بنيامين في رابعة.. الاعتصام يفض بقرار من النيابة العامة

لا يعلم الفيلسوف الألماني الأربعيني كيف انتهى الحال به في القاهرة، آخر ما يذكره هو قيامه بالانتحار على الحدود الإسبانية منذ قرابة 76 عامًا، ما يعلمه تحديدًا هو أن انتحاره هربًا من القوات النازية لم يكن ذا داع؛ إذ إنهم لم يكونوا ليصلوا إليه في الوقت المناسب.
تثير القاهرة في نفسه كل أنواع الرعب والتساؤلات، لم ير في طول طفولته البرلينية أو منفاه الباريسي هذا العدد من الناس في الشوارع أبدًا، يتساءل كيف يمكن لباريس عاصمة القرن العشرين أن تكون أكثر هدوءًا من هذه المدينة، وبطبيعة الحال يحاول بلا نجاح يذكر أن يستخرج نوع من المنطق في تصميم شوارع المدينة ومبانيها.
بالتدريج يدرك بنيامين أنه يشارك الجسد الذي يتحرك فيه مع شاب مصري عشريني، يشارك هذا الشاب بنيامين في الكثير من الأشياء من ضمنها وربما أكبرها هو المنفى والسفر، إلا أن هذا الشاب كان أكثر حظًا – وربما لا – من بنيامين في قدرته على العودة بين الحين والآخر.
يفاجأ بنيامين كل فترة من الزمن بمشاهد وأصوات تهاجمه عبر وعي الشاب الذي يستضيفه، في بداية الأمر لم يستطع التعرف على سياق يفسر هذه المشاهد التي تغلب عليها الدموية والأصوات العالية، إلا أن قضاءه وقت أكبر في هذا الجسد سمح له بالتعرف تدريجيًا على هذه السياقات، تعرف عليها بملاحظة نمط الحوادث التي تستدعي هذه المشاهد من وعي مضيفه لتغزو وعيه، مثل تلك اللحظات الصامتة من الانتظار في المواصلات العامة، شذرات الحديث السياسي التي تنساب إلى الأذن بشكل ما، وقبل كل شيء، ذاك التقاطع المروري شديد الضخامة وسيء التصميم الذي يمر به مضيفه كل يوم في طريقه.
مع مرور الوقت استطاع بنيامين تجميع ما يكفي من المعلومات عن مذبحة جرت في هذا المكان، وتراكمت الصور والأصوات لتصبح سياقًا يمكن فهمه، كانت أوضح معالم هذا السياق صوتًا كثيرًا ما اجتاح كيان مضيفه الشاب في لحظات نومه، يقول الصوت في رتابة شديدة تثير في النفس الخوف: “الاعتصام يتم فضه بقرار من النيابة العامة”، في البداية استغرب بنيامين فهمه لكلمات اللغة العربية الغريبة عليه، إلا أنه اكتشف أنه يشارك مضيفه فيما هو أكثر من الجسد بكثير.
استطاع بنيامين أن يبدأ في إدراك موقعه من هذا السياق الغريب في لحظة بدأ فيها مضيفه في قراءة نص كتبه بنيامين منذ 90 عامًا، أدرك أن حضوره في وعي وجسد هذا الفتى لم يكن محض غرابة، وإنما نتيجة لدراسة هذا الشاب لكتابته بشكل شديد التركيز، ونتيجة لاطلاعه على تفاصيل حياة بنيامين بفضول نهم.
شعر الفتى بصلة غير مفهومة بالفيلسوف الميت، صلة باغترابه وتيهه، صلة بنظراته الثقابة والتائهة، صلة بغرامه وكراهيته للمدينة، وإدراكه لذاته كجزء لا يتجزء منها على غربته فيها.
كان النص الذي بدأ الفتى في محاولة فك رموزه هو “نقد العنف”، أحد أول منشورات بنيامين على الإطلاق وربما أكثرها تعقيدًا على الإطلاق، وبينما عانى الشاب في محاولة فهم المكتوب، بدأ بنيامين يصرخ في مؤخرة رأسه: “ليس هذا ما أعنيه، بل ذاك وتلك”، إلا أنه أدرك تدريجيًا أنه وحده يستطيع سماع ما يدور في رأس الفتى، بينما لا يدرك مضيفه وجوده من الأساس، وبالتدريج، بدأ بنيامين في الإصغاء لأفكار الفتى وما استحضرته من صور حاول تطبيق النظرية المكتوبة عليها، هاله ما سمع رأى.
“ما كل هذه الدماء؟”، “ما كل هذا الخوف؟”، بدأ بنيامين في إعادة النظر على ما كتبه في مقاله المعقد، كانت تساؤلات بنيامين في المقال تهدف للتفرقة بين عنف يصنع القانون وعنف يدعم وينفذ القانون، كان حديثه عن أن هذه التفرقة تكشف الطبيعة البربرية لاستخدام العنف، وأن العنف في جوهره لا يلقي بالًا للقانون، وأنه لا ينتمي لنفس العالم الذي تنتمي له العدالة، فلحظة استخدام العنف دفاعًا عن القانون أو لخلقه هي اللحظة التي ينتهي فيها القانون في حد ذاته.
إلا أن تتالي الصور من المذبحة التي حدثت في ذاك الميدان على رأس بنيامين دعاه للتفكير مرة أخرى، الاعتصام يفض بقرار من النيابة العامة، إلا أن هذه النيابة العامة قد قررت هذا خارج القانون، هل هذا عنف يهدف لصناعة قانون أم لحمايته؟ هل يمكن الحديث عن قانون في مشهد لا يحكمه سوى الجنون؟
أرهق بنيامين بمرور الوقت من نوم مضيفه شديد السوء، لا يستطيع أن يفكر، لا يستطيع التركيز، تغلي الدماء في عقل مضيفه ببطء شديد، لا يدرك الفتى أن هذا يحدث، يركب طائرة تنقله إلى دولة أخرى، إلا أن صور التقاطع لا تنقطع، “كيف يمكن لهذا الفتى أن يبارح المكان ويبقى به في ذات الوقت؟ مين أين تأتي رائحة الدماء وصوت إطلاق النار؟”، يقرأ الفتى في تنقلاته مذكرات طفولة بنيامين مرة أخرى، ربما هي العاشرة أو أكثر، تختلط طفولة بنيامين الهادئة برائحة الدماء، لا يطيق بنيامين هذا الأمر، إلا أن أفكار الفتى الخاصة كافية بشكل ما لتسلية بنيامين، إنه يفكر الآن في مفهوم برلين عن التاريخ، يصوغه في صورة بلاغية غريبة، يرى الفتى بنيامين على رأس سفينة، تحمل السفينة أجساد الكثير من الموتى، موتى من الحربين العالميتين وموتى قضوا في رابعة والإسكندرية على حد سواء، تبحر السفينة بثقة نحو المستقبل.
“لماذا قد يحمل أي أحد الموتى نحو المستقبل؟”، تساءل بنيامين، ويبدو أن تساؤله قد وصل للفتى بطريقة أو أخرى، يجيب الفتى بثقة وحزم: “لأن مبارحة الواقع مستحيلة، والواقع تصبغه حمرة الدماء، والدماء تسري من منبع في الماضي، منبع لا أستطيع أن أرفع عيني عنه في مسيري للأمام، فأحمله بجثثه على كتفي وكتفك، نحو مستقبل لا أستطيع رؤيته بمؤخرة رأسي”.