ترجمة وتحرير نون بوست
تختمر اليوم ببطىء في العراق أزمة اتخذت منحى دراميًا ضمن الأحداث الأخيرة، وعلى المدى الطويل قد تسفر هذه الأزمة عن إحالة أي انتصار على داعش إلى انتصار وهمي.
في 11 يناير، قام متشددو داعش بتنفيذ تفجيرين انتحاريين في بلدة المقدادية في محافظة ديالى العراقية، مما أسفر عن مقتل 26 شخصًا على الأقل، وجاء الانتقام سريعًا، ولكنه لم يكن موجهًا ضد داعش. بل بدلًا من ذلك، تم استهداف سكان ديالى السنيين، حيث قامت الميليشيات الشيعية التي تسيطر على جزء كبير من محافظة، بعد وصولها إلى حالة نعتتها المحللة جويل وينج بـ”الهياج”، بقتل 12 شخصًا على الأقل وهدم “7 مساجد، 7 منازل، و 36 محلًا تجاريًا”، وفقًا لوينج.
“أنا أعرف أحد رجال الميليشيات وغيرهم من الذين يجوبون شوارعنا، إنهم من سكان المنطقة” قال عباس، أحد السكان السنين من منطقة المقدادية، لهيومن رايتس ووتش، وتابع: “تنظيم داعش قد يكون خلف تفجير المقهى، ولكن الهجمات على المنازل السنية والمساجد والأشخاص في منطقتنا هي من تنفيذ ميليشات عصائب أهل الحق”.
هذه الحادثة ليست معزولة، فمنذ استعادة الميليشيات الشيعية لمعظم أنحاء ديالى من أيدي تنظيم داعش في عام 2015، سيطرت هذه الميليشيات على المحافظة، بدون أي رقابة من الدولة العراقية، ونتيجة لذلك، تمتعت الجماعات المتطرفة الطائفية بكامل الحرية لمهاجمة المدنيين السنة بدون محاسبة أو مراقبة، مما جعل ديالى مكانا خطرًا على السكان السنة، وهم أقلية وفقًا للمعايير الوطنية، ورغم أن المحللين يختلفون حول ما إذا كانت أفعال المليشيات ترقى لتكون حملة تطهير طائفي منظمة، إلا أن تأثير هذه الأفعال يبدو واضحًا للغاية للعيان، فلقد أُخليت ديالي من سكانها السنة.
المشاكل في ديالى تستبطن أمورًا أكبر، فعلى الرغم من أن الميليشيات تبدو قوية وخاصة في محافظة ديالى، إلا أن نفوذها لا يقتصر على تلك المنطقة بل تتمتع بنفوذ هائل في جميع أنحاء العراق بسبب دورها الرئيسي في الحرب ضد داعش، وهذا النفوذ يضر بشكل خطير باحتمالات المصالحة بين السنة والشيعة في العراق، وهو السبيل الوحيد لضمان هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية على المدى الطويل.
ما الذي يحدث في ديالى
محافظة ديالى
ديالى تقع تمامًا في وسط العراق، فهي متاخمة لبغداد في حدودها الغربية ولإيران من جانبها الشرقي، وقبل الحرب، كانت ديالى تتمتع بدموغرافية مختلطة؛ فالسكان العرب السنة كانوا أغلبية طفيفة، وشكل العرب الشيعة ثلث السكان، أما الباقي، حوالي 15%، فكانوا من الأكراد.
استطاع تنظيم داعش السيطرة على معظم ديالى في يونيو من عام 2014، وحينها بلع امتداد التنظيم من معاقله الشمالية في الموصل إلى حدود بوابات بغداد، وحينها لم يكن الجيش العراقي، الذي تعيث فيه الانشقاقات الواسعة خرابًا، قادرًا على استعادة السيطرة على المحافظة من تلقاء نفسه؛ لذا لجأت الحكومة العراقية إلى الميليشيات الشيعية، وهي منظمات عسكرية مستقلة يسيطر عليها المتشددون الشيعة، وتستمد أغلب تمويلها وتوجيهاتها من إيران.
تسلمت أحد أكبر هذه الميليشيات الشيعية، كتائب بدر، زمام المبادرة في استعادة ديالى، حيث عين رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي، زعيم كتائب بدر، هادي العامري، الحاكم العسكري في المحافظة، واستطاعت بدر والميليشيات المتحالفة معها استعادة أغلبية المحافظة من أيدي داعش بحلول فبراير 2015، ونظرًا لضعف الحكومة المركزية في بغداد إثر معناتها من وطأة هجمة داعش، ظهرت كتاب بدر كحكومة الأمر الواقع في محافظة ديالى.
“تخضع ديالى في معظمها لسيطرة هادي العامري وكتائبه، بدر”، أوضحت وينج في رسالة أرسلتها لي، كما أن الميليشيات الشيعية المتطرفة الأخرى، مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، باشروا أعمالهم الخاصة ضمن المنطقة التي تسيطر عليها كتائب بدر في ديالى.
رغم أن تحرك الميليشيات في ديالى أسفر عن دحر تنظيم داعش من معظم مناطق سيطرته، إلا أن تلك الخطوة كانت مدمرة بالنسبة للمدنيين السنة، وذلك لسبب واحد، لأن القتال بحد ذاته كان كارثة على سنة ديالى، فتنظيم داعش والمليشيات الشيعية على حد سواء يضربون الأهداف بدون تمييز، مما أدى إلى تدمير مناطق بأكملها ضمن المحافظة جرّاء قذائف الهاون وقذائف الآر بي جي الصاروخية.
كانت الميليشيات الشيعية قاسية للغاية على المدنيين السنة منذ تسلمها مقاليد الحكم بالمحافظة؛ فرجال الميليشيا يرون أهل السنة كمتعاونين مع داعش، ويصبون جام غضبهم من الأخيرة على السكان المدنيين، وفي الوقت الذي تبدو فيه حوادث القتل، كالتي وقعت في المقدادية في يناير الماضي، كحالات متطرفة واستئنائية، تبدو حوادث تحرش الميليشيات بالسكان السنة ومضايقتهم أمورًا شائعة للغاية.
“مجرد إلقائك لنظرة على الخرائط السكانية، لنظرة على المناطق التي يعيش فيها السكان، ستكون كافية لتوضح بأن السكان لا يعيشون في تلك المناطق بعد الآن”، قال لي فيليب سميث، الباحث في جامعة ميريلاند، وأضاف: “الأمر ليس نابعًا من عدم رغبتهم بالعيش هناك، بل بسبب الزيارات المتكررة من قِبل قوات الشرطة التي تهمين عليها كتائب بدر، حتى أنه تم اعتقال أطفال بعض السكان السنة لمجرد أنهم من ذكور السنة”.
أجبرت مطرقة حرب داعش وسندان حكم الميليشيات الشيعية أعدادًا هائلة من سكان السنة للهروب من المحافظة، كما أن المناخ الرهيب الذي أسست له الميليشيات بحكمها خوّف العديد من هؤلاء من التفكير بالعودة، ودفوع عددًا إضافيًا، ولكن أصغر، من السكان للخروج أيضًا من المحافظة.
“الأمر لا يتمثل بخروج أعداد هائلة من الجماهير من المحافظة”، قال لي كيرك سويل، مدير نشرة “داخل السياسة العراقية”، عبر البريد الإلكتروني، وأضاف: “بل إن الأمر يتمثل بأن المناطق التي تم تحريرها من حكم داعش منذ أكثر من عام لم تشهد إلا عودة عدد قليل فقط من النازحين السنة”.
أدى هذا الواقع إلى انخفاض كبير في عدد السكان السنة في المحافظة، حيث يقول محمد طه الحمدون، المتحدث باسم أهم حركة سياسية سنية عراقية لوسائل الإعلام الكردية: “أربعون في المئة من السنة غادروا بسبب القضايا الأمنية الحالية وبسبب تمركز الميليشيات الشيعية في ديالى”.
يصعب التحقق على أرض الواقع من العدد الدقيق للسكان السنة الموجودين والمغادرين لديالى، ولكن النسبة التي ذكرها حمدون تبدو “معقول وممكنة”، كما يقول دوجلاس أوليفنت، مدير مجلس الأمن القومي في العراق من عام 2008 حتى 2009 والشريك الإداري الحالي في لؤسسة مانتيد الدولية، ولكنه حذر من شح المعلومات القادمة من محافظة ديالى، مما يحذو بنا للتعامل بدقة والتشكك بأي أرقام صادرة عن المحافظة.
بصرف النظر عما تقدم، لا يمكننا إنكار فرار الكثير من السنة خارج ديالى، واستمرار أعداد أكبر بالخروج منها تباعًا، حيث يقول أوليفنت: “لا نريد أن نبخس حق ما يحدث، إنها مشكلة حقيقية للغاية، ويجب على الحكومة أن تتعامل معها”.
هل نحن أمام حالة تطهير طائفي؟
مقاتلو كتائب بدر
كتائب بدر وزملائها من الميليشيات الأخرى لا يعلنون صراحة بأنهم يحاولون التخلص من سنة ديالى، مما يؤدي إلى اختلاط الأمور وتعقدها لجهة معرفة ما إذا كانت موجة من العنف والتحرش ناجمة عن تصرفات منفردة وخاصة، وهي النتيجة الحتمية لوضع المتطرفين الشيعية في منصب المسؤولية قبالة السكان السنة، أم أن هذه التصرفات تشكل حملة منظمة وموجهة تهدف إلى طرد ما تبقى من السكان السنة، لخلق أغلبية شيعة.
من جهته، يرى أوليفانت بأن مزاعم التطهير الطائفي مبالغ بها، حيث يقول: “هل هي محاولة في الواقع لتطهير الأراضي وتحويلها إلى منطقة الشيعة؟ لا، إنها ليست كذلك”.
يربط أوليفانت بين عنف الميليشيات ووجود فئات صغيرة، ولكن مهمة، من عناصر داعش في بعض المعاقل في شرق ديالى، وهو المكان الذي تستخدمه هذه العناصر لشن هجماتها على المحافظة أو حتى، في بعض الأحيان، على بغداد.
التحري الدقيق لأنماط عنف الميليشيات الشيعية الذي قامت به وينج، يبين بأن الهجمات الكبيرة التي تنفذ من قِبل الميليشيات الشيعية على المدنيين السنة تميل للحدوث في أعقاب هجمات داعش، وهذا يوحي بأن عمليات القتل تحصل بدافع الانتقام، وهذا أفعال ترقى بالطبع لمستوى جرائم الحرب، ولكنها لا تشكل بالضرورة حملة تطهير طائفية منظمة.
“الأمر يتبع سياسة هذه بتلك، فعندما يهاجم تنظيم داعش الميليشيات الشيعية، تقوم الأخيرة بالمقابل بمهامة الأشخاص المتهمين صوابًا أو زورًا بمباركة هجمات التنظيم”، تشرح وينج.
على الجهة الأخرى، يرى سميث، باحث ميريلاند، أن أفعال الميليشيات الشيعية تستبطن أفكارًا أكثر شرًا، حيث يقول: “عندما ننظر إلى الأمر من منظار الإستراتيجية الكبرى، يبدو من الواضح وجود عمليات تطهير جارية على قدم وساق، فالميليشيات الشيعية تستهدف نوعًا محددًا من التركيبة الديموغرافية”، ويتابع موضحًا: “لا يمكنني أن أصف هذه الحملة بأنها فردية ومخصصة”.
تتبع أفعال الميليشيات الشيعية، وفقًا لسميث، منطقًا إستراتيجيًا وسياسيًا في جوهرها؛ فمن وجهة نظر الميليشيات، جميع المدنيين السنة هم من المتعاونين أو المجندين المحتملين مع داعش، وطردهم من المنطقة، خصوصًا على مقربة من بغداد، يبعد داعش عن تلك الأراضي ويؤمن المدنيين الشيعة، وعلاوة على ذلك، إخراج السنة من منازلهم يجعلهم فئة عاجزة سياسيًا، حيث يصعب عليهم أن يتنظموا ضمن وضعهم كلاجئين، وهذا من شأنه مساعدة الشيعة، وخاصة الأحزاب السياسية التابعة للميليشيات، لتعزيز سيطرتهم على عناصر من الحكومة العراقية.
“إنهم يحاولون تطهير ديالى، على الأقل جزئيًا، لتخفيض نسبة السكان السنة لتصبح بعيدة للغاية عن الـ50% بغية ضمان انتخاب الشيعة والأكراد لحاكم شيعي بشكل دائم”، قال لي سويل.
وفقًا لسميث، الميليشيات الشيعية أذكى من أن تعترف علنًا لحملة التطهير الطائفي، بل بدلًا من ذلك، ترسل الميليشيات دعوات مخفية عوضًا عن دعوات التطهير المفتوحة، تحمل رسالة إلى السكان السنة تحثهم على ترك مناطقهم دون أن يعلنوا ذلك صراحة على أرض الواقع.
“إذا نظرت إلى تقارير وسائل الاعلام الاجتماعية، ستلاحظ بأن المناطق التي تُعرف بأنها سنية قُصفت ومُسحت تمامًا” يقول سميث، ويضيف” هناك صور تصور الميليشيات الشيعية وهم تحمل لافتات شيعية، وهذا يبعث فعلًا برسالة أوسع إلى السكان السنة الموجودين هناك والذين يشهدون هذا الوضع”.
تمت مشاركة ادعاءات حملة التطهير الطائفي الجماعي من قِبل بعض السياسيين ووسائل الإعلام السنية في العراق، ولكن لم يتم ترديد هذه المزاعم من قِبل مجموعات حقوق الإنسان الدولية الرئيسية، بل تشير هيومن رايتس ووتش بأن زعيم كتائب بدر، العامري، نعت استهداف السنة بأنها “جريمة لا تختلف عن الإرهاب”.
ولكن على الأرض الواقع، توضح حقيقة مناقشة المراقبين المطلعين لموضوع التطهير الطائفي من عدمه، مدى خطورة الوضع في ديالى؛ فالميليشيات الشيعية تبدو خارج نطاق السيطرة بشكل واضح، والمدنيين السنة يدفعون الثمن.
الصورة الأكبر: المعركة ضد الطائفية العراقية
رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي.
يمكن للحكومة العراقية ممارسة بعض الجهود لكبح جماح الميليشيات، وبشكل خاص لاستعادة السيطرة الأمنية في ديالى، حيث يقول أوليفانت: “إنهم بحاجة لإعادة تنشيط وتعزيز قوات الشرطة هناك، فالحكومة العراقية تطلب نجدة مدربي الشرطة في كل مكان، فهم يعرفون أن لديهم مشكلة”.
بجميع الأحوال، يشير أوليفانت إلى معاناة الحكومة العراقية من العديد من المشاكل، لأنها مستهلكة بمهامها الرئيسية الثلاث، محاربة داعش، إعادة إعمار المناطق التي استعادتها من داعش، وتهيئة الميزانية، وهذا الأمر الأخير يثير العديد من الجدل والمشاكل في دولة تتمتع بموارد نفطية ضخمة، “لا تمتلك الحكومة العراقية المزيد من الطاقة لفغل أي شيء آخر” يقول أوليفانت.
علاوة على ذلك، لا تتمتع الأغلبية الشيعية في العراق والأقلية الكردية بالكثير من التعاطف مع المدنيين السنة، الذين يحوزون ذان وجهة نظر الميليشيات حول مسؤولية السكان السنة عن بزوغ تنظيم داعش،”هذا الأمر يشبه محاولة توليد التعاطف مع حملة التطهير العرقي التي مارسها الألمان في أعقاب الحرب العالمية الثانية”، كما يقول أوليفر.
هذه مشكلة خطيرة للغاية، كون السبب الرئيسي لبزوغ داعش في العراق يُعزى للتوتر الحاصل بين السنة والشيعة، وعلى وجه التحديد، رؤية أهل السنة لأنفسهم كمحرومين من حقوقهم تمامًا من قِبل الدولة العراقية التي يسيطر عليها الشيعة، مما أثار احتجاجات سنية في كامل البلاد لم تسفر عن أي نتيجة بل تم قمعها بقسوة من قِبل المالكي؛ مما أدى إلى قيام بعض السنة بدعم تمرد داعش المسلح نتيجة لليأس، رغم أيديولوجية التنظيم المتطرفة.
أدت أيديولوجية تنظيم داعش المتطرفة إلى خسارته للكثير من مناصريه السنة، كما خسرت المجموعة الأراضي التي كانت تسيطر عليها بالعراق بشكل مطرد، واليوم استطاع رئيس الوزراء العراقي الحالي، حيدر العبادي، وهو شيعي معتدل، فهم الحاجة الملحة للوصول إلى السكان السنة وإقناعهم بقبول شرعية الحكومة المركزية العراقية، ولكن مهام العبادي اطردت صعوبة جراء حملات الميليشيات الشيعية الطائفية؛ فعندما تهاجم جماعات، مثل بدر وعصائب أهل الحق، أهل السنة وتذبحهم أو تضايقهم، فمن ثم لا موجب لدى السكان السنة ليضعوا ثقتهم في الدولة الشيعية المركزية، كون هذه المليشيات الطائفية تعمل بإذن من الحكومة العراقية، التي لا تزال بحاجة إلى دعمهم لإنهاء المعركة ضد داعش.
ولكن إذا لم يتم وضع هذه الميليشيات في نهاية المطاف تحت سيطرةالحكومة، فمن ثم أي انتصار ضد داعش قد ينتهي بنتيجة باهظة الثمن، حيث سينظر السكان السنة مرة أخرى للشيعة وللحكومة المركزية كأعداء لهم، مما سيتسبب في نهاية المطاف بحمل السنة للسلاح مرة أخرى، سواء تحت شعار داعش أو أي مجموعة أخرى.
“نحن نبتكر الصراع المقبل” يقول سميث، ويضيف: “إذا كان اللاعبون الرئيسيون الذين سيسحقون داعش من الميليشيات الشيعية، فإننا حينها سنكون قد عمدنا إلى استبدال إسلام راديكالي بآخر مشابه له، وهذا الإسلام الراديكالي الآخر كان أحد الأسباب التي سهلت للغاية مهمة تنظيم داعش بترسيخ نفسه ضمن السكان السنة”.
المصدر: فوكس