التاسع عشر من يناير 2000 – أحد أنفاق مصارف غروزني
العتمة شديدة للغاية، والبرد كذلك، لا يستطيع إيمانوف الشعور بأطرافه ولا رؤيته، غريب شعوره بالغرق في هذا الظلام، أدرك إيمانوف أن هناك فرق بين شعوره بأطرافه ورؤيته لها؛ ربما لو استطاع أن يراها لأطمئن بعض الشيء، لا يستطيع الشاب العشريني أن يشعر بالوقت في عتمته تلك، يفكر: “ألا يمكن أن أشعل بعض النار لوهلة؛ ربما لن يستطيع الروس رؤية دخانها وسط كل هذا الركام”.
يفتقد إيمانوف النور بشدة، لم يره منذ الهجوم الأخير على الوحدة الروسية شمال المدينة، لا يعلم إيمانوف تحديداً كم مر من الوقت؛ لا يعلم إيمانوف في هذه اللحظة سوى شعور النشوة بعد قتله أربع جنود روس وحده، تسلي الذكريات التي يرى فيها نفسه شجاعًا ومقدماً وقته غير المحسوب.
في حقيقة الأمر؛ لم يكن إيمانوف شجاعاً على الإطلاق، كان يرتعد خوفاً ويتقدم للأمام فقط لمعرفته أنه إن لم يقتل سيقتل، كانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها الفتى الجنود الروس بعدتهم الكاملة عن هذا القرب، لا تختلف هيأتهم عنه كثيرًا، فقط تبدو بزاتهم العسكرية أكثر هندامًا وأكثر عرضة لبقع الدماء.
لا يدرك إيمانوف أن هذا الهجوم كان قبل يومين فقط، ولا أن الجنود العشرين القتلى بالإضافة لجثة الجنرال المقنوص التي تتعفن فوق النفق تمامًا كانا سببًا رئيسيًا في خطة الدمار الشامل التي بدأ الروس في تنفيذها.
الثاني والعشرون من نوفمبر 2006 – مستشفى كلية لندن الجامعي
ألم الرأس المبرح كأنه يستمر منذ بداية التاريخ، أعين أليكسندر ليتفنينكو جافة كالحطب، يستغل الجاسوس الروسي السابق لحظة سكون بين نوبات الصرع المتتالية ليتساءل كيف انتهى به الحال ههنا.
هذا اليوم هو اليوم العشرون لألكسندر في المشفى منذ عصف به الصداع القاتل والإسهال الشديد لأول مرة، فقد جسمه كل شعرة كانت تغطيه منذ أيام بالفعل، كل الأدلة تقول إن ما يموت به ألكسندر مع مرور الوقت هو تسمم إشعاعي حاد، إلا أن غياب الإشعاع من التحاليل هو ما يدعو للحيرة
لا يدور برأس ليتفنينكو ولسانه سوى اسم واحد: فلاديمير بوتين، تدهورت قوى ألكسندر العقلية بما لا يسمح له بتذكر أيام العمل المشتركة بينهما في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، ولا أمر بوتين المباشر باعتقاله بعد فضحه لقضية فساد عملاقة أثناء رئاسة بوتين للجهاز، يحق لألكسندر أن يظن أن بوتين لديه أكثر من دافع لقتله؛ خصوصًا بعد تصريحه بأن جهاز الأمن الفيدرالي تحت رئاسة وزراء بوتين هو من قام بترتيب تفجيرات عام 2000 التي انطلقت من بعدها حرب الانتقام الشنعاء ضد القوات والحكومة الشيشانية المستقلة؛ وأضف على ذلك أن هذه الحرب كان الإنجاز الذي صعد عليه بوتين ليتوج بالرئاسة.
تأتي نوبة الصرع العنيفة في اللحظات التالية، وينتقل ألكسندر لمكان آخر يملأه الألم.
الخامس من فبراير 2000 – الطريق إلى قرية الخانقالاه جنوب غرب غروزني
تختلط الدماء بالتراب بالثلوج، أفقدت الانفجارات مراد سمعه، آخر ما سمعه مراد كان صراخ القائد شامل باسييف أن الروس قد خدعوهم، لا يستطيع مراد سوى أن يسمع الصفير بين أذنيه، يستند مراد على يديه بحثًا عن باسييف الذي أقسم على حمايته بروحه كأحد حرسه الشخصي، يدرك مراد بالتدريج أنه فقد ساقيه الاثنين بخطوة على لغم أرضي، آخر ما يراه مراد قبل أن يفقد وعيه نتيجة النزيف الحاد هو باسييف مفتقدًا لقدم وساق.
استغل الروس اليوم الفاصل بين اعلان فرصة الممر الآمن للمقاتلين الشيشانيين وموعده في تفخيخ الممر بالألغام الأرضية، فخخ الروس الجسر الذي يمر فوق نهر سونزهاه تحديدًا، اليوم التالي؛ كان 2000 مقاتل شيشاني يصحبهم قرابة 500 مدني وخمسين أسير روسي في طريقهم لعبور الجسر، ركزت المدفعية الروسية نيرانها على الجسر مع دوي انفجار أول لغم، أول لغم في الممر الآمن الذي أعلنه الروس بأنفسهم.
الثاني والعشرون من سبتمبر 1999 – مدينة ريازان في غرب روسيا
يدرك ديميتري تمامًا مدى سخافة أن تنتظر مكالمة هاتفية تعلم أنها آتية لا محالة، الانتظار بشكل عام عملية مرهقة، خصيصًا بعد يوم طويل في مهمة حرجة، لم ينم ديميتري منذ الأمس؛ وسرير تلك الزنزانة لا يساعد على النوم بأي شكل، بين الحين والآخر ينشغل بال ديميتري بكيف سيكون رد الإدارة في موسكو على إلقاء القبض عليه؛ إلا أنه يعود لطمأنة نفسه بحقيقة أنه لم يخطئ في شيء؛ وأن إلقاء القبض عليه جاء نتيجة لغباء أحد ضباط الشرطة المحلية.
ينفتح باب الزنزانة على شخص يرتدي بزة أنيقة؛ يدرك ديميتري أن المكالمة قد أجريت، يعتذر الرجل ذو البزة لديميتري بحرارة ويسلمه حقيبته مخبرًا إياه أن طائرة مروحية في انتظاره في قاعدة جوية قريبة، سيتجه ديميتري لموسكو في الحال، تعلن المذيعة على راديو السيارة التي تقل ديميتري إلى القاعدة الجوية أن عملاء جهاز الأمن الفيدرالي الذين تم إلقاء القبض عليهم لزرع قنبلة بمبنى سكني في ريازان كانوا يعملون ضمن خطة تدريبية لمواجهة أخطار التفجيرات التي سبق وهزت موسكو وبويناكسك في الأيام السابقة.
تم استثناء القنبلة التي تم تفكيكها في ريازان من قائمة التفجيرات التي بررت بداية حرب الشيشان الثانية بعد عدة أيام، وذلك لأنها كانت بطبيعة الحال محض تدريب على عكس التفجيرات التي قام بها الإرهابيون الشيشان ولم يكن لجهاز الأمن الفيدرالي أي صلة بها.
السادس من فبراير 2009 – سماء غروزني
الطيران مخيف، هذه هي المرة الأولى التي يطير فيها فرقان، ينظر الشيخ الخمسيني من نافذة طائرة الخطوط الجوية السعودية التي تقله إلى جدة لأداء العمرة، لا يستطيع فرقان أن يميز من وسط الركام الباقي من الحرب سوى مسجد غروزني الكبير، لسبب ما لم يستطيع فرقان أن يرى في عقله سوى الجنود الروس على ظهر الدبابات أمام المسجد؛ تحت العلم الروسي الذي رفع في ذات اليوم قبل تسع سنوات، لم يستطع سوى سماع قرع زجاجات الفودكا احتفالًا بالنصر، يبكي فرقان بحرقة شديدة.
*كافة الشخصيات في المقال عدا شامل باسييف، ألكسندر ليتفنينكو وفلاديمير بوتين من خيال الكاتب، الأحداث على العكس من ذلك كلها حقيقية وتاريخية.