ذكرت تقارير عبر مصادر مقربة من الجيش الميانماري صباح أمس احتمالية تعديل الدستور بما يسمح بتولي زعيمة المعارضة أونج سان سو كاي رئاسة البلاد، تأتي هذه التقارير كنتيجة متوقعة للمفاوضات التي بدأها حزب العصبة القومية للديموقراطية الذي تتزعمه سو كاي مع مؤسسة الجيش التي سيطرت على البلد لقرابة خمسين عامًا.
بدأت المفاوضات بين سو كاي ورئيس الأركان الميانماري بعد نجاح كاسح للحزب الذي ترأسه الأولى في أول انتخابات حقيقية تشهدها البلاد منذ التسعينات، إلا أن سو كاي كانت وما تزال ممنوعة دستوريًا من تولي رئاسة البلاد لزواجها من أجنبي، ويتطلب التغاضي عن هذا الشرط تصويتًا برلمانيًا بأغلبية الثلثين؛ مما يعني حاجة حزب العصبة القومية لأصوات حزب الوحدة والتنمية المدعوم من الجيش والذي يحوز على 25% من الأصوات.
سو كاي الحائزة على جائزة نوبل ما زالت ممنوعة من الترشح لرئاسة الجمهورية بسبب زيجتها السابقة من البروفيسور البريطاني مايكل أريس، وليست هذه الصلة العائلية الوحيدة ذات الدلالة السياسية في حياة سو كاي، فهي ابنة الجنرال أونج سان المعروف بأبي الأمة البورمية ومؤسس الحزب الشيوعي البورمي.
يستدعي أي حديث عن الواقع السياسي في ميانمار اليوم قضية الاضطهاد المنهجي لمسلمي الروهينجا للأذهان، فالأزمة المستمرة قد شهدت اتساعًا شديدًا في شهرتها مرتين مؤخرًا، الأولى بعد موجة العنف ضد مسلمي الروهينجا عام 2013، والثانية بعد أزمة اللاجئين الروهينجا في المحيط الهندي العام الماضي.
ومن اللافت للنظر أن سو كاي حافظت على التزامها بالصمت فيما يخص هذه القضية على طول حياتها السياسة، حتى إن الدالاي لاما قد أصدر تصريحًا رسميًا يطالبها فيه بفعل المزيد لإنهاء معاناة الروهينجا ردًا على أزمة اللاجئين العام الماضي، كما نقلت التليجراف البريطانية عن مساعد سو كاي تصريحًا بعدم أولوية ملف الروهينجا للحزب في إطار النصر الانتخابي له في نوفمبر الماضي.
من هنا يمكن التساؤل عن الأسباب خلف تجاهل رمز ديموقراطي وحاملة لجائزة نوبل للسلام كسو كاي لمعاناة بشرية كالتي يمر بها الروهينجا، ويمكن الوصول لإجابة هذا السؤال عبر إلقاء النظر على الواقع البورمي اليوم وعلى الأصول التاريخية لتشكل الدولة البورمية الحديثة، وربما يمكن البدء من خلال السؤال التالي:
من هم الروهينجا؟
الروهينجا هم جماعة إثنية تستوطن ولاية آراكان في ميانمار بشكل رئيسي، يتميز الروهينجا باستخدامهم للغة الروهينيجيا وديانتهم بالإسلام، يمثل الروهينجا أقلية مسلمة في بلد يدين أغلبها بالبوذية، كما يتخطى الأمر الجانب الديني للسياسي لما للديانة البوذية من دور محوري في تشكيل وتحديد القومية البورمية لأسباب نناقشها لاحقًا.
وصفت وكالة الأنباء الفرنسية الروهينجا عام 2012 بـ”الأقلية الأكثر اضطهادًا في العالم”، يأتي هذا نتيجة لعدم اعتبار الحكومة البورمية الروهينجا مواطنين من الأساس، حيث يمنع الروهينجا من الحصول على الجنسية البورمية والسفر داخل البلاد أو خارجها، كما تمنع كل أسرة من تربية أكثر من طفلين، بالإضافة إلى تحديد إقامتهم لمجموعة من السجون المفتوحة وإجبار كل رجل على العمل مجانًا ليوم من كل أسبوع لصالح الجيش أو الحكومة، وقد قامت الحكومة بالفعل بمصادرة أغلب الأراضي التي اعتمدوا عليها في الزراعة لصالح مستوطنين بوذيين.
تصر الحكومة البورمية على حقها في عدم ضمان الجنسية للروهينجا، وتبرر ذلك بأنهم مهاجرين غير شرعيين من بلاد مسلمة كبنجلاديش، حتى اليوم يستثنى الروهينجا من أي مسح سكاني في بورما، كما قامت الحكومة العام الماضي بتغيير التسمية الرسمية للروهينجا إلى “البنغال”.
هنا قد يصبح من المناسب أن نلقي نظرة تاريخية على أصل الأزمة.
الأزمة أقدم من ميانمار نفسها
يعود أول أثر تاريخي للمسلمين في ولاية آراكان لعام 1430 بعودة الملك “مين ساو مون” لعرش مملكة “ماروك يو” والتي تمثل اليوم إقليم آراكان بعد ربع قرن من المنفى في بلاد البنغال، عاد الملك لحكم المملكة مع علاقات جيدة جدًا مع سلطنة البنغال المسلمة، وحافظت المملكة على التقاليد الإسلامية في كثير من أوجهها بالرغم من حفاظ ملوكها على الديانة البوذية، عاش المسلمون من مختلف الأصول في تلك الفترة على طول ولاية آراكان بدون مشاكل يسجلها التاريخ.
استمر الوضع في استقرار حتى قيام المملكة البورمية بغزو ولاية آراكان عام 1785، تسجل المصادر لجوء 35 ألف آراكاني في تلك الفترة لحماية الراج البريطاني في الهند هربًا من الاضطهاد البورمي، إذ قام البامار (الإثنية البورمية الرئيسية) بإعدام آلاف الرجال من سكان الإقليم وتهجير أغلب الباقي إلى وسط بورما.
كان التوسع البورمي في تلك الفترة ردًا بشكل أساسي على التوسع البريطاني في شبه الجزيرة الهندية، وكانت المخاوف البورمية حقيقية جدًا، إذ قامت بريطانيا بالسيطرة على بورما تدريجيًا على طول ثلاثة حروب بين 1824 و1885، سيطرت بريطانيا على أغلب الساحل الغربي وشمال بورما (التي تشمل إقليم آراكان) في الحرب الأولى، كما أجبرت البامار على دفع تعويض لبريطانيا المنتصرة قدره مليون جنيه إسترليني.
أصبحت بورما بكاملها إقليمًا تابعًا للهند البريطانية، ومع الاستعمار بدأ الاقتصاد البورمي في التوسع تحت إشراف النخبة الهندية/ البريطانية الجديدة، وبطبيعة الحال كان للمسلمين الهنود العاملين مع الراج البريطاني دور كبير في هذه السيطرة على بورما، توسعت الهجرة من البنغال والهند إلى بورما، كما زاد عدد المسلمين في البلد تدريجيًا لغياب الاضطهاد السابق، لم تتضح آثار هذه التصورات بجلاء حتى بداية الحرب العالمية الثانية.
في إطار الخطة اليابانية للسيطرة الكاملة على شرق أسيا، كان موقع بورما الإستراتيجي شديد الأهمية، بالإضافة للأهمية الإستراتيجية لتوجيه ضربة لمصالح بريطانيا في المنطقة، قامت المخابرات اليابانية بالتواصل مع الناشط القومي أونج سان (والد سو كاي) ودعوته إلى اليابان عام 1940، عاد أونج سان إلى بورما بعد هذه الرحلة حاملًا وعدًا بالتمويل والدعم العسكري للاستقلال البورمي، عاد أونج سان في نفس العام برفقة عدد من الناشطين إلى اليابان لتلقي التدريب العسكري في نفس العام ليشكلوا ما عرف بجيش التحرير البورمي، صدر في هذا الوقت كتاب نسب إلى أونج سان تحت عنوان “مخطط لأجل بورما حرة”، تمحور الكتاب حول الإثنية البامراية والديانة البوذية كمقومات للقومية البورمية، في مقابل العداء الواضح للبريطانيين وأتباعهم من الهنود والمسلمين.
احتلت اليابان بورما بمساعدة جيش التحرير البورمي عام 1942، وتم حل جيش التحرير البورمي لتشكيل جيش الدفاع البورمي تحت قيادة أونج سان ليبدأ في إدارة البلاد تحت الإشرافي الياباني.
كان الرد البريطاني على الهجوم الياباني سريعًا ومتعدد الأوجه، ما يهمنا من هذه الأوجه هو تشكيل ما يعرف بالقوة V، وهي ميليشيا استخباراتية كونتها بريطانيا في بورما قبل الاحتلال الياباني مباشرة، وقوامها من المسلمين من الروهينجا وذوي الأصول البنغالية ممن يتصلون بالراج البريطاني، بدأت هذه القوة في توجيه الضربات المؤلمة للقوات اليابانية والبورمية مباشرة، تشير المصادر التاريخية كذلك لدور القوة في قمع الحراك القومي البوذي في إقليم آراكان تحت إشراف بريطاني بشكل شديد الوحشية، هذه الحقيقة وهذا الدور لم ينس من قِبل البوذيين والقوميين البامار لمسلمي الإقليم أبدًا.
مع بداية تغيير ميزان القوى في الحرب لصالح قوات الحلفاء؛ سارع أونج سان بإعادة حساباته وتواصل مع البريطانيين، ليبدأ جيش الدفاع البورمي بعد ذلك في مساعدة البريطانيين ضد حلفائه السابقين من اليابانيين، كان هذا الانقلاب في مقابل وعد بريطاني ببورما مستقلة، بدأت بعد ذلك ما تعرف اليوم بحرب الاستقلال البورمي ضد المستعمر الياباني (حليف الأمس) تحت إشراف الحليف البريطاني (مستعمر الأمس).
تم اغتيال أونج سان قبل إعلان الاستقلال البورمي بعدة أشهر، إلا أن نواة جيش التحرير البورمي لم تزل حتى يومنا هذا المسيطر الرئيسي على السلطة في ميانمار، ولم تنس هذه النواة وأذرعها في التعليم والإعلام أبدًا دور مسلمي الروهينجا، ليصبح الروهينجا في الخطاب السياسي البورمي تمثيل الآخر والعدو، المختلف دينًا ولغة، حليف العدو العنيف.
يمكن بهذا الشكل فهم عدم إلقاء سو كاي بالًا لملف الروهينجا على الإطلاق بالرغم من نضالها من أجل الديموقراطية والحياة السياسية في ميانمار، فالقليل جدًا من لا يرى مسلمي الروهينجا كأجانب متطفلين وأعداء لكل القيم البوذية والبورمية لميانمار، وأونج سان سو كاي ليست استثناءً من هذا.