بعد تسرب السلطة بيد المليشيات الشيعية في العراق على إثر التغيير الذي حصل بعد 2003م وتفكيك الأجهزة الأمنية وحل الجيش والذي لم يكن مبررًا أبدًا، ملأت تلك المليشيات فراغ السلطة فورًا بعد تحضيرات في إيران، إلا أنه ومن غير المعقول على من يَطمح بناء الدولة العراقية الجديدة أن يُشكل أجنحة مليشياوية حزبية طائفية، يُقدر تعدادها بالآلاف لحماية المقدسات على حد تبريرهم، علمًا أن تلك المقدسات لم تكن تتعرض للخطر أساسًا، فما هو الهدف المفترض الذي شُكلت من أجله المليشيات؟ وهل هناك عدو حقًا؟
ولو افترضنا جدلاً أن هناك عدو مُحتمل لتلك المقدسات بغض النظر عمن هو ذلك العدو، ألا ينبغي أن تُحل تلك المليشيات بعد تشكيل القوات الأمنية العراقية بعد 2005م بإقرار الدستور وإجراء انتخابات فازت الأحزاب الشيعية ومليشياتها بأغلبية مقاعدها؟ لماذا بقيت تحمل السلاح وتَعمل جنبًا إلى جنب مع القوات الأمنية والجيش العراقي والتي تعج تلك المؤسسات الحساسة بتلك العناصر المليشياوية ذات الولاءات غير الوطنية، أليس الهدف والطموح كان بناء دولة أم ماذا؟
إن أحد الأهداف وراء تلك المليشيات بالسماح لها بالعمل، هو تفكيك الدولة والمجتمع بالطائفية ومن خلال الدفع بها لإبراز هوياتها الفرعية غير الوطنية السنة والشيعة والأكراد، وإرجاع المجتمع العراقي على عوامله الأولية، تكونت أرضية ما قبل الدولة في المجتمع العراقي، وبإدارة إيران للمليشيات الشيعية واستخدامهم كأوراق فاعلة لخلق عدم الاستقرار والفوضى؛ تمايز المجتمع طائفيًا وعرقيًا خاصة أثناء المفاوضات النووية، إضافة إلى التغيير الديمغرافي والاستيلاء على المناطق النفطية أو الإستراتيجية كالمناطق المتداخلة السنية الشيعية والمناطق المهمة والقريبة من الحدود كالنخيب في الأنبار ومناطق متعددة في ديالى، لعلمها بمستقبل العراق الفيدرالي.
أما سوريا المتحالفة مع إيران فهي الأخرى كانت تدير المناطق السنية بالقاعدة والجماعات المتطرفة وبعض البعثيين السابقين لجعل التطرف الطائفي هو السائد بدل الوطنية والمشاريع الجامعة للعراقيين، إن ذلك كله كان بعلم الولايات المتحدة التي أرادت معاقبة العرب السنة الذين حملوا السلاح ورفعوا شعار المقاومة ضد المحتل وأجبروها على الانسحاب من العراق.
إلا أن أحد الأهداف الأمريكية وراء السماح لإيران وسوريا تفعلان بالعراق كل تلك الفوضى، هو لتغيير البنية الاجتماعية والسياسية العراقية لتنسجم مع فكرة تطبيق الفيدرالية التي كانت مرفوضة جملة وتفصيلاً، ولأن الفيدرالية لا يمكن تطبيقها إلا للبلدان المفككة والدول الفاشلة والمجتمعات المتصدعة، أما اليوم انتهى الدور المليشياوي بإكمال المهمة وتراجعت إيران إقليميًا وتراجعت سوريا النظام إلى حدود العلويين الديمغرافية وحدود أركان النظام المتهالك.
لقد انتهى على ما يبدو ما يُبرر دور الفاعلين غير الدولتيين كالمليشيات وداعش وغيرهم، فطائفية المليشيات أنتجت داعش، وداعش أنهت حدود العراق وسوريا وجلبت التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، مما يعني أن القرار سينتهي بيد القوى الدولية التي جاءت إلى المنطقة باسم الإرهاب، وبإنهاء دور المليشيات ستُصاغ أسس سليمة لإعادة بناء الأمن في العراق كتسليح العرب السنة ودمجهم بالجيش العراقي لاحقًا أو إقرار قانون الحرس الوطني المُعطل برلمانيًا، أي إعطاء دور القضاء على داعش للسنة وبالدعم الأمريكي والسعودي وخلق توازن داخلي إقليمي دولي من أجل الاستقرار وبناء الدولة بأسس سليمة وبالشراكة الحقيقية في الحكم وبالصيغة اللامركزية الواسعة أو الفيدرالية وهي حلول مطروحة منذ عام 2005م لكنها لم تنفذ لعد قبولها اجتماعيًا آنذاك.
إن مستقبل العناصر الفاعلة غير الدولتية في العراق كالمليشيات بدأ ينتهي بإبلاغ الولايات المتحدة بغداد من أنها لم تَعد بحاجة لقوات الحشد الشعبي التي شُكلت لمحاربة داعش والتي تتكون من عدد كبير من المليشيات الحزبية كمليشيا بدر وعصائب أهل الحق وغيرهم، فالولايات المتحدة بدأت بالتواجد الفعلي في القواعد العسكرية في العراق ولا ترغب بالتعامل مع العناصر الفاعلة غير الدولتية التي نشط دورها بعد الانسحاب الأمريكي من العراق خاصة بعد عام 2011م ، فقد انتهى دورها بالمنظور الأمريكي وما يجري هو إعادة بناء العراق بأسس سليمة وبتوازن طائفي على الواقع العراقي الجديد وبوعود دعم العشائر السنية وتمثيل سياسي حقيقي في الدولة؛ لتكون ذلك الوضع الجديد نواة عسكرية لقوة سنية محلية حقيقية تحفظ الأمن الداخلي وبإدارة سياسية محلية تؤسس ربما لإقليم سني بالمستقبل القريب وتصلح تفاعلات وصِدامات القوى الإقليمية على أرض بلاد الرافدين.