من السودان وتسليمهم للسيسي وأمريكا بحسب وصفه في الوثيقة.
ووجه تعليماته للولاة بتقديم المساعدة لهم وتأمينهم وتوفير فرص الاستثمار لهم، مضيفًا أنه لا يمكن إلغاء دور الإسلاميين، متوقعًا أنهم سوف يعودوا إلى السلطة بحسب ما ورد في الوثيقة المسرية التي حملت وصف سري للغاية.
تظهر هذه الوثيقة الموقف السوداني غير المعلن من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، حيث تتمتع الجماعة بعلاقات طيبة بالحركة الإسلامية السودانية والحزب الحاكم، وهو ما ظهر في استضافتهم بعد الانقلاب العسكري، وتسهيل أمور إقامتهم في البلاد.
حيث يدرس العشرات من طلاب الجماعة في مدارس وجامعات السودان الآن، وتمثل السودان معبر للقيادات الإخوانية المصرية إلى الخارج بالتنسيق مع أجهزة الأمن والمخابرات السودانية التي تدخلت في أكثر من حالة تم إلقاء القبض عليها على الحدود المصرية داخل السودان للإفراج عنها، وهو ما يعكس العلاقة القوية بين الطرفين في هذه الآونة، فيما بدأ البعض من رجال أعمال الجماعة في الاستثمار داخل السودان في عدة مشاريع قائمة بالفعل.
بينما تفضل الأجهزة الرسمية السودانية الظهور بموقف أكثر دبلوماسية مع النظام المصري لعدم الدخول في صدام مباشر معه، وكذلك الأمر يفضله الجانب المصري الذي يحاول استمالة الموقف السوداني إلى جانبه في قضية سد النهضة، إلا أن المواقف الداخلية خاصة بين الأجهزة المخابراتية في البلدين تشهد صراعًا غير مسبوق، ولكن بحسب هذه الوثيقة فإنه ليست على أولويات النظام الصراع حاليًا مع السيسي، مع الاستمرار في دعم الإسلاميين القادمين من مصر وتوفير مناطق تمويه لهم داخل السودان.