نستمر في سلسلة تاريخ الفكر الاقتصادي في العصور الوسطى التي اعتبرها المؤرخون عصر الظلمات في أوروبا وعصر النهضة والازدهار في الدول الإسلامية؛ حيث ازدهرت العلوم والفلسفة وأنجبت العديد من العلماء مثل ابن فارابي وجابر بن حيان وابن الهيثم، ولكن مما لا شك فيه إذا كنا نتحدث عن العلوم الاجتماعية فإن ابن خلدون يمكن الاعتماد عليه بهذا الصدد.
ابن خلدون (1332- 1406)
يعود أصل ابن خلدون لأسرة عربية عريقة تقلب أجداده في قصور الأندلس والمغرب. تقلد ابن خلدون مناصب عديدة في السياسة والقضاء في تونس والمغرب ومصر واشتغل بكتابة مؤلفات في العلوم والسياسة، ويعد أهم أعماله كتاب “العبر وديوان المبتدأ والخبر” إلا أن “مقدمة” هذا الكتاب هي التي ذاع صيتها واشتهرت باسم “مقدمة ابن خلدون” التي احتفظت بين دفتيها حجج علمية وعدت أول دراسة علمية في كيفية دراسة التاريخ على أسس علمية وتحليلية، ولهذا تلقب ابن خلدون بمؤسس علم الاجتماع.
سنحاول استخلاص الأفكار الاقتصادية من المقدمة قدر المستطاع، علمًا أن ما ورد من أفكار اقتصادية في المقدمة هي فيما يفيد دراسته الاجتماعية وتاريخ العرب والبربر.
العمران:
يرى ابن خلدون أن المجتمع هو ظاهرة طبيعية أدى إليها عمران التكافل الاقتصادي وتقسيم العمل الذي احتل عنده مكانًا بارزًا ففي قوله: “إن الفرد من البشر غير مستقل لتحصيل حاجات معاشه إنما البشر متعاونون معًا لذلك” إشارة إلى أهمية تقسيم العمل لأن الفرد وحده لا يستطيع أن يشبع كل حاجاته بمفرده.
وفي إشارة إلى السوق يشير إلى أن ثروة البلد ودرجة تقدمه في العمران يحددان نوع وثمن ما يطلب من السلع وهذا الطلب يؤثر في نشوء الصناعات وتقدمها، وهذا يعتبر إشارة إلى أثر السوق في قيام الصناعات وتطورها، علمًا أن حجم السوق يتحدد بنظر ابن خلدون باعتبارات زيادة عدد السكان وتقسيم العمل.
وقال في أعمار الدولة إن لها أعمارًا كما الأشخاص “إلا أن الدولة في الغالب لا تعدو ثلاثة أجيال” وهذا يدل على دورة المجتمعات بين النمو والانحلال والتي تؤثر في تطور المجتمعات فيقول: “قد تقرر لك فيما سلف أن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في ملكتها والاعتدال في إيالتها إما في الدين إن كان الدعوة دينية أو من المكارمة والمحاسبة التي تقتضيها البداوة الطبيعية للعدل، وإذا كانت الملكة رفيعة محسنة انبسطت آمال الرعايا وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفر وكثر النسل وإن كان ذلك بالتدريج فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين على الأقل وفي انقضاء الجيلين تشرف الدولة على إنهاء عمرها الطبيعي فيكون حينئذٍ العمران في غاية الفور والنماء”.
وبهذا يكون ابن خلدون قد وضع نموذج لتطور المجتمع يقوم فيه السكان بدورٍ هام بحيث يتزايدون مع زيادة العمران إلى أن تنتهي الدولة، وفي هذا تشابه لما جاء به مالتس الذي قال إن الرخاء يؤدي إلى زيادة عدد السكان؛ إلا أن نسبة الزيادة في السكان تفوق نسبة الزيادة في المواد الغذائية ويتحقق التوازن عن طريق نقص عدد السكان عن طريق بعض الأزمات الاقتصادية على حسب وصف مالتس، بينما يختلف ابن خلدون في طرح أن زيادة عدد السكان تفوق زيادة المواد الغذائية وبالتالي إلى نهاية الدولة، فعنده نهاية الدولة تعود إلى أسباب اجتماعية تحل في جسم الدولة وتؤدي إلى تفككها وضعف العمر الإنتاجي فيها من قبيل ضعف العصبية وزيادة الفئات غير المنتجة والإنهماك في الترف والشهوات وضعف الحافز على العمل، يقول: “ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوان البطن من المآكل والملاذ..”.
النشاط الإنتاجي:
أبدى ابن خلدون اهتمامًا فائقًا في العمل “ثم اعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد في التحصيل فلا بد في الرزق من سعي وعمل ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه”، وأشار إلى مصطلح يُعرف الآن بـ “الريع” من خلال أن أساس الكسب هو العمل في أن هناك كسب يتحقق بدون عمل وهو الريع، حيث تنبه ابن خلدون إلى أن بعض الأموال تزيد قيمتها لأسباب لا ترجع إلى العمل إنما فقط لزيادة العمران في المجتمع بصفة عامة، وأردف “أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي”، وقال “اعلم أن كثيرًا من ضعاف العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ويبتغون الكسب من ذلك، إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجود الطبيعية للكسب من التجارة والفلح والصناعة فيطلبونه بالوجوه المنحرفة وعلى غير المجرى الطبيعي من هذا وأمثاله”.
وصنّف كسب الرزق أو المعاش إلى إمارة وتجارة وفلاحة (زراعة) وصناعة وقال إن الإمارة ليست مذهبًا طبيعيًا للمعاش وأما الفلاحة والتجارة والصناعة فهي وجوه طبيعية للمعاش.
كما أشار ابن خلدون إلى ترتيب المجتمعات وفقًا لأساليب الإنتاج وهذا لا يبتعد كثيرًا عما نسميه الآن بنظريات التنمية والتخلف، فوضع ابن خلدون الصناعة في مقدمة الحياة الحضرية ومن ثم الزراعة ثم البدو وهذا يشابه فكر النمو الاقتصادي وتطور الاقتصاد من هيكل اقتصادي متخلف إلى آخر متقدم، بمعنى أن الاقتصاديات الصناعية هي متقدمة والمتخلفة هي الزراعية.
وفي صدد كلامه عن الصناعة خصّص أحد فصول المقدمة “في اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع دون البعض الآخر” حيث تناول قضايا عامة للصناعة وتخصص دول في صناعات محددة إذ إن أساس الصناعة التخصص وتقسيم العمل: “ذلك أنه قد عرفت وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل في تحصيل حاجاته ومعاشه وأنهم متعاونون جميعًا في عمرانهم على ذلك”، وهو بهذا تعرض إلى فكرة حديثة هي التجارة الدولية واختلاف ظروف الإنتاج بين بلد وآخر”.
ميّز ابن خدلون بين السلع الأساسية والسلع الكمالية وحذر من الاحتكار وأشار إلى التعليم والتدريب في نشر الصناعة “في أن الصناعة لا بد لها من معلم”، وفي النمو الاقتصادي تحدث عن الطلب الفعال في انتعاش الصناعة والأعمال وهي نقطة أشار إليها كينز “في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها”، وأشار أنه يجب الاهتمام بما هو قائم من مؤسسات ونظم قانونية وقضائية بتقاليد راسخة، وفرق بين السلع الضرورية مثل الحنظل وبين السلع الكمالية مثل المراكب فلاحظ أن أسعار السلع الضرورية تميل إلى الانخفاض في الأسواق الكبيرة في حين تميل أسعار السلع الكمالية إلى الارتفاع، وفي تحليله لسلوك المستهلكين اقترب كثيرًا من أفكار دوزنبري في القرن العشرين فما يعرف باسم أثر التقليد أو المحاكاة حيث يقتدي العامة بسلوك الخاصة، أفرد فصلاً عنه “أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه وأكله وسائر أحواله وعوائده والسبب في ذلك أن النفس أبدًا تفتقد الكمال فيمن عرفته وأعادته إليه”.
المالية العامة:
تعد أهم أفكار ابن خلدون وأكثرها صلة بالاقتصاد الحديث في فصل “في الجباية وسبب نقصها” يقول: “إن الجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة وآخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة” الوزائع يعني بها الضرائب ويقصد بهذا أنه حينما تقل الضرائب على الأفراد فإن هذا يكون حافزًا لهم على العمل والإنتاج وبذلك يزيد الناتج القومي وتزيد الحصيلة، وهنا أفكار طرحها العديد من الاقتصاديين فيما يعرف باسم “نظرية العرض” التي اعتمدت على خفض أسعار الضرائب لحفز الأفراد والمشروعات على الاستثمار والإنتاج، يقول ابن خلدون: “إن أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنشط النفوس ليقينها بإدراك المنفعة فيه”.
في المقالة القادمة نكمل أفكار ابن خلدون الاقتصادية عن نظام الضرائب الناجح والظلم وفي أساس السلوك الاقتصادي وعن دور الدولة والموظف العام.