لا يكاد يمر أسبوع في مصر إلا وتقرأ في الصحف والمواقع الإخبارية عن حادثة إهمال جسيم بحق قطعة أثرية أو معلم تاريخي مصري يعود عمره إلى آلاف السنين دون أي اكتراث، حافظت عليه أجيال من المصريين ليسقط ضحية إهمال موظف في متحف أو عامل في هيئة ترميم الآثار.
دولة تروج عن نفسها امتلاكها أكبر عدد من القطع الأثرية في العالم ولكنها في الوقت نفسه تتركها فريسة للنهب تارة وللإهمال تارات أخرى، حيث يُقدر عدد القطع الأثرية في مصر ما بين 750 – 800 ألف قطعة أثرية بين المواقع الأثرية والمتاحف والمخازن، عدد المعروض منها للجمهور يُقدر بأقل من 40% من إجمالي هذا العدد.
الميزانية العامة المصرية كانت في السابق تخصص قرابة 15 مليون جنيه للتنقيب عن الآثار، لكن مع مرور الوقت ظل هذا الرقم يتضاءل حتى وصل إلى مليون جنيه فقط في بلد يُفترض أن يعمل على جذب مزيد من السياحة كونها أحد مصادر الدخل القومي، ولكن الواقع يقول إن الوزارة المسؤولة عن هذا القطاع بلغت مديونيتها قرابة 5 مليار جنيه، لتترك الدولة الساحة إلى منقبي الآثار غير الشرعيين الذين يعملون في السر لتهريب تراث بلد بأكمله على مرأى ومسمع من حكوماتها المتعاقبة.
إذا ما فتحنا ملف سرقة الآثار في مصر فإنه حافل بالحوداث لأن عمليات سرقة الآثار في مصر والتنقيب عنها تزايدت في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ خاصة بين الراغبين في الثراء السريع وبين هواة جمع القطع الأثرية التاريخية، إذ تشكلت مجموعات من مافيا تهريب الآثار متخصصة في التنقيب عن الآثار في الأماكن التاريخية وهو ما يُظهر مسألة غياب الرقابة الأمنية على المواقع الأثرية الهامة مع ظهور دلائل على اشتراك بعض أفراد الأمن في هذه العمليات، ناهيك عن مسألة التنقيب العشوائي التي تتم من بعض المواطنيين.
يُقدر خبراء في الآثار وأكاديمون من بينهم أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر الدكتور محمد عبد التواب عدد القطع الأثرية المفقودة بـ 1228 قطعة بالإضافة إلى 200 قطعة من مخزن متحف كلية الآثار، بل يؤكد عبد التواب أن 40% من مخازن الآثار يتم سرقتها بشكل شبه يومي في مصر، كما صرحت، ديبورا ليهر، رئيسة التحالف الدولى لحماية الآثار لجريدة الأهرام الرسمية المصرية، بأن قيمة الآثار المسروقة من مصر منذ يناير 2011 حتى العام الماضي، تتراوح ما بين 3 و6 مليارات دولار، دون أن تحرك الدولة ساكنًا.
وفي الوقت الذي يذكر فيه عملية سرقة الآثار لا يمكن تجاهل توجيه الاتهامات بعد ثورة يناير لوزير الثقافة الأسبق فاروق حسني بالتجارة في الآثار المصرية طوال 25 عامًا من توليه الوزارة، وهو ما يعطي تصورًا عن قيمة هذا التاريخ لدى المسؤولين الحكوميين في مصر الذين لم يرفضوا المشاركة في جريمة بيع التاريخ.
ليست عملية سرقة الآثار وحدها هي المهدد الأساسي للتاريخ المصري ولآثاره عبر الإهمال الحكومي في حمايته وتركه عرضة للنهب والبيع، حيث طل علينا مؤخرًا إهمال حكومي من نوع جديد منذ قرابة 3 سنوات والأخبار تتوالى عن تشويه لقطع أثرية أثناء ترميمها وعن كسر البعض الآخر بلا رقيب.
حوداث تدمير الآثار بأيدٍ مصرية
لا يمكن حصر هذه الحوادث على الإطلاق لكثرتها وبسبب عدم وجود سجل حقيقي بهذه الوقائع لدى الهيئات المسؤولة عن ترميم الآثار المصرية، والتي اكتشف مؤخرًا أنها لا تُحسن التعامل مع المواقع الأثرية ولا القطع المتواجدة بها ما يؤدي إلى تدميرها بأيدي عمالة غير مدربة وموظفين لا يدركون قيمة ما يتعاملون معه.
أشهر هذه الحوادث كانت تشويه القناع الذهبي للملك توت عنخ آمون في المتحف الأشهر في مصر “المتحف المصري” بعد عملية فك وتركيب لذقن القناع من مرممي الآثار بطريقة خاطئة، حيث تعرض القناع لخدوش واضحة للعيان عبر إعادة تركيب قطعة الذقن بطريقة خاطئة عن طريق إلصاقها عبر مادة لاصقة غير مناسبة للآثار لمجرد تثبيتها فحسب، وهو ما أحدث بالغ الضرر للقناع الأشهر في العالم والفريد من نوعه.
مما دفع وزارة الآثار تحويل المسؤولين عن الأمر إلى النيابة العامة، والاستعانة بفريق من الخبراء للوقوف على حالة القناع بعد عملية التشويه هذه.
أسمنت بناء يستخدم لترميم الآثار في مصر
وفي إحدى تجليات الإهمال في الآثار المصرية العام الماضي كشف باحث أثري عن طامة كبرى أخرى وهي استخدام أسمنت أسود “المستخدم في عمليات البناء” في معبد حتشبسوت بعد عمليات ترميم أدت لتشويه حوائطه الأثرية، لأنها تمت بالأسمنت المسلح وقام بها “مبيض محارة”، علي حسب قوله.
وعقب سؤاله لأحد الأثريين عن هذا الأمر أوضح أن هناك مادة من الرمال كان ولا بد أن يتم عمل ترميم للسقف بها بديلاً عن هذا المظهر، ولكن هناك من المنح ما يصرف لهذه المعابد ولكنها لا تصل بسبب السرقات والاختلاسات من جانب هيئة الآثار، وفي النهاية يقوم بهذه المهمة مجموعات من عمال غير متخصصين في ترميم الآثار عملهم الأساسي في “محارة المنازل” لذا ظهرت هذه الصورة.
الأمر لم يكن الأول أو الأخير بعد تدوال نشطاء مطلع هذا العام صورًا لمعبد الكرنك بها نفس الأمر حوائط أثرية معالجة بأسمنت البناء أدى إلى تشويهها تمامًا، كذلك حادثة ترميم معبد “حورس بأدفو” فى أسوان بمادة الأسمنت، ما يكشف مدى الإهمال والجهل فى التعامل مع المعابد الأثرية.
تدمير سور القاهرة التاريخي
هذا هو نفس الأمر الذي تم مع سور القاهرة التاريخي الذي تم تشويهه وهدم أجزاء منه أثناء عملية الترميم التى تنفذها إحدى الشركات منذ شهر يونيو العام الماضى، وقد اكتشف هذا الإهمال أثريون مشرفون على أعمال الترميم، حين كشفوا جهل الشركة التام بأساسيات الترميم، حيث استبدلت أحجار وعناصر أثرية بأخرى حديثة رغم عدم الحاجة لذلك، واستخدامت الشركة مواد أسمنتية تخالف المعايير العالمية للترميم، بالإضافة إلى استخدام معدات ثقيلة فى الترميم تؤثر على سلامة الأثر.
هذه الشركة التي أسند لها الترميم استعانت بمقاولين بناء لا يعرفون عن الآثار شيء، وهو ما نتج عنه إحداث ثقوب وهدم فى أجزاء كبيرة من السور واستخدام أسمنت بالمونة في استبدال الأحجار، وعدم مراعاة المواصفات الفنية في الأحجار الجديدة، ووضع أحجار جديدة محل أخرى أثرية لم تكن في حاجة لاستبدال، مما أدى إلى تلف لعناصر أثرية واستبدال الأحجار الأثرية بشكل خاطئ نظرًا لعدم اعتماد خطة فك واستبدال الأحجار الأثرية.
بالإضافة إلى عدم مراعاة ضوابط العمل داخل الموقع الأثري، مما نتج عنه تسرب للخرسانة إلى السور الأثري والأحجار الأثرية، مما أدى إلى إتلافها، بجانب عدم تشوين الأحجار الأثرية بشكل صحيح، وتسرب المياه من المعدات المستخدمة إلى السور الأثرى وتجمع برك للمياه أعلى منطقة الحفائر الأثرية.
في الوقت الذي ردت الحكومة فيه بإحالة ملف أسوار القاهرة التاريخية إلى وزير الآثار ممدوح الدماطي لاتخاذ ما يلزم من إحالته للنيابة، كما ورد في صحيفة الوطن المصرية.
هدم منازل أثرية في القاهرة القديمة
حيث تهدم منزل المهندس الأثري بالدرب الأحمر، وتأثر منزل “الرزاز” بعد إزالة المبني المجاور له، وبيوت أثرية أخرى لم يتبق منها سوى بعض الأطلال، وكذلك منزل “مدكور” الأثري الذي تعرض أحد مداخله إلى حريق متعمد عام 2011 بغرض هدمه دون النظر إلى القيمة التاريخية التي تُشكلها هذه المنازل، والتي ضاعت بين إهمال وزارة الآثار وفساد المحليات.
معدات لصنع الشاي في مقبرة أثرية
ويستمر مسلسل إهمال الآثار المصرية، بعد نشر نشطاء على موقع التواصل الاجتماعى صورًا صادمة من داخل مقبرة أثرية بمدينة الأقصر تكشف عن تواجد معدات كثيرة لصنع الشاي تتضمن جرادل للمياه وسخان لصنع الشاي، وكثير من الكراتين والمعدات التي من شأنها أن تدمر هذه المقبرة الأثرية.
تدمير قاعدة تمثال الملك سيتي الثاني
ترجع واقعة تدمير قاعدة تمثال الملك سيتي الثاني أحد ملوك الأسرة الـ19 بمعبد الكرنك بالأقصر إلى قيام عدد من العاملين بفك تمثال للملك سيتي الثاني، مما تسبب في تحطم قاعدته الأثرية بدلاً من ترميمها، وذلك بدعوى إعادة تركيبه، وذلك من دون الحصول على الموافقات اللازمة من اللجنة الدائمة للآثار المسؤولة عن اتخاذ تلك القرارات المهمة، مما أدى إلى تركيبه بطريقة خاطئة، وتسبب في تحطم التمثال إلى 3 قطع مع تعرض أجزاء منه للدمار.
آثار مصرية بين الهدم والامتناع عن الترميم
تعاني مناطق أثرية مصرية من تجاهل الهيئات الحكومية المسؤولة عن الآثار رغم حاجاتها إلى ترميم، وهو ما حدث مع مسجد بيبرس الخياط بمنطقة الدرب الأحمر والذي يطالب أهالي المنطقة بترميمه منذ العام 2004.
كذلك ما يعانيه الحمام العثماني بمنطقة آثار قنا من حالة شديدة من الإهمال وحاجة ضرورية لترميمه ولكن كالعادة قوبلت كل النداءات والمطالبات الخاصة بترميمه بالتجاهل الشديد بحجة عدم توافر الاعتمادات المالية الكافية لعملية الترميم.
بالإضافة إلى معاناة مسجد المحمودية والذي أنشئ عام 1567 على يد الوالي العثماني محمود باشا والذي يعاني من الإهمال الشديد، حيث ظهرت الشقوق في مئذنته وبين جدرانه، مما يجعله مهددًا بالانهيار.
وهي نفس مشكلة البناء الأثري خانقاة فرج بن برقوق الذي يعود تاريخه إلى عام 1398 وهو الذي ظهرت الشقوق بجدرانه دون اهتمام من الدولة بإعادة ترميمه.
كما يعاني مسجد المارداني وهو من أقدم الآثار الإسلامية العريقة، والتي تقع بمنطقة الدرب الأحمر، ويعود تاريخ إنشائه لعام 1340، ولا تلتفت الدولة إليه بالرغم من حالته المتهالكة.
هذا بجانب عملية هدم بيوت ومواقع أثرية دون اكتراث من جانب الحكومة حيث شهد عام 2015 هدم منزل الشاعر الكبير أحمد رامي، ذلك المنزل الذي كان شاهدًا على جزء مهم من تاريخ الموسيقي المصرية، بغية تحويل أرضه إلى برج سكني كبير، في غياب تام لمسؤولي حفظ التراث في الدولة.
كذلك هدم مسرح أرض العبد الهلنستية الأثري، والذي يعد أضخم اكتشاف أثري تم بالإسكندرية مؤخرًا، الذي تحول إلى أنقاض بسبب إهمال وزارة الآثار.
بيع الأهرامات بالقطعة
أشار تحقيق مصور عرضه موقع دوت مصر القضية مؤخرًا بعدما أظهر عمليات بيع أحجار الأهرامات بالقطعة، وقد أظهر الفيديو المتداول على شبكات التواصل الاجتماعي، الاتفاق على شراء أحجار من الهرم لإرسالها لأحد الأصدقاء بالخارج.
حيث قام منفذو التحقيق، شخصين وفتاة، بطلب شراء بعض الأحجار من الهرم من شخص عامل في هذا الأمر، فقام باصطحابهم إلى منطقة الهرم الثالث وباع لهم بعض الأحجار المتواجدة حول الهرم مقابل مبلغ مالي قدره 250 جنيهًا.
www.youtube.com/watch?v=Uz1n6RT5DTc
يبدو أن النظام المصري الحالي وحكومته التي جاءت على إثر إشاعات قضت على الرئيس السابق محمد مرسي وتياره الإسلامي ببيع الأهرامات والإساءة للسياحة والآثار دون دليل واضح، جاءوا لتنفيذ الأمر وتحويله إلى حقيقة بإهمال الآثار المصرية في الوقت الذي تلى انقلاب الثالث من يوليو أكثر من أي وقت مضى، لتنفذ بالفعل في عهد الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي عملية بيع قطع من الأهرام على مرأى ومسمع من العالم.
ليثبت التيار المتحدث دائمًا عن التاريخ المصري وعظمة الآثار المصرية أنه يستخدمها فقط للمزايدات السياسية دونما أي مطلب حقيقي لحمايتها أو الاهتمام بها، وهو ما يعني أنه تبنٍ أجوف أثبتته الأيام، حيث لحقت أضرار بالآثار المصرية والتاريخ المصري في قرابة ثلاثة أعوام بعد إزاحة التيار الإسلامي من الحكم ما لم يلحق بهم في عهد الإسلاميين كما كان يروج البعض لحدوثه.