بعد الإخفاق المتوقع لمباحثات جنيف بمقدماتها وخواتيمها، جابت في الأجواء اتهامات عسكرية روسية تفيد عن تسجيل إشارات متزايدة على استعدادات خفية تقوم بها القوات المسلحة التركية لتنفيذ توغل عسكري في الأراضي السورية، على خلفية منع أنقرة طائرة حربية روسية من التحليق فوق أراضيها، لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وصف هذه التصريحات بالمضحكة، متهمًا روسيا باجتياح سورية وقتل مئات الآلاف، مؤكدًا أن هذه الادعاءات ليست أكثر من محاولة لصرف الانتباه عن جرائمها في سورية.
لكن في حقيقة الأمر، لا يمكننا إغفال واقع أن تركيا تقوم بأنشطة عسكرية قرب الحدود التركية السورية في وقت يزدحم وجود قوات عسكرية غربية وقوات حلف الناتو على أراضيها.
السؤال هل حقًا يمكن أن تخطو تركيا خطوة عسكرية في سورية؟
لدى مراقبة المشهد البانورامي الكلي لا يمكن لتركيا أن تتورط عسكريًا في سورية إلا في حالتين مرتقبتين: الأولى، إذا كان هناك تحرك عسكري إقليمي لوقف التقدم الإيراني الروسي “التصريحات السعودية مؤخرًا حول إمكانية إرسال قوات برية إلى سورية”، أو في حال حدوث تحرك دولي تحت مظلة التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب آنذاك ستكون تركيا بالتأكيد جزءًا من العملية العسكرية.
الحالة الثانية وهي مربط فرس إن صح التعبير في حال إعلان أمريكا أو وجود موافقة دولية على شرعية إدارة الأكراد للمنطقة الشمالية في سورية التي تمتد من عفرين في أقصى الشمال الغربي إلى قرى القامشلي في الشمال الشرقي بمساحة جغرافية كبيرة نسبيًا يمكن أن تصل إلى البحر الأبيض المتوسط وبالتالي إحداث تغيرات على خرائط أنابيب النفط في المنطقة، ما يضع تركيا على تماس مباشر مع خاصرة كردية أخرى من الجهة السورية بعد كردستان العراق، خصوصًا بعد زيارة ممثل الرئيس الأمريكي باراك أوباما في التحالف الدولي برت ماكغورت على رأس وفد من سبعة عشر قياديًا، إضافة إلى مسؤولين أمنيين بريطانيين وفرنسيين، إلى مناطق الإدارة الذاتية الكردية التي تسيطر عليها “قوات سورية الديمقراطية” للتباحث مع المسؤولين الأكراد في الإدارة الذاتية.
فمنذ سيطرة قوات وحدات حماية الشعب الكردية على مدينة تل أبيض الحدودية الطريق الواصلة بين عين العرب والمناطق المحاذية لكردستان العراق، ثمة تسريبات عن عقد اجتماعات أمنية رفيعة المستوى، وهناك أجواء توحي بأن الوقت حان للتدخل العسكري في سورية والتي تزامنت مع تصريح للرئيس رجب طيب أردوغان بأنه لن يسمح بإقامة دولة كردية في مناطق الشمال السوري المحاذية لجنوب تركيا.
إذا افترضنا أن سبب التدخل التركي هو منع قيام الدولة الكردية فإن العملية العسكرية على الأرجح ستكون محدودة مطوقة بأهدافها، أي غير شاملة لضرب أهداف ومواقع جيش النظام السوري أو نقاط تمركز القوات الروسية.
ستكون العملية محصورة في منطقة جرابلس لقطع التواصل الجغرافي للمناطق الكردية على امتداد الشمال الشرقي وهي بطول 150 كيلومترًا مربعًا وعمق 35 كيلومترًا مربعًا وبعدد قوات لا يزيد على عشرين ألف جندي، ما يعني إيجاد أرضية عسكرية للقوات التركية في منطقة حدودية تخلق رادعًا لإقامة كيان كردي.
فيما ستعلن أنقرة أن عمليتها تأتي لإقامة منطقة عازلة آمنة لاحتواء سيول الأعداد المتزايدة من اللاجئين القادمين من ريف حلب الشمالي بعد تقدم قوات النظام السوري المدعومة بالطيران الروسي وبذلك ستكون تركيا مهدت لإيجاد مخرج لأزمة اللاجئين العالقين على حدودها بعد إغلاق جميع المعابر إلى الأراضي التركية.
بيد أنه يمكن لتركيا أن تستعيض عن التدخل العسكري بما يسمى “الحرب بالوكالة” عبر دعم المعارضة بشكل يمكنها من فتح جبهات منهكة للأكراد ولكن بشرط أن يأخذ الدعم في الحسبان مواجهة “داعش” والنظام وروسيا معًا وليس إعادة المسلسل الأمريكي في دعم المعارضة لمواجهة جبهة وحيدة وهي “داعش”.
ويبقى هناك أسئلة مهمة حول الوضع التركي الداخلي: هل سيسمح بأي تدخل عسكري في سورية في ظل وجود معارضة تريد أن تفرض وجودها وأجنداتها بعد هزيمتها وإخراجها من الملعب السياسي بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، إضافة إلى ذلك ماذا عن العلاقة بين أردوغان والمؤسسة العسكرية المعروفة دائمًا بالاضطراب لتحجميها من جانب الزعيم التركي؟ وهل يسمح الاقتصاد التركي الذي يحاول أيضًا التعافي من أزمات وإشكاليات واجهها العام الماضي، أبرزها انخفاض قيمة سعر صرف الليرة مقابل الدولار وارتفاع معدل التضخم إلى 8.8%، وهل يسمح التدخل العسكري في سورية بمواجهة التحدي الذي يفرضه تحسن العلاقات التركية الأوروبية بعد القمة المنعقدة في العاصمة البلجيكية بروكسل في أواخر نوفمبر الماضي فضلًا عن الاتفاقيات الثنائية التي قد تفتح الأبواب في الأيام المقبلة لرفع تأشيرة الدخول للمواطنين الأتراك إلى دول الاتحاد الأوروبي.
مع ذلك تبقى إقامة كيان كردي ذي حكم مستقل أو ذاتي بيد حزب الاتحاد الديمقراطي كما حصل في كردستان العراق تهديدًا حقيقيا للأمن الإستراتيجي التركي، الأمر الذي قد تسقط عنده كل الاعتبارات والمخاطر أمام تحرك جدي على الأرض، وقد يكون الخيار الوحيد أمام أنقرة، ما يعني أن تركيا قد تواجه من دون شك لحظة الاختيار بين خيارين أحلاهما مر، بين خيار عسكري ذي تكلفة سياسية وخيار صعود عدوها التاريخي المهدِّد لأمنها واستقرارها.