ترجمة يسرى مرعي
لعل القولبة القصصية للشعوب والثقافات الأخرى ليست بجديدة ولا تقتصر بطبيعة الحال على الغرب، لكن الأمور تصبح أكثر خطورة عندما يتجسد الخيال النمطي بطريقة منهجية “علمية” وباستخدام أجهزة (أدوات) موثوقة من إنتاج المعرفة، فالاستشراق، كما عبر عنه إدوارد سعيد، يمثل شكلًا معروفًا من نمط إنتاج المعرفة، حيث إنه يختار أن يبني صورة شمولية للآخر كموضوع تحيزي ويهمل التمايزات الداخلية، والتداخل أو التبادل بين الشرق والغرب، هنا أريد أن اقترح أن العولمة الحالية قد أضافت أبعادًا جديدة إلى الخيال الاستشراقي بحيث أخذت تميزه عن تعابير القرن 19 والـ 20، فاليوم “الاستشراق الجديد” يبدو أنه أكثر ترسخًا، متعدد الأوجه، ومضر أكثر من سابقه، لقد تحول إلى ما يطلق عليه اليوم “الإسلاموفوبيا”.(1)
الاستشراق
إن فحوى ما يسمى بـ “الاستشراق” بمعنى إدوارد سعيد تتعلق بتمثيل الثقافات والمجتمعات “الأخرى” وتاريخها، وكيف يعكس هذا التمثيل ممارسة السلطة، بهذا المعنى، فالاستشراق يشير إلى الأداة الخطابية التي تنتج المعرفة كأداة للسلطة، كوسيلة لإنشاء أو للإبقاء على السلطة.
ففي استشراق القرن التاسع عشر الكلاسيكي، كان قد جرى تمثيل الشرق (وتركيزي هنا على الشرق الأوسط المسلم) متجانسًا وساكنًا بالأساس، ومجتمع تقليدي وثقافي بشكل جوهري، حينها كان الشرق كيانًا “عجيبًا”، عالم “مختلف” أساسًا عن الغرب، غريب ومؤنث، غير عقلاني وعاطفي، استبدادي وبالأساس أدنى من الغرب، كما كان الإسلام الثابت وغير المتغير المحدد الأساسي لثقافة ومجتمع الشرق، ولترسخه في نفسية الناس، شكّل هذا الإسلام قيم المسلمين وسلوكياتهم اليومية، ضامنًا بذلك تجانسًا ثقافيًا جوهريًا واستمرارية تاريخية مثيرة في كل أرجاء العالم الإسلامي.
فعلى سبيل المثال اقترح جيمس ميل في كتابته عن الهنود أن “لا يوجد أي فكرة عن أي نظام حكم مختلف عن إرادة الشخص الواحد يبدو أنها قد دخلت عقولهم” (2)، وبالنسبة لهيغل فإن “الوعي اللامُفكر به (الأسطوري)”* الشرقي قد أظهر أن أوروبا كانت بشكل مطلق نهاية التاريخ وآسيا هي مجرد البداية (3).
وقد تشكل نموذج المستشرق في جوهره من خلال نظريات القرن التاسع عشر عن التقدم، حيث كان يُنظر للغرب على أنه مركز التقدم الإنساني، بينما أنتج الشرق حضارة عظيمة في الماضي، لكن كان مقدرًا لها أن تنحسر في وقت لاحق، هذا النمط من تمثيل الشرق سوغ بشكل مريح الحكم الكولونيالي الأوروبي لـ “الثقافات الأدنى”. (4)
في هذه المرحلة، كان أنصار الاستشراق عبارة عن أشخاص مثل الرحالة، المفكرين، الروائيين، الفلاسفة والإداريين المستعمرين، وبالرغم من أن بعضهم قد طوّر مشاعر عميقة تجاه الشرق وفتن بغرائبيته، فإن غالبيتهم بقوا جاهلين للتنوع الداخلي ولنسيج المجتمعات الشرقية، فبينما كتبوا عن الشرق، كان عدد قليل منهم قد عرف اللغات المحلية، كما أنهم كانوا يملكون خبرة قليلة أو معدومة في المراقبة الميدانية، فقد لاحظ بيير مارتينو في كتابته عن الاستشراق الفرنسي المبكر “ما خلا بعض الاستثناءات، فهم لم يسافروا أبدًا”(5) إلى الشرق، وبشكل عام الكثيرون “صدقوا كل ما قرأوه”، معتبرين “الكتب الثيولوجية (اللاهوتية) والأطروحات الفلسفية (ك) انعكاس دقيق للحياة الواقعية”(6).
وهكذا، فقد بدا أن هؤلاء المستشرقين الكلاسيكيين قد فهموا حياة المسلمين بشكل واسع من خلال ما قاموا باستقرائه عبر قراءة القرآن، الحديث، وغيرهما من النصوص الدينية.
وقد عمل هؤلاء المستشرقون في وقت كان لا يزال فيه الشرق والغرب بعيدين جدًا من حيث الزمان والمكان، حيث كان الاتصال الرئيسي مقتصرًا على التجارة والسفر، وبشكل رئيسي على المواجهات الكولونيالية، وإلى حد كبير، كان الغرب هو الذي تمدد من خلال توسعه الكولونيالي في الشرق، والذي شكل فيما بعد (الاستشراق بعيد المدى)، مصورًا الشرق ككيان غير متمايز، باردًا و عجيبًا بعض الشيء. ولكن رغم أن الشرقيين كانوا “غريبين”، “عاطفيين”، أو “غير منطقيين” إلا انهم كانوا لا يزالون غير مؤذيين.
الاستشراق الجديد
ولكن يبدو أن الأمور تتحول بشكل كبير، وبالرغم من أن العديد من سمات الاستشراق الكلاسيكي (كالميل إلى المادية، الفهم السطحي، أو المجانسة) استمرت بإمداد روايات الشرق المعاصر، فإن الكثير قد تغير؛ فاليوم يتكون الأنصار في معظمهم من مفكري المؤسسات البحثية، سياسيين، صحفيين، خبراء هوليوود، مبشرين مسيحيين، والبعض منهم في الأوساط الأكاديمية، وهم مشغولون بإنتاج معرفة، بالمقام الأول، عن الشرقيين المسلمين، ليس بشكل جزافي، بل بشكل ممنهج من خلال مؤسسات قوية، مع خبراء مال، وسائل إعلام، وأماكن واسعة لنشر المعلومات، كما أن صور الشرق، المهيمن عليها الآن من قِبل الاسلام والمسلمين، تصل إلى قطاعات واسعة من السكان الغربيين، مشكّلة أفكارهم ورؤيتهم لمنطقة الشرق المسلم، ولم يعد تأثيرهم يمتد إلى اطلاع الرأي العام بل أصبح يصل إلى مجال إستراتيجيات السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وفي هذا الخيال الحالي للمستشرقين الجدد، الشرقيون المسلمون ليسوا فقط محاصرين في تقاليد قديمة، تاريخ متجمد وتصرف أو سلوك غير عقلاني، بل هم بعيدون عن كونهم غريبين أو حميدين، إنهم خطرون، هم تهديدات على القيم الثقافية، النزاهة (السلامة) الحضارية، والرفاهية المادية للغرب.
وعلى عكس القرن التاسع عشر عندما أنشأ الغرب حضورًا في الشرق من خلال التجارة، السفر، والطموح الكولونيالي، نجد أن الشرقيين الآن قد أنشأوا وجودًا في الغرب كمهاجرين، لاجئين، طلاب، أو سياح أغنياء ومستثمرين في العقارات والشركاتـ لقد أصبحوا جزءًا من النسيج الثقافي والاجتماعي للأمم الغربية، ومع ذلك فإن “المواطنين” ينظرون بتوجس لوجودهم هنا معنا، في فنائنا الخلفي، مهددين رفاهيتنا، وفي الواقع، فإن صورة كونهم “مغزيين” من قِبل المسلمين”عاليي الخصوبة” فرضت جاذبية قوية.
إن نظرة خاطفة على النقاش الدائر حول الهجرة الحالية في أوروبا، بما في ذلك جزر مالطة، حيث حضرت مؤخرًا جولة دراسية على قارب هجرة من الجنوب، من شأنها أن تكشف عن مدى الذعر بين السلطات، وسائل الإعلام والنخبة المثقفة، لذلك، وعلى عكس الاستشراق بعيد المدى للقرن التاسع عشر، استشراقنا يبدو أنه عصر من (استشراق السيرك القصير)، خيال حول الشرقيين المسلمين أخذ يتجلى، ليس ببساطة من خلال قراءة رحلات شاردن أو روايات فلوبير، ولكن عن طريق خبرة عملية مفترضة بالعيش معهم، وهكذا، فإن كاتب عمود هولندي يكتب عن “التقليدية”، “التدين العميق”، أو “التصرف غير العصري للمسلمين يستطيع أن يزعم بأننا لا نحتاج للذهاب إلى الشرق الأوسط، لأن نظرة عابرة فقط على الأحياء والشوارع يمكن أن تكشف دقة هذه الأوصاف.
وهذا لافت للنظر، لأن العولمة وحركة الأشخاص ليست مجرد سرد غزوة، أو انفصال ثقافي، هي أيضًا لحظات من التبادل الثقافي والإغناء، وهي فعلًا عناصر أساسية لبناء موطن عالمي، كما أن القرب والتفاعل بين الأشخاص من المفترض أن يولّد (عالم حياة) عالمي حيث الأفراد من مختلف الجماعات الثقافية سيملكون إمكانية تشارك الخبرات المتبادلة، التفاهم، والثقة (ليس فقط عدم الثقة) فيما بينهم؛ ففي دراسة لجيت كلاوسين، بعنوان التحدي الإسلامي: سياسات الدين في أوروبا الغربية، أظهرت أن “المسلمين العلمانيين” في أوروبا “والممثلين من قِبل الآلاف من المتنفذين الفعالين في السياسة، وسائل الإعلام، الأعمال، الدين، ومنظمات المجتمع المدني”، يبدوا وكأنهم اندمجوا تمامًا وبالكامل لأنهم اتصلوا بثقافة الأغلبية، الاقتصاد، والأوضاع الاجتماعية للزمالة، التزاوج وعيش حياة كأي فرد آخر(7).
وقد يتوقع المرء أن أسلوب الحياة لهذه الجماعة قد تشكل فارقَا أو تحمل شمولية ونمطية لصورة المسلمين والإسلام التي تتبناها (القارة) حاليًا، ولكن لا يبدو أن هذا هو الحال، بدلًا من ذلك، فإن هؤلاء المسلمين غالبَا ما يتم تجاهلهم كما لو أنهم لا يعتبرون جزءًا من السكان المسلمين في الغرب، وبشكل دقيق بسبب حياتهم “الطبيعية”، فهم ليسوا أبدًا محل اهتمام وسائل الإعلام، الأهم من ذلك، فهم نادرًا ما يُتخذون كدليل لمساعدة التيار الأوروبي على بناء صورة أكثر تعقيدًا ومتعددة الطبقات عن المسلمين، عوضًا عن ذلك، يتم تكديس جميع المسلمين في صورة إما مجموعات صغيرة جدًا من متطرفين دينيين يصنعون عناوين الأخبار، أو ذاك الجزء من المهاجرين المسلمين التابعين والمسالمين ولكن الذين بخلقهم العامي (السوقي) (حجاباتهم، لحاهم، أو صلواتهم) يبدوا أنهم يزعجون حساسيات الأوروبيين البيض، إنني أشير إلى الجيل الأول من المهاجرين والذين خلال سعيهم بجهد لتكلم اللغات الأوروبية، الاحتفاظ بأعمال منتظمة، وعيش حياة طبيعية، يتوجهون أيضًا لممارسة العديد من جوانب ثقافة موطنهم، الغذاء، الموضة، الطقوس، أو الشعائر الدينية الخاصة.
وفي محاولاتهم من أجل البقاء، النماء، وليكونوا جزءًا من هذه المجتمعات والاقتصادات الأجنبية والمعادية غالبًا، فإن هؤلاء المهاجرين يشعرون بأنهم مضطرون لاستعادة دوائرهم الخاصة المباشرة والعودة إليها، وإلى المجموعات اللغوية والدينية، الشبكات الاقتصادية غير الرسمية، ومجتمعات الأصدقاء والجماعات المبنية في الأحياء أو قاعات الصلاة؛ وبالتالي فالوضع غير المستقر للغاية في الاقتصاد والمجتمع المضيف يجبرهم على الشعور أنهم في الوطن على الهوامش.
إن خيال المستشرقين الجدد يجد في هذا المسلم التابع الدليل المباشر لبناء تحيزه وتوسيع نطاق هذا التحيز ليشمل كامل العالم الإسلامي (وهي الصورة المدعومة من قِبل وسائل الإعلام المهيمنة، هوليوود، والدوائر السياسية، لذلك فإن ربط عنف داعش أو القاعدة مع الإسلام، ومن ثم ربط الإسلام مع مشاهد من النساء المحجبات التي تسير في شوارع أمستردام أو برلين، تستحضر على الفور صورة المسلمين والإسلام كالثقافي الآخر لأوروبا.
وهكذا، و في حين أن العملية الصارمة للعولمة في الواقع قد حولت أوروبا إلى قارة متعددة الإثنيات، فإن التيار الأوروبي ما زال عليه أن يقرّ ويتصالح مع هذا التحول التاريخي؛ ففي الواقع، أوروبا متعددة الإثنيات، تعني أيضًا مواطنين متعددي الأديان، وهذا يعني الاعتراف بواقع الجوامع، المآذن، الحجابات، وحتى البرقع، في الساحات العامة إلى جنب الكنائس، المعابد والكنيس، وسواء أعجبنا ذلك أم لا، فإن مظاهر من الحياة “الشرقية” قد أصبحت من واقع العالم الغربي، وفي يوم من الأيام يمكن أن يتم توطينها كما حدث للمطبخ الجنوب آسيوي في إنجلترا، أو الكريكيت الإنجليزي في الهند.
———————————-
ملاحظة المترجم:
* يعني هيجل هنا: “حتى تلك الشعوب التي تركت مآثر حضارية مدهشة كما في بلاد الرافدين ووادي النيل والهند والصين، لا تعد من هذا المنظور متطورة لأن مآثرها ذاتها تدل على أنها كانت تحتكم لوعي أسطوري لا يفرق بين الزمن والتاريخ ولا يميز الذات البشرية عن أشياء الطبيعة من حولها، بل لا يفكر في الحياة قدر تفكيره في الموت”.
يمكن العودة لمقالة د.معجب الزهراني (هيجل وفلسفة الوعي ب/ في التاريخ) كما اعتمدنا في ترجمة (unreflective consciousness) على كتاب معجم مصطلحات هيغل ترجمة دكتور إمام عبد الفتاح إمام.
المصدر: futureswewant.net
ملاحظات الكاتب:
1) أنا هنا لا أتكلم عن الاستشراق orientalism مع حرف o صغير كمهنة الذين ينتجون المعرفة حول الشرق الأوسط والإسلام، بل أشير إلى الاستشراق Orientalism مع حرف O كبير من حيث مؤسسات إنتاج المعرفة التي تتشابك في ممارسة السلطة على “الآخر” الشرقي، خلاف ذلك، العديد من الأكاديميين الغربيين أو الصحفيين الذين يكتبون حول مجتمعات وثقافات الشرق الأوسط قد يغادرون (ينصرفون) بشكل خطير من أولئك الذين يندرجون تحت الاستشراق Orientalism، بكلمات أخرى ليس كل المستشرقين (حرف O صغير) هم مستشرق (حرف O كبير).
2) A. L. Macfie، Orientalism: A Reader (Edinburgh University Press، 2000)، p. 11.
3) Macfie، Orientalism، ibid. pp. 14-15.
4) أنا ممتنن للبروفيسور كينيث كونو للفت انتباهي لهذه النقطة.
5) Macfie، Orientalism، ibid. p. 28
6) Ibid
7) Jytte Klausen، The Islamic Challenge: Politics of Religion in Western Europe (Oxford University، 2005)