خلال معارك نبل والزهراء، والتي سيطر بها النظام السوري، عبر مليشيا حزب الله ومقاتلي المليشيات الشيعية الأفغان والعراقيين واللبنانيين، وبغطاء جوي روسي كثيف يتبع سياسة “الأرض المحروقة”، على قريتي نبل والزهراء الشيعيتين، أعلنت إحدى تجمعات الثوار الخميس، عن استشهاد 25 من مقاتليها دفعة واحدة، قالت إنهم “خرجوا ولم يعودوا”، لينضموا إلى أكثر من 250 ألف شهيد سبقوهم على يد النظام، ومثلهم من المعتقلين، وملايين النازحين واللاجئين والمهاجرين داخل وخارج سوريا.
هذا العدد الهائل من الخسائر البشرية، ناهيك عن الخسائر المادية، التي قدرها البنك الدولي بخمسة وثلاثين مليار دولار، يطرح سؤالاً – وظاهره محق -: هل كان الأمر يستحق ذلك؟ والجواب: نعم، من كل النواحي، وعلى كل الصعد، فليست الثورة السورية، التي تحولت لحرب شعبية مجرد حدث عابر سيمر في تاريخ السوريين والعرب والمنطقة، لكنه سيكون حدثًا فارقًا له ما له، وعليه ما عليه.
وقبل كل شيء، وقبل أي تفكير مادي ومنطقي؛ ستظل الثورة السورية مساحة التمايز الأخلاقي، إما بالسقوط الأخلاقي، بالوقوف مع القاتل والولوغ في الدم أو مجرد الصمت عنه، أو بكف سكاكينه وصواريخه أو مجرد اتخاذ موقف أخلاقي من القضية؛ بعيدًا عن محاولات الخطاب الإعلامي، عربيًا وغربيًا، تصوير حرب التحرير السورية على أنها حرب أهلية، والمساواة بين القاتل والضحية، بالكم ونوع القتل وبنية الأطراف.
وبأبسط مثال، لا زال النظام السوري – لا تنظيم الدولة، وبطبيعة الحال لا الفصائل المسلحة – مسؤولاً عن مقتل أكثر من 95% من السوريين؛ عدا عن الفرق آلية تشكل الثورة وفصائلها، من مظاهرات مطالبة بالعدالة والكرامة والحرية إلى فصائل تحرر الأرض من المستبد والمحتل والمتطرف، وآلية تشكل النظام القائم على الانقلاب والطائفية والمافيوية.
صراع التاريخ
تمثل الثورة السورية في التاريخ السياسي حالة استثنائية، بكونها أول سؤال مباشر وعملي عن مرحلة “ما بعد الحداثة”، إذ تطرح، وعلى الأرض، سؤال الدولة، إذ جربت في مناطق سوريا كل أنواع الحكم تقريبًا، من الأناركية والحكم الذاتي، إلى الديمقراطية، إلى الحكم بالقوة، إضافة لكونها كشفت زيف ووهم الخطاب الإنسانوي الذي يفترض أنه يميز عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ومن جانب آخر، تطرح الثورة السورية وتكشف هشاشة سؤال الهوية والوطن والقومية، خصوصًا في المنطقة العربية التي كانت دائمًا في مساحة رد الفعل بالعصر الحديث؛ إذ فرضت عليها الدولة الاستعمارية، فكافحتها ما استطاعت، ثم فرضت عليها الدولة القومية، فكافحتها ما استطاعت، ثم فرضت عليها الحروب، فكافحتها ما استطاعت، ليجد السوري أو المصري أو الأردني نفسه معرفًا نفسه ضمن هوية لم يخترها، كما لا يعرف تبعاتها ومساحتها؛ وهو ما أعطته الثورة الخيار الكامل في المناطق المحررة لهذه الأسئلة، التي لا زالت محل خلاف واختلاف.
صراع الجغرافيا
وبالارتباط مع سؤال الهوية، طرحت الثورة السورية سؤال ما بعد سايكس بيكو، والدويلات القومية في المنطقة العربية، إذ إن سوريا – والتي تشهد مع الأسف انقسامًا لا توحيدًا للمنطقة وراء معسكر أخلاقي وسياسي – التي كانت بلدًا واحدًا بالقسر والإجبار، بدأت تتحول لدويلات منقسمة عرقيًا وطائفيًا، فأصبحت عمليًا ما بين دويلة علوية، ومشروع كردي انفصالي، ووهم يدعى دولة الخلافة، وأرض يقاتل عنها أبناؤها كل هؤلاء.
ومن جانب آخر، مقابل هذا التشظي؛ تشهد سوريا تمددًا متجاوزًا للحدود ضمن مشاريع إمبريالية توسعية، لا انقسامية صغيرة، فمقابل المشروع الإيراني الممتد عمليًا عبر بغداد إلى حزب الله، نجد المشروع الكردي الذي يتجاوز الحدود الشرقية ليتصل بكردستان العراق ويسعى للاتصال شمالاً بأكراد تركيا، ووهم داعش العدمي، الذي لا يعترف بالأرض ولا بالإنسان.
صراع الجيوسياسة
وبطبيعة الحال، فليست كل هذه المشاريع منطلقة من مجرد أحلام أو أوهام نظرية وهوياتية محضة، بل هي مرتبطة بمصالح جيوسياسية مباشرة لكل طرف من الأطراف، سواء من ناحية الأرض، خارجًا باكتساب مساحات للعمل والتنظيم، وداخلاً من ناحية النفط والثروات الأخرى، أو من ناحية المواقع الإستراتيجية التي تسعى كل الأطراف للسيطرة عليها في صراع تحول لمعركة عالمية بالوكالة.
فلم يكن لحزب الله أو إيران أو روسيا ألا تتدخل بحال من الأحوال، لأن خسارتها لهيمنتها على الأرض وحليفها السياسي والعسكري كان يعني نهاية مشروعها في المنطقة تلقائيًا، وهو ما دفعها للتدخل بشكل مباشر، وبالمقابل؛ فقد مثلت حالة السيولة والفوضى التي عاشتها سوريا حالة استغلها تنظيم الدولة، الذي قام باسم الدين لأجل الدنيا واستغفل الناس.
وبوجه كل هذه الصراعات التوسعية/ الانقسامية، نجد ثلة لا زالت تقاتل عن هذه الأرض لأنها أرضها، وتدافع عن هؤلاء الناس لأنهم أهلها، وهي بالوقت نفسه، تدافع، بدم أبنائها ودموع أمهاتها، عن ثغر أخير لمشروع الأمة وهويتها، أمام المشروع التوسعي الإيراني، والاستعماري الروسي، والانفصالي الكردي، والفاشي الداعشي؛ وبالتالي، فإن وقوف أصدقائها ودعمها ليس منة منهم أو فضل، بل هو واجب الأمة في معركتها الصفرية، الأخلاقي بحكم الدين والنسب والدم، والسياسي الواقعي الواقف مباشرة على حدودها، في مرحلة سيكتبها التاريخ والجغرافيا والواقع، بالدم والدمع.
المصدر: إيوان 24