يُعد نداء تونس ظاهرة سياسية فارقة في تاريخ تونس الحديث لما حققه من إنجاز سياسي وحضور على مستوى السلطة في فترة قصيرة من عمر الأحزاب، وفي فترة اشتد فيها الزحام الحزبي، فبعد فوز حركة النهضة بانتخابات 2011 وتحقيقها الأغلبية داخل المجلس التأسيسي وتصدرها للمشهد السياسي بتشكيل أول حكومة يقودها إسلاميون بتونس والوطن العربي، بادر الكثير للوقوف عند ضرورة خلق توازن في المشهد السياسي وتعديل ميزان القوة حتى لا تنفرد به حركة النهضة خاصة في مرحلة التأسيس وتشكيل قانون اللعبة السياسية في ظل مسار صياغة دستور الجمهورية الثانية.
استحضار ظروف نشأة نداء تونس لا يمكن عزلها عن الوضع العربي حينها وخاصة مع صعود التيار الإسلام السياسي وتصدره للمشهد السياسي في بلدان الربيع العربي، حيث بدأت تتشكل ملامح موازين قوى جديدة تعيشها المنطقة لتفرض تعديلاً في معادلة النفوذ والفعل الإقليمي ببروز لاعبين جدد غير تقليديين، وكان على القوى الكبرى في المنطقة استيعاب حالة التغير الحاصلة وملاحقتها بالاحتواء والتوجيه، ولعل الحالة التونسية حينها كانت متقدمة من ناحية الاستيعاب، وكان الوضع الداخلي باختلالاته السياسية وصعود نجم الإسلاميين في السلطة، ومع التخوف الإقليمي الظاهر – إن كان من بعض الدول العربية المتخوفة من امتداد تجربة التحول الديمقراطي أو من خلال المتنفذين في المنطقة وخوفهم على مصالحهم – كانت ظروف نشأة حركة نداء تونس ليجتمع حولها كل المتخوفين والرافضين لتجربة الإسلام السياسي، من القابلين بأدوار محدودة لها في السلطة إلى الرافضين لها تمامًا كفاعل سياسي.
فكرة الضد
تأسس نداء تونس على “فكرة الضد” لتجمع حولها أطيافًا سياسية مختلفة، من يساريين ونقابيين ورموز ثقافية وفكرية ومن النظام القديم من تجمعيين ودساترة، وهي توليفة وصفها البعض بالهجينة والتي تحمل بذور الانفجار داخلها، واليوم يشهد الحزب أحلك الفترات التي قد يمر بها حزب سياسي في بداية تأسيسه مع تصدره للمشهد السياسي وفوزه بالانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة وهو ما يضعه تحت ثقل المراهنين عليه، وقد بلغ الوضع داخله حالة الانفجار التي توقعها الكثير من المحللين السياسيين، هذه الوضعية تطرح سؤالاً جوهريًا حول قدرة النداء على الاستمرار ومواصلة فرض تواجده السياسي ككيان حقق التوازن المطلوب منه، ونجح في قلب معادلة النفوذ السياسي والسلطة لصالحه، والأكيد أن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي الوقوف عند عمق الأسباب التي دفعت لتأسيسه والمراهنة عليه، وهل تنتفي موجبات بقاء نداء تونس بانتفاء هذه الأسباب أم أن مشروع الحزب أكبر وأعمق حتى يستولد من داخله أسباب استمراره وديمومته.
وأول ما يجب استحضاره هو معالم المشهد السياسي ما بعد انتخابات 2011 الذي كان أولى الدوافع التي أفرزت نداء تونس، حينها كانت الفكرة الموحدة والبارزة التي جمعت كل المساهمين فيه هي محاصرة القوة الصاعدة “حركة النهضة” والتي أقلقت المتمترسين وراء فكرة الحداثة والتقدمية، إذ رأوا في الحركة الإسلامية خطرًا عليها لتهدد نمط عيش التونسي وتقوض خصوصيته وما حققه من إنجازات طيلة حياة جمهورية الاستقلال، كما أنه لا يمكن مجانبة المعطي الإقليمي والدولي الذي راهن كثيرًا على تحجيم دور الإسلاميين في السلطة خاصة مع مراهنتهم على الديمقراطية، وهو الملعب “المخصوص” لكل المنادين بالحداثة والتقدمية.
ولا شك أن تواتر نجاحات الإسلاميين تلك الفترة في بلدان الربيع العربي وتصدرهم للمشهد السياسي وللسلطة أقلق الفاعلين التقليديين في المنطقة ليسارعوا إلى احتواء الوضع القائم حتى على حساب الاستقرار السياسي ونجاح تجربة الانتقال الديمقراطي، وقد شهدنا تلك الفترة قلاقل اجتماعية وأمنية ضيقت الخناق أكثر على الإسلاميين في السلطة ودفعت إلى تحجيم دورهم.
ضمن هذا السياق، يأتي تأسيس نداء تونس، وضمن تلك المطالب حينها يمكن اعتبار أن الحزب نجح في احتواء الإسلاميين ليفرض لاعبين جدد في المعادلة السياسية بإمكانهم أن يحققوا مطلب الاحتواء والتوجيه الذي بحث عنه كبار اللاعبين في المنطقة لضمان نفوذهم، ولكن مع ما جاءت به الانتخابات التشريعية لسنة 2014 يمكن الاعتبار أن حركة النهضة ثبّتت نفسها لاعبًا رئيسيًا ومهمًا في المعادلة السياسية في تونس وركن مشكل له سيستمر لعب دوره لسنوات مقبلة، بل وفرضت نتائج الانتخابات أن يدخل في شراكة سياسية مع مشروع “الضد” الذي تأسس عليه – أي هو نداء تونس – ضمن فكرة التوافق التي عبرت عنها في مرحلة أولى مخرجات الحوار الوطني، واليوم أصبح مقدرًا على الطرفين تجاوز الخلافات الأولى التي جمعتهما للتفاعل مع خيار الشراكة السياسية القائمة وإنضاجها، ومع ما عبر عنه قيادات الحزبين بتدعيم هذا الخيار وبحث عن مخرجات أخرى له غير القائمة لتعزيزه في الوقت الحاضر.
هل يجسد النداء فكرة المشروع الدستوري البورقيبي؟
لكن ليس بالإمكان تقييم وضع نداء تونس وتقدير نجاح مشروعه وبقائه دون الوقوف عند هويته السياسية التي عبر عنها خاصة خلال المخاض الأول للتعريف به مع ما حمله الحزب من روافد متعددة، متناقضة أحيانًا، التزمت تلك الفترة تجاوز الخلاف حول الهوية خاصة مع خوضه أولى الانتخابات المنافسة لحركة النهضة والتي كانت قائمة على فكرة البديل والنقيض للمشروع الذي جاءت به الحركة الإسلامية، لكن ما التزم به رئيس الحزب حينها الباجي قائد السبسي هو التعبير عن الهوية البورقيبية لنداء تونس ليكون حاضنة للعائلة الدستورية وقابلاً بالتجمعيين كمكون أساسي للمشروع.
ورغم أن العديد من الأحزاب تبنت المشروع الدستوري وحاولت التعبير عنه والدفاع عن حق تواجدها السياسي إلا أنها لم تقدر على فرضها رقمًا مهمًا في المعادلة السياسية القائمة، فكان الأمل مطروحًا على نداء تونس ليكون رافد أساسي للعائلة الدستورية البورقيبية، حتى إن العديد من الأحزاب الدستورية القائمة حينها طرحت فكرة الاندماج داخل نداء تونس (لولا الموانع الشخصية لقادة تلك الأحزاب)، كما أنها عززت فوز النداء في الانتخابات التشريعية والرئاسية ضمن ما سمي بـ “التصويت المفيد” vote utile، ولكن مع ما يعيشه النداء خلال المرحلة الأخيرة من خلافات وصراعات، تجدد الحديث حول الهوية التي سيرتكز عليها النداء، وهل سيكون قادرًا على تجميع العائلة الدستورية البورقيبية خاصة مع انتصار الرئيس المؤسس الباجي قائد السبسي للتيار الماسك حاليًا بزمام الحزب والذي يجاهر بتمثيله لهذه العائلة، داعيًا لمزيد من تموقعها داخل الحزب وتمكينها من عودة حضورها السياسي في السلطة.
ومقابل هذا الخيار، تعمل حركة النهضة الشريك الأساسي للنداء في الحكم – حسب ما يعبر عنه بعض قياداتها – إلى مزيد من تمكين العائلة الدستورية البورقيبية من الحضور السياسي حتى على حساب شركائه السابقين في السلطة خاصة العائلة الديمقراطية الاجتماعية، هذا التوجه لطرفي السلطة الرئيسيين قد يعزز تمكن نداء تونس من التعبير أكثر عن هويته الدستورية البورقيبية، واليوم يمكن اعتبار ديمومة تواجد نداء تونس كحزب متماسك صاحب مشروع، رهين قدرته ونجاحه في التعبير عن هويته السياسية وتمكنه من أن يكون حاضنة للعائلة الدستورية البورقيبية.
نداء تونس حزب سلطة أم لا؟
تتعدد الأسباب الرئيسية لنشأة نداء تونس وتتنوع لتكون هي نفسها من الأسباب التي قد تؤدي لانقضاء أجل الحزب، وعلاقته بالسلطة وقدرته على تحقيق الوعود التي أطلقها في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة – في حدودها الدنيا – ستكون من أهم المعايير التي ستمتن بقاء الحزب في المشهد السياسي أو تعمق جراحاته الحالية بل وقد تعجّل بانتفاء بقائه كرقم في المعادلة السياسية، إلا إذا تمكن من تجذير هويته – البورقيبية الدستورية – والإبقاء على حالة التمايز التي أوجدها مقابل مشروع حركة النهضة – دون أن يسقط في مطب الإقصاء، ويبقى في المخيال الشعبي التونسي حزب قوي في قدرته على الاستجابة لمطالبه وبالتالي قدرته على النجاح في السلطة، والوضع الحالي لنداء تونس، ومع حالة التخبط الداخلي الذي يعيشه، فإن الناخبين التونسيين لم يستقر بعد عندهم صورة النداء القادر على المسك بزمام السلطة وتسييرها وتلبية حاجيات المواطنين.
هل هناك بديل عن النداء؟
كل ما سبق ذكره من أسباب تأسس عليها نداء تونس تدعو للوقوف عند قدرة الحزب على البقاء ضمن الرهان الملقى عليه، إن كان في علاقة بالوضع الداخلي وقدرته على تجسيد الصورة النمطية عن حزب السلطة الذي يبحث عنه الناخب التونسي، أو في علاقة بالمعطى الدولي الذي لم يستقر بعد في قبوله بالإسلام السياسي كلاعب رئيسي في المشهد السياسي وفي السلطة، واليوم، ومع تعدد المبادرات السياسية المطروحة باختلاف ألوانها، وتشكيلات حزبية جديدة، لا يمكن الحديث عن لاعب جديد قادر على خلافة نداء تونس وتحقيق المعادلة السياسية بمطالبها الداخلية والخارجية والتي حققها النداء خلال السنوات الأخيرة، وهذا يعزز تواجد الحزب في المشهد السياسي وقد يثبّت ذلك من خلال الاستحقاق الانتخابي القادم.
كل الدلائل اليوم تشير إلى الوضع الدقيق الذي يعيشه نداء تونس في علاقته بالسلطة وفي تحقيقه معادلة التوازن في المشهد السياسي، ليتعاظم الرهان عليه داخليًا وخارجيًا مع ضعف الفاعلين السياسيين وقدرتهم على تثبيت تواجدهم في معادلة القرار والسلطة، وحالة الاطمئنان المفقودة حول نداء تونس تدعو الماسكين بزمامه ليحققوها ويشتغلوا عليها قبل أن تزداد حالة التآكل التي تنخر الحزب يومًا بعد يوم.