بينما يتدفق رأس المال من الدول المتقدمة على دول أخرى مثل الصين والهند ليستثمر في الإنسان، يتدفق رأس المال من الصين والهند إلى أفريقيا جنوبي الصحراء ليستثمر في الأرض التي تزخر بالموارد والثروات الطبيعية، أما الإنسان في أفريقيا جنوبي الصحراء فيستجدي الغذاء والدواء ممن تربعوا على خزائن أرضه. فأفريقيا جنوبي الصحراء تتصدر العالم في إنتاج الكاكاو والكاسافا وفول البلاذر والقرنفل ونواة النخيل وفول الفانيلا واليام، كذلك تعتبر أفريقيا جنوبي الصحراء منتجا رئيسيا للموز والبن والقطن والفول السوداني والمطاط والسكر والشاي.
ويربي الأفريقيون أكثر من ثلثي جمال العالم وثلث الماعز وسُبع رؤوس الماشية والأغنام في العالم، وتجلب أساطيل الصيد على طول السواحل الأفريقية كميات كبيرة من الانشوقة والماكريل والسردين وسمك التونة وأنواع أخرى من الاسماك. وتحتل المراكز الأولى في كمية الاحتياطات من خامات البوكسيت والكوبالت والماس والفوسفات الصخري والبلاتين والفيرميكوليت والزركونيوم. أيضاً تنتشر مناجم الذهب التي تُعد من الموارد الرئيسية للصناعات التعدينية في أفريقيا جنوبي الصحراء. إلى جانب الثروة النفطية المكتشفة حديثا والتي تقد بـ 75,4 مليار برميل.
في المقابل تتصدر إفريقا جنوبي الصحراء العالم من حيث معدلات الفقر والأمية والإصابة بأمراض الأيدز ولأيبولا. إذ تؤكد تقارير البنك الدولي لعام 2015 أن 388 مليون شخص في أفريقيا يعيشون بأقل من 1,9 دولار في اليوم، وهم يشكلون نحو 43% من سكان أفريقيا جنوبي الصحراء البالغ 900 مليون نسمة، وعدد المصابين بمرض نقص المناعة المكتسب الأيدز في أفريقيا جنوبي الصحراء سنة 2014 بلغ 25,8 مليون انسان أي ما يعادل 70% من إجمالي المصابين بهذا المرض في العالم. ومعدل الأمية في أفريقيا جنوبي الصحراء سنة 2010 بلغ حوالي 40% من إجمالي البالغين.
إن المفارقة ليس بين ماتملكه إفريقا كأرض وما تملكه كشعب. إنما المفارقة هو بين حجم الاستثمار الاجنبي المباشر الذي تدفق إلى هذه القارة منذ ما يزيد عن أربعين عاما ومقدار ما جناه المواطن الأفريقي من هذه الاستثمارات طيلة العقود الأربعة الماضي. فمنذ سنة 1970 حتى سنة 2011 زاد حجم الاستثمار الأجنبي المباشر المتدفق إلى دول أفريقيا جنوبي الصحراء أكثر من 400% ، لكن الناتج المحلي الإجمالي لم يزد إلا 126% . والمفارقة تبدو أوضح عندما تكون المقارنة على صعيد نصيب الفرد الواحد، فمعدل نصيب الفرد من الاستثمار الاجنبي المباشر زاد خلال هذه الفترة بحوالي 300%، بينما معدل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لم يزد إلا 14% فقط.
إن المشكلة ليست في الفقر والمرض والجهل فحسب، كما تروج أدبيات المنظمات الدولية في مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. إنما المشكلة في أن يتحول الفقر والمرض والجهل إلى قيد لافكاك منه لإبقاء المواطن الأفريقي بعيدا عن أرضه وموارده التي باتت تحت هيمنة رأس المال الأجنبي ووصايته. هذه المفارقة يعزوها البعض إلى اعتماد اقتصاديات بلدان أفريقيا جنوبي الصحراء بشكل واسع على تصدير المواد الخام التي تتقلب أسعارها تبعا لطلب السوق العالمي، بينما يرى البعض الآخر أن المشكلة تكمن في ضعف البنى التحتية ورداءتها ما يضعف إمكانيات تصنيع المواد الخام ويبق اقتصاد هذه البلدان رهين طلب البلدان المصنعة على المواد الخام لديها.
كلا الطرحين فيهما جانب من الصواب لكنهما في الوقت ذاته يغفلان العامل الأهم وهو العنصر الإنساني أو ما يعرف برأس المال البشري. فأدبيات النمو الاقتصادي الحديثة والدراسات التطبيقة باتت تؤكد يوما بعد يوم أن من يولد النمو هو رأس المال البشري أكثر مما هو رأس المال المادي. وأن الموارد المادية مهما بلغ حجمها لا تحقق زيادة حقيقة ومستمرة في دخل الفرد بقدر ما تحققه زيادة انتاجية الفرد وقدرته على تحقيق قيمة مضافة للمادة الخام بعد أن تتفاعل مع جهده ومهارته ومعارفه.
إن الانفاق على طرق المواصلات ومد شبكات الماء والكهرباء والاتصالات ليس بالضرورة أن يكون مآله رفع مستوى دخل الفرد في أفريقيا، بقدر ما يعني تحسين الخدمات الاستهلاكية للمواطن الذي بات أمره يهم النخب الحاكمة بوصفه صوتا انتخابيا أكثر مما هو محور التنمية والإصلاح في بلدان هي بأمس الحاجة للتنمية. وربما تخدم هذه البنية التحتية المستثمرين الأجانب أكثر وتسهل لهم جني مزيد من الارباح والعوائد وترفع من حجم تصدير المواد الخام التي تحتاجها البلدان المصنعة.
إن ما يحقق التنمية الحقيقية هو بناء المدارس والمعاهد والجامعات وزيادة الكوادر التعليمية والتدريبية في مختلف المستويات، وإيجاد بيئة محفزة على التعلم واكتساب العلوم والمعارف والمهارات. إن زيادة دخل الفرد تتحقق عندما يجد المستثمر الأجنبي في المواطن الأفريقي وما يملكه من معارف ومهارات فرصة استثمارية يجني من توظيفها عوائد أكثر بكثير مما يجنيه من مجرد تصدير المواد الخام؛ وعندما يصبح تصنيع المواد الخام داخل أفريقيا وتصديرها بتكاليف منخفضة وجودة عالية استثمارا أفضل لتحقيق العوائد والأرباح.
إن الصورة السائدة اليوم عن المواطن الأفريقي هو ذلك الفقير المشرد الأمي المصاب بالآيدز الذي يحمل السلاح في مواجه أبناء بلده. وإن هذه الصورة بقدر ما تؤرق المجتمع الدولي وترهق ميزانيات هذه البلدان، وتزعزع أمن المجتمعات واستقرارها، وتطرد الكفاءات ورؤوس الأموال المحلية إلى الخارج، فإنها تدمر أهم مقوم من مقومات التنمية الاقتصادية وهو الإنسان الذي لم يعد يرى في مستقبله إلا الموت إما جوعا أو مرضا أو قتلا.
إن المقلق في الأمر هو أن ثمة بقعا جغرافية جديدة في عالمنا اليوم باتت تسير في ذات المسار وأن مستقبل شعوب عريقة لم يعد يختلف كثير عن مستقبل الإنسان في أفريقيا جنوبي الصحراء.