هل يهرب مسيحيو مصر من بلادهم؟

ترجمة وتحرير نون بوست
“سوف أغادر, لا أريد أن أحيا في تلك البلاد التي لا تمنح عائلتي حريتها” تقول مريم, والتي حصلت على درجة البكالريوس الدولية في التجارة وتتحدث ثلاث لغات بعمر 29 عامًا، ورغم ذلك لم تفلح في العثور على وظيفة في موطنها الأصلي، أما زوجها، المهندس ميكانيكي الذي يعمل في شركة سيارات، فيواجه مشاكل مادية أيضًا، وتعزو مريم هذا الأمر بأنها حالة من التمييز الديني، “لقد حدث هذا في شركتين مختلفتين, كان هناك دائمًا أماكن جديدة متاحة في مراتب أعلى لكنهم كانوا يرفضون تعيينه بها، فهو الموظف المسيحي الوحيد بالمكان, ودائمًا ما يكون هناك شخص آخر أصغر منه بالعمر وبلا خبرة يحصل على تلك الترقية بدلًا منه”، تقول مريم ذلك بينما تنتظر موافقة السفارة الكندية على طلبها للهجرة.
حالة مريم تتكرر في الواقع مع آلاف المسيحيين المصريين الذين يبحثون عن فرص أفضل في الدول الأجنبية؛ ففي يناير الماضي نشرت مجلة “الإيكونوميست” بحثًا تقول فيه أن أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط تتناقص بشكل كبير في حالة نزوج جماعي، حيث تقلص وجودهم في المنطقة من 13.6% من عدد السكان بالمنطقة عام 1910 ليصل إلى 4.2% بحلول عام 2010، كما قالت وثيقة بعنوان “النزوح المستمر”، والتي تتبعت هجرة المسيحيين من الشرق الأوسط, إن هذا الانخفاض النسبي هو” أحد أهم التغيرات في المشهد الديني العالمي”.
وبالرغم من أن المناطق التي شهدت انخفاضًا مثيرًا في عدد السكان المسيحيين هي لبنان وسوريا وفلسطين ومصر (والأخيرة تعد أحد أكبر الدول من حيث الكثافة السكانية المسيحية منذ عام 1910)، إلا أن مصر شهدت تراجعًا سريعًا منذ السبعينيات حيث انخفضت النسبة من 18.7% عام 1910 إلى 10.1% عام 2010، على كلٍ , فقد اعترضت المنظمات المسيحية القبطية المصرية على هذه التقديرات الرسمية حيث ادعت أن الرقم أكبر من ذلك، وفي التقرير الذي نشرته مجلة “هارفرد لسياسات الشرق الأوسط” قدّرت أنه بحلول عام 2025 سوف تتناقص النسبة إلى 8.5% .
هذه الهجرة واسعة النطاق للمسيحيين الأقباط بدأت منذ عمليات تأميم الأصول العشوائية التي قام بها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في الستينيات كما يوضح التقرير الوثائقي “الهجرة من الجذور”، لكن حالات الهجرة ارتفعت بصورة جذرية عقب ثورة 2011 , مع ازدياد العنف الطائفي والعداوة الإجتماعية والقيود الحكومية التي تجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للأقليات الدينية، ليس فقط المسيحيين بل اليهود أيضًا والبهائيين والأقليات من المذاهب المسلمة الأخرى.
أحد أشهر حالات العنف تلك, حدثت في أغسطس 2013 عقب فض اعتصام الإخوان المسلمين برابعة العدوية, حيث أُحرقت عشرات الكنائس والممتلكات القبطية, وتعرض مئات المسيحيين للاعتداءات والترهيب في عدة محافظات، والأمر أبعد من أن يكون حوادث منفصلة, حيث أشارت منظمة حقوق الإنسان إلى أن حوادث العنف الطائفي استمرت بعد الإطاحة بالرئيس الإسلامي محمد مرسي عام 2013 , وارتفعت إلى 15 حالة وثقتها اللجنة المصرية للحقوق والحريات بين عامي 2013 و 2014.
” لقد تلقيت تهديدًا بالموت لكنني لن أغادر بلدي أبدًا” يقول مايكل، رجل أعمال من القاهرة يبلغ 53 عامًا، حدث هذا الأمر في صيف 2013 عندما تلقى رجل الأعمال الذي يدير شركة منسوجات إتصالًا هاتفيًا من شخص مجهول، “كان هناك رجل على الطرف الآخر من الهاتف يهددني بالموت إذا لم أغادر البلاد, لقد قال لي: (فلوسك حلالنا) وأنهم سيأخذون أموالي لأن مصر ستصبح دولة إسلامية، ثم أقفل الخط”، ويضيف مايكل: “لقد تكرر الأمر كثيرًا , حتى أن زوجتي لم تترك أطفالنا يغادرون المنزل أبدًا , لكنني لم أُعر الأمر أي اهتمام , كنت متأكدًا أنه لن يحدث أي شيء”.
يقول رجل الأعمال: “لم يغادر أي من معارفي مصر، وأنا أيضًا لن أغادر، لماذا أتركها؟ كنت لأفعل ذلك لو أن عائلتي بالخارج لكن حياتي كلها هنا، ويجب على جميع المصريين ألا يغادروا وطنهم”.
الأمر مختلف بالنسبة لمريم وزوجها, فإمكانيات الحياة في وطنها لا تساعدها على تحمّل البقاء، “الأمر لا يرتبط فقط بالمسيحيين الذين يغادرون مصر, لكن المشكلة أيضًا أنه لا يوجد وظائف” تقول مريم، لقد قدمت هي وزوجها طلب الهجرة منذ 2011 وأثناء انتظار الموافقة انتقلا مع ابنتهما (16 شهرًا) إلى دولة خليجية, حيث يستطيع زوجها الحصول على راتب أعلى وادخار النقود من أجل الانتقال في المستقبل.
شهدت مريم مغادرة خمس أزواج مسيحيين آخرين لمصر في العام الماضي بحثًا عن حياة أفضل في السويد أو المملكة المتحدة أو كندا، ” إحدى صديقاتي, والتي أصبحت طبيبة ناجحة في المملكة المتحدة, كانت تشعر بالتمييز العنصري باستمرار في الجامعة بسبب دينها” تقول مريم.
” يواجه المسيحيون مشكلات عديدة وليس فقط تطرف الإسلاميين” يقول مينا ثابت, باحث في اللجنة المصرية للحقوق والحريات، ويضيف: “إنهم يواجهون مجتمعًا محافظًا, مجتمع لا يقبل الآخرين, وسلطات لا تحترم حقوق الأقليات, فالوضع لم يتغير منذ حكم مبارك أو المجلس العسكري، في الأسبوع الماضي, تم اعتقال عشر مسيحيين لأنهم حاولوا بناء حائط لكنيسة”.
وبالرغم من أن الرئيس السيسي كان قد أعلن عن جهوده لمواجهة التطرف, فعلى سبيل المثال منع الدعاة السلفيين من إلقاء الخطب في المساجد, إلا أن منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية تدين استمرار البلاد في تطبيق قانون الإلحاد، حيث يقول بعض القادة المسيحيين أن هذه الأداة القانونية تُستخدم لاضطهاد المجتمع القبطي.
ارتفع عدد قضايا الإلحاد – والتي تتضمن إرسال الأشخاص المدانين بإهانة الإسلام إلى السجن –في أعقاب ثورات الربيع العربي عام 2011, لكن المدافعين عن الحريات يقولون أن العدد الإجمالي للقضايا لم يتغير حتى بعد قدوم حكومة أكثر اعتدالًا في عهد السيسي, وذلك طبقًا لتقرير من جريدة ” فورين بولسي”؛ ففي شهر مايو الماضي, تم اعتقال 4 مراهقين تتراوح أعمارهم بين 15 و16 عام في محافظة المنيا لسخريتهم من فيديو خاص بتنظيم الدولة الإسلامية حيث استخدموا عبارات خاصة بالمصليّن المسلمين.
“لقد رأيت العديد من المسيحيين المتهمين بالإلحاد وازدراء الأديان لذا فهم يطالبون باللجوء للدول الغربية ومغادرة مصر, إنهم لا يريدون البقاء في السجن” يقول ثابت, المتخصص في شؤون الأقليات والجماعات المستضعفة.
وبينما غادر العديد من المسيحيين المصريين البلاد نظرًا للظروف الأمنية في السنوات التي أعقبت ثورة 2011, إلا أن غالبيتهم الآن يفعلون ذلك بحثًا عن ظروف معيشية أفضل, وهذا الدافع ليس حكرًا على المسيحيين فقط لكنه ينطبق على جميع المصريين الذين يغادرون البلاد، “لقد غادر العديد من أصدقائي أثناء حكم جماعة الإخوان المسلمين, لقد شاهدت حوالي خمس عائلات يغادرون إلى الولايات المتحدة وكندا وإستراليا وألمانيا, كانوا خائفين من أن تصبح مصر دولة إسلامية, لقد كنت خائفًا أيضًا” يقول جرجس, مهندس في الـ 29 من عمره يسكن في هيليوبلس بمصر الجديدة، لقد قام بإنهاء الاستمارة للحصول على تأشيرة عمل في كندا حيث يخطط هو وزوجته البيروية (من البيرو) للاستقرار هناك، “نحن نرغب في الرحيل لأن الظروف المعيشية أفضل في الخارج, لكن الهجرة ليست سهلة بالنسبة لي, فعندما أتحدث مع أصدقائي المهاجرين يخبرونني أنهم يفتقدون مصر ويحنّون للمقاهي والتجمعات العائلية والحياة الإجتماعية المصرية “.
في إحدى المقالات المثيرة للفكر, تقول المدونة المهاجرة سلمى موسى أن قضية الهوية هي الدافع الرئيسي وراء مغادرة الأقباط المصريين للبلاد، وتلاحظ المدوِنة أنه بينما تقول السردية الرومانسية بأن الأقباط هم “المصريون الأصليون” مما يعطي المجتمع القبطي دورًا مهمًا, فإن صعود الإخوان المسلمين وتعريفهم لمصر كجزء أكبر من الهوية العربية والإسلامية, جعلتهم منفصلين عن المجتمع.
“كل هذه الأسباب الفعلية للهجرة ليست سوى واجهة لإخفاء الشعور المؤلم بفقدان الهوية المصرية, والاختيار الذي يدمي القلب بين أن يكونوا غرباء في وطنهم أو مواطنين في بلد غريبة”.
المصدر: كايروسينس