تبدو وكأنها أزمة مُستحكمة! هكذا لسان حال الكثيرين، بعد أن اعترف بها أطرافها، وبعد أن تمادت فوصلت إلى مرحلة القطيعة بين هذه الأطراف، حتى طالت أركان الإطار الواحد.
في عُرف التحليل السياسي، وفي قوانين الاجتماع بشكل عام؛ فإنه من المفترض أن الاعتراف بالأزمة هو البوابة الأولى لعلاجها، إلا أنه قد يكون كذلك علامة موت سريرية، لو طالت الأزمة مكونات داخلية بين فرقاء، على النحو الذي حصل في المجلس الثوري المصري، قبل عدة أيام.
كانت الاستقالة الجماعية لقيادات من المجلس، بالصورة التي تمت وبالحيثيات التي فيها، تشير إلى وجود خلل كبير للغاية في الإدارة المؤسسية للأمور داخل الأطر الثورية التابعة للإخوان المسلمين في الخارج، أو تشكل الجماعة عمودها الفقري.
ولا نبالغ عندما نقول إن أزمة المجلس الثوري المصري، أحد المعالم الأهم لأزمة الإخوان المسلمين، سواء فيما يتعلق بالنواحي السياسية أو بما تعكسه من خلل مؤسسي – كما قلنا – حيث صار الإعلام، ومنذ بداية الأزمة، أداة للصراع والنزاع، وشاهدًا عليها أمام المجموع المصري العام، والحركي الخاص، وهو ما كان دليلاً على وصول الأمور إلى نقطة اللاعودة بين المتنازعين.
ففي عُرف دارسي العلوم السياسية؛ فإن وصول أزمات مؤسسة سياسية ما إلى ساحة الإعلام، يعني أمرًا من اثنين؛ الأول انسداد الأطر المؤسسية المرعية لمناقشة المشكلات والخلافات، وبالتالي، صار الإعلام هو المنفذ الوحيد لأصحاب الحق للتعبير عن مظالمهم، أو للتنبيه إلى مشكلات قائمة على مستوى مؤسسة المعنية، سُدَّت من دونها المسارات التنظيمية الصحيحة، أو أن أحد أطراف الأزمة يعاني من رِيَبٍ عديدة في نواياه، أو كلا الأمرَيْن معًا.
وهذا يحدث منذ بداية الأزمة على مستوى الإخوان المسلمين قبل أن تمتد إلى الأطر الثورية المنبثقة عن مكتب الإخوان الإخوان المصريين في الخارج، وعلى رأسها المجلس الثوري المصري؛ حيث الإعلام هو ساحة النقاش الأساسية، وبالتالي، تزداد الأزمة تعمقًا كلما نشر طرف أو شخص محسوب على هذا الطرف أو ذاك، رأيًا أو ما شابه.
وزاد من وطأة الانقسامات وتعمقها، أن بعض الشخوص داخل المحاور التي نشأت، بدأ في توجيه اتهامات للطرف الآخر، وصل بعضها إلى اتهامات بالعمالة والتربُّح من وراء المواقف.
ولذلك، وعلى خطورة وتأسيسية هذا الأمر؛ كان شرط وقف الحملات الإعلامية، هو أحد أهم ما تطرحه المبادرات التي قدمتها أشخاص وجهات لها وزنها في الحركة الإسلامية، وعلى مستوى العالم العربي والإسلامي، وكان آخرها مبادرة الدكتور يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
المظهر الثاني الذي تقدمه الأزمات المتتالية الأخيرة – حيث لم تعُد أزمةً واحدةً – هو الوجه المؤسسي للموضوع، وهو أمرٌ في منتهى الخطورة والاستثنائية في تاريخ الجماعة؛ حيث لم يحدث سوى مرةً واحدة، في مطلع الخمسينات الماضية، عندما تمرد النظام الخاص، وتحرك بشكل علني ضد قيادة المستشار حسن الهضيبي.
فبالعودة – أولاً – إلى قرارات الاستقالة من المجلس الثوري المصري، فإنه من خلال ظاهر الأمر؛ فإن هناك انتقادات للصيغة التي جاءت بها الاستقالة، بالرغم من وجود أناس على درجة كبيرة من المصداقية والتأثير في قائمة المستقيلين، مثل الدكتور عمرو دراج؛ حيث إن البعض رأى أن الأمر كان يجب أن يخضع لحسابات الصورة الإعلامية أولاً، مهما كانت مسببات الاستقالة، أو الإعلان عن أسباب قوية قاهرة فرضتها بهذه الصورة التي رآها البعض غير موفقة.
نموذج ثانٍ، هو إعلان بعض أطراف الأزمة داخل جماعة الإخوان المسلمين، عن البدء في إجراءات تعديل اللائحة.
فهذا الإعلان أمرٌ خاطئ، ليس لجهة شرعية الإجراء، فقد لا نكون نحن الأدرى باللائحة وماذا تقوله في هذا الصدد، ولكن في ظل الأزمات والانقسامات القائمة بشكل عام؛ لا يمكن الجزم بصحة إجراء من عدمه.
فحتى لو تم تعديل اللائحة؛ ففي ظل الواقع الراهن للجماعة في مصر؛ لن يمكن بالإطلاق فرض أي تعديل أو تعميمه، أو القول بشرعيته، لأن كان هناك تشكيك متبادل في شرعية كل طرف، فكيف سوف يقدم “البعض” على فرض “لائحتهم” الجديدة.
ولذلك، فإنه في التقييم الخارجي لهذه الخطوة، سوف يعني ذلك أن البعض يسعى إلى تأسيس “جماعته” الخاصة، لأن أطر في “الجماعة القديمة” سوف تستمر على اللائحة القديمة، باعتبار عدم شرعية ما سوف تتمخض عنه اللائحة الجديدة، لناحية الأطراف التي أجرتها، ولناحية الإجراءات التي تمت بناءً عليها.
تفاصيل الأزمة منذ البداية إلى النهاية
كيف أثرت الأزمة منذ تفاعلها في صيف العام 2015م على الحراك الثوري المصري؟ هذا التساؤل في حقيقة الأمر هو تساؤل مشروع؛ حيث إنه مصيري، إذ تتضمن الإجابة عنه عددًا من الأمور التي توضح لماذا تراجع الحراك الثوري في مصر.
وهو كذلك تساؤل عادل وواقعي، فالأزمة بدأت في صيف 2015م، وبالمقارنة بين الحراك الذي تم في الذكرى الرابعة لثورة الخامس والعشرين من يناير، في 2015م، وبين ذلك الذي تم في الذكرى الخامسة، هذا العام سوف نكتشف حجم هذا التأثير، في ظل التراجع الكبير للحراك، سواء على مستوى الحجم أو النوعية.
بدأ الخلاف داخل الجماعة على وجه التقريب، بعد عام من الانقلاب في يوليو 2013م، وفض اعتصامَيْ رابعة والنهضة، في أغسطس 2014م.
وتشير أوساط داخل التنظيم في مصر، تحدثت إلى “نون بوست”، إلى أن أول نقاش جاد أبرز وجود خلافات حول أمرَيْن أساسيَّيْن، وهما: الأدوات، والكيفية التي تُدار بها الجماعة، قد ظهر في ديسمبر من العام 2014م، حيث تصاعدت أصوات انتقدت عدم وجود أية رؤية محددة للتعامل مع الموقف من جانب قيادة الجماعة – وكانت لا تزال موحدة في حينه – في ظل أوضاع أمنية وسياسية خانقة.
ولذلك، تم تشكيل خلية أزمة مكونة من ستة أفراد، ثلاثة منهم من مكتب الإرشاد الحالي، والباقون قيادات من مجلس الشورى العام.
وبعد فترة ستة أشهر أخرى، أي في نحو شهر مايو 2015م، لاحظ الدكتور محمد عبد الرحمن، الذي تم تكليفه من جانب الدكتور محمود عزت، باعتبار الأخير نائب المرشد العام، وتم تصعيده كقائم بأعمال المرشد بعد اعتقال الدكتور محمد بديع، بإدارة دولاب عمل الجماعة، وجود بعض الخلل في تعامل بعض الأطراف داخل لجنة الستة، كما سوف نرى.
وبالمناسبة وعلى الهامش، فقد تم خلال هذه المرحلة إلغاء بعض الأقسام النوعية، مثل قسم الأخوات وقسمَيْ البر والدعوة، ودمج المناهج التربوية في منهج واحد، وكان الغرض السعي إلى توحيد الصف مجددًا بعد الخلافات التي تصاعدت في فترة ما بعد الانقلاب وفض رابعة، بين شرائح من الشباب، وبين قيادات الجماعة، حيث حملت دوائر شبابية عدة داخل الإخوان، وحتى خارجها قيادة المرحلة، مسؤولية ما جرى، والدماء التي سالت، بسبب أخطاء في التعامل في المرحلة الانتقالية بعد الثورة، أو في مرحلة ما بعد الانقلاب.
ووفق شهادات الشهود؛ فإنه، وبعد فترة من العمل، بدأت مجموعة من داخل الستة، من بينهم الدكتور حسين إبراهيم، والدكتور محمد كمال، ينفردون بإدارة بعض الأمور داخل الجماعة وتنفيذها من دون الرجوع إلى خلية الأزمة، أي لجنة الستة، وهو ما لاحظه الدكتور محمد عبد الرحمن، ووصلت شكاوى عدة إلى الدكتور محمود عزت بنفس المعنى.
كان الخلاف الرئيسي الذي نشب في تلك المرحلة يتعلق بتوظيف الصف والتمويل في أنشطة لم تعتمدها قيادة الجماعة وفق قواعد الشورى الملزمة بموجب اللائحة، وخصوصًا فيما يتعلق بمشروع تتبناه قيادة الجماعة، وهو مشروع صناعة “الذراع القوية”، وهو تنظيم خاص داخل الإخوان، من المفترض أنه سوف يقوم بعمليات نوعية محددة في مرحلة الحسم مع النظام، بعد مرحلتَيْ الإرباك والإنهاك، وهي المراحل الثلاث التي حددتها الجماعة في أدبياتها التي تلت الانقلاب لإسقاط نظام العسكر واستعادة الشرعية.
كانت قيادات الجماعة، ممثلة في الدكتور محمود عزت والدكتور محمد عبد الرحمن، وكلٍّ من الدكتور محمود حسين، الأمين العام للجماعة، والدكتور محمد وهدان مسؤول قسم التربية، ترى أن هذه المرحلة لم تأتِ بعد وأن الجناح الآخر الذي يمثله الدكتور محمد كمال والدكتور حسين إبراهيم، قد بدأ بالفعل في توظيف بعض الشباب في هذه العمليات النوعية، والتي شملت أنشطة مثل مهاجمة أكمنة الجيش والشرطة والمرافق، وهو ما لم تكن القيادات الأخرى ترغبه، في هذه المرحلة على الأقل، وبالصورة التي تمت؛ حيث سقط فيها قتلى من المواطنين والجيش والشرطة.
كان لهذه الملاحظات التي وصل صداها إلى الجناح الأكثر راديكالية لو صح التعبير، داخل اللجنة القيادية للجماعة، وتضم الدكتور محمد كمال والدكتور حسين إبراهيم ومن معهما، في التكتم على أنشطتهم هذه، وزادت حدة تمسكهم بأدواتهم هذه، بعد مقال الدكتور محمود غزلان الشهير الخاص بالسلمية، الذي نشره عام 2014م.
وبعد كثرة الشكاوى، أخذ الجناح الذي يقوده الدكتور محمود عزت ومعه الدكتور محمد عبد الرحمن، في إدارة الجماعة، سلسلة من القرارات من بينها تصعيد بعض الوجوه من داخل المكاتب الإدارية الأصغر إلى قيادة المناطق.
ولم يتم ذلك بانتخابات، ولكن تم من خلال اختيارات من القيادات والصف، واختارت هذه المجموعات بعض المحسوبين على التيار الراديكالي، وكان ذلك إجراءً لتهدئة الشباب الراغب في تبني نهجًا أكثر حسمًا أو بمعنىً أدق، نهجًا أكثر عنفًا، ضد الدولة.
كما تم تشكيل خلية أزمة من ثلاثة أشخاص، كان من بينهم الدكتور محمد كمال والدكتور حسين إبراهيم، كبادرةٍ لحسن النية من جانب القيادات الأخرى في مكتب الإرشاد، ومنحوا مهلة لمدة ستة أشهر لحسم الملفات الرئيسية، مثل ملف الإعدامات، وتنوير الصف بالمرحلة وبمحتوى المراحل الثلاث: الإرباك والإنهاك والحسم، وبلورة رؤية آنية ومستقبلية للتعامل.
ظلت هذه الخلية لمدة أربعة أشهر تعمل، من دون أية نتيجة وفق القائمين على التنظيم في مصر، وعلى خلاف إرادة عزت وعبد الرحمن، استمرت هذه الخلية في إدارة دولاب الجماعة في إطار أكثر عنفًا، وتوظيف التمويل المخصص لأسر المعتقلين والشهداء إلى تمويل الأنشطة النوعية، مما أدى إلى وقف التمويلات الموجهة إلى هذا البند، والسعي إلى إيصاله إلى هذه الأسر بوسائل أخرى.
ولكن أطراف أخرى، مثل المهندس علي بكساوي والمهندس عاصم شلبي، رئيس اتحاد الناشرين العرب، وأحد أهم رموز اللجنة الإعلامية المركزية في القسم السياسي على مدار سنوات، ذكرت على صفحاتها على موقع “فيس بوك”، أنه قد تم بالفعل وقف التمويل المخصص لهذا البند بشكل كامل، خصوصًا لأهالي المعتقلين “ممن رفضوا بعض التعليمات” من جانب قيادة التنظيم، تتعلق بلملة أشتات التنظيم، وبدء مرحلة من الكمون التنظيمي، وفق بكساوي وشلبي، وغيرهما.
فاقم الأزمة اعتقال وهدان، وتسربت شائعات أنه قد تم إبلاغ مكانه للأمن من جانب ما بات يوصف بـ”الجناح المتشدد” من التنظيم، وهو ما أشاع روحًا سلبية داخل الجماعة في مصر.
بعض المصادر الخاصة ذكرت أن الأزمة أخذت منحاها الظاهر الحالي، بعد أن بدأت بعض الأطراف، مثل محمد منتصر المتحدث الرسمي “السابق والحالي” للجماعة – وهو ليس تناقضًا بقدر ما هو موقف مربك حقًّا، فلدى طرف من أطراف الأزمة، هو سابق، ولدى الطرف الآخر هو المتحدث الحالي – بدأ في تسريب بعض الأخبار لموقع “مصر العربية”، تتعلق باجتماعات لمكتب الإرشاد ومجلس الشورى الدولي، تمت في أنقرة، وذلك في الأشهر الأولى من مطلع 2015م.
وهنا بدأت القيادة القديمة للجماعة في تقييد الإنفاق أكثر، وتشكيل لجنة تحقيق، تم اختيارها بمعرفة عزت وعبد الرحمن، وتم حسم الأمر من خلال سلسلة القرارات الأخيرة التي فجَّرت الأزمة، وأخذتها جهة قد يرى البعض – بالفعل – أنها لا تعبر عن إخوان مصر، وهي المكتب الإداري للإخوان في لندن.
كان من بين هذه القرارات الإعلان عن إقالة أو بمعنى أدق تجميد عضوية الدكتور محمد كمال، من عضوية مكتب الإرشاد، وعزل محمد منتصر كمتحدث رسمي للجماعة، وتعيين طلعت فهمي مكانه، بالإضافة إلى إقالة الدكتور عبد الله عزت، الذي كان يتولى مسؤولية قسم الطلبة، وذلك على خلفية سلسلة من المقالات التي نشرها في العام الماضي، في موقعَيْ “نون بوست”، و”الخليج أونلاين”، اتهم فيها قيادات الجماعة القديمة بالتفريط في الدم، والفساد المالي والإداري.
على الإثر، أعلنت جهة تُعرف بـ”اللجنة الإدارية العليا لجماعة الإخوان”، أنها هي التي تمثل الجماعة، وأنها لم تصدِر أية قرارات بشأن المتحدث الإعلامى للجماعة، وأن محمد منتصر لم يزل هو المتحدث الإعلامى باسم الإخوان المسلمين.
تبعات الأزمة على العمل الثوري في مصر
هنا نأتي في إطار تناول التفاصيل الدقيقة للأزمة، إلى أحد أهم عوامل تأثيرها على الحراك الثوري في مصر، فمن خلال شهادات جمعها كاتب هذا المقال، حيث أدت هذه الإقالات إلى المزيد من الانقسام في داخل التنظيم في مصر، لدرجة أنه قد وصل إلى أن أعلنت مكاتب إدارية في المحافظات عن تأييدها للجناح الذي يمثله محمد منتصر كمتحدث إعلامي مثل مكتب القليوبية ومكتب الإسكندرية وقطاع القاهرة الكبرى، وأخرى.
ثم تعمق أثر الأزمة، فصار في الإسكندرية مكتبان إداريان، أحدهما تابع “للشرعية” بقيادة الدكتور محمود عزت والدكتور محمود حسين، والثاني يتبع الطرف الأكثر راديكالية، ويعبر عنه محمد منتصر إلى الآن كمتحدث إعلامي.
بل وصل الأمر إلى أن رفضت إدارة موقع الجماعة الإعلامي الرسمي، “إخوان أون لاين”، نشر بيانات القيادة القديمة للجماعة، فقامت الأخيرة بتعيين ثلاثي جديد يتحدث باسم الجماعة، وتأسيس موقع جديد باسم “إخوان سايت”.
قاد ذلك إلى ازدواجية بطبيعة الحال في سلسلة الأوامر والتعليمات لدى الصف؛ فلم يعرف الكثير من الأفراد من أين يتلقون التعليمات بالحركة أو الكمون أو من هو الذي من صلاحيته تحريكهم أو تسكينهم، حيث كان ولا يزال المتحدث الرسمي وموقع الجماعة الرسمي، من أهم الواجهات للتلقين داخل الجماعة وتحديد المواقف بالنسبة للصف.
وزاد من وطأة ذلك أن الأزمة طالت أهم عناصر الحركة الرئيسية في الجماعة وفي أي تنظيم حركي مثل الإخوان المسلمين، وهي قسمَا الطلبة والإعلام؛ حيث هما من أكثر الأطر تأثيرًا في الصف، والأكثر إيجابية في الحركة داخل المجتمع، والأكثر دعوة إلى تبني نهج أكثر عنفًا أو راديكالية ضد النظام.
وصل الأمر في شريحة الشباب، إلى أن بعضهم، كما حدث في الإسكندرية وفي الجيزة، شكلوا تشكيلاً ثالثًا، لا يتبع هذا الطرف أو ذاك وبدأوا في عقد جلسات الأُسَر لتدارس مناهج تربوية وقيم دينية بحتة، من دون أي سياسة في الموضوع!
ولقد وضح ذلك تمامًا في أحداث وفاعليات إحياء ذكرى ثورة يناير الأخيرة؛ حيث غابت الفعاليات التي كان الشباب هم أساسها، كما أن العام الدراسي الجامعي الحالي، خلا تمامًا من أية حوادث تتعلق بأنشطة احتجاجية، خلافًا لموسم 2014/ 2015م الجامعي، والذكرى الرابعة للثورة.
مما سبق، يبدو عظيم تأثير الخلاف على الحراك الثوري والاحتجاجات في مصر، خصوصًا وأن تعنت الطرفَيْن، والرفض الضمني من القيادة القديمة لوساطات ومبادرات عدة، بما فيها مبادرة الدكتور القرضاوي، قد أثار الكثير من الرِّيَب حول “قرارات مفروضة” من أطراف خارجية، غير معلومة، سواء في مصر، النظام تحديدًا أو في تركيا، لحسابات سياسية تتعلق بالقيادة التركية ومواقفها، على جناحَيْ الأزمة، وبالتالي فإن كلا الطرفَيْن بات لا يملك قراره، وبالتالي لن يمكن معالجة الأزمة.
هناك عبارة مهمة للغاية تعبر عن الموقف الراهن، ومستقاة من قوانين العمران التي وضعها الله تعالى في كونه وخلقه، وهي أن حقائق وقوانين الواقع، حتميات قائمة؛ متى تجاوزتها؛ فأنت في مأزق، وكلا الطرفين – في حقيقة الأمر – تجاوزها!
فالطرف الذي يدعو إلى صِدَام مبكر مع الدولة في مصر، لا يضع حسابات الواقع الراهن، وأن الجماعة والقوى الأخرى التي تساندها، لا تستطيع بحال الدخول في صدام جديد مع الدولة، سيكون المجتمع هذه المرة جزءًا منه، والشاهد في رابعة والنهضة واضح؛ حيث إن الجماعة وقتها وكان معها تحالف داخلي وإقليمي ودولي قوي، لم تستطع التصدي لصدام مع الدولة، فما هو الحال في واقع الضعف الحالي، وانصراف المصريين – لظروف معقدة لا مجال لمناقشتها في هذا الحيِّز – عن فكرة الثورة؟!
كما أن هذا الذي يطالبون به، يستغله النظام في تصوير الجماعة على أنها “تنظيم إرهابي” في ظل عدم وجود أي إسناد شعبي معتبر للعنف في الوقت الراهن، خلافًا لما جرى يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011م، حيث كان العنف ضد الشرطة ومقار الحزب الوطني، مدعومًا بهبة شعبية عارمة، منحته صفة الثورة، وأسبغت عليه المشروعية الجماهيرية اللازمة.
أما الطرف الآخر الذي يدعو إلى كمون تنظيمي طويل نسبيًّا لامتصاص الصدمة التي جرت في الفترة التي تلت الانقلاب، لم يعمل حسابًا لما في صدور الناس من دخان أسود، يجاهد لكي ينطلق في ظل ما جرى من جرائم، شملت قتل الآلاف، واعتقال وتشريد عشرات الآلاف من إخوانهم وجيرانهم، بل وأهاليهم، وكان واجب وأمانة القيادة عليهم، تحتم أن يأخذوا بعض القرارات الأكثر حزمًا أو على الأقل تعمل على امتصاص هذه الحالة.
بل إنه في الإطار، تم تجاهل أكثر من مبادرة للتصعيد الاحتجاجي في الداخل المصري، طرحتها أوساط مؤيدة للشرعية، وكان هذا التجاهل محل ريبة الكثيرين بالفعل!
وفي الأخير، فإن ما يتم الآن، وآخره صدمة الاستقالات داخل المجلس الثوري المصري، بالصورة التي تم الإعلان عنها، والتي تشير إلى أنه حتى لا يوجد إجماع على مطلب أساسي وهو عودة الشرعية ممثلة في الدكتور محمد مرسي، لا يقول بأن أحدًا قد وعى أي درس من دروس المرحلة الماضية الصعبة المصبوغة بالدماء!