أعتقد أن فكرتنا عن السينما الرومانسية مشوهة كثيرًا، ويعود السبب أساسًا إلى صناعة السينما نفسها التي تحاول النفاذ إلى جيب المشاهد قبل النفاذ إلى روحه، والحقيقة أن الرومانسية في الفن صعبة بقدر ما تبدو بسيطة، لأن ما يفصل بين العبقرية والابتذال هنا، خيطٌ رفيع يزداد سمكًا كلما ازداد الذوقُ جودة، ولأن الجودة لا تزداد إلا بتلك الأعمال الفنية العبقرية، فإن المرء يجد نفسه في حلقة مفرغة من الأعمال السيئة التي تزيد من الذوق سوءًا وترغيبًا في أعمال أكثر سوءًا.
إن أكثر الأفلام الرومانسية رواجًا هي تلك الأفلام الأمريكية التي تضم جملة من الأنماط (patterns) الدرامية المتكررة بشكل مكثف، مع الحفاظ على شخصيات وعلاقات شديدة السطحية وأحادية الأوجه في أغلب الأحيان، ويتم التعويل فيها تمامًا على موسيقى الخلفية والمفاجآت الدرامية لابتزاز المشاهد عاطفيًا.
إن المشكل غالبًا ليس قصة الحب في ذاتها (لأن الحب هو ذاته في أغلب الأحيان)، وإنما بعض المعرقلات الخارجية، مثل المرض والحرب والكبرياء أحيانًا، وكل ما يمكن أن يثير شفقة المشاهد تجاه أحد المتحابين، كما تتميز هذه القصص في الكثير من الأحيان بطابعها المرح ومشاهد الكوميديا وهو ما جعل هذه الأفلام في الغالب تندرج ضمن ما سمي بالكوميديا الرومانسية، أما الشخصيات فغالبًا ما تكون رائعة مثالية عدا عيب وحيد يتم العمل عليه لاستخراج حبكة الفيلم (الرجل متهور، أو المرأة لعوب، إلخ)، وعادة ما يكون هناك شخصية مساعدة مرحة وكثيرة الإضحاك.
تقدم هذه الأفلام كمية من العواطف تكفي لتبليل المناديل، ولو بشيء من التكلف، وهي في ذلك تشبه أفلام الرعب (والتي أفضل تسميتها سينما الفزع)، كلاهما قد يكون مسليًا ومفيدًا لمجابهة بعض الاختلالات النفسية، لكن لا يمكن التوقف عند هذه الأعمال للحكم على السينما الرومانسية.
سأحاول أن أقدم إليكم جملة من الأعمال السينمائية المؤسسة على علاقة حب بين شخصين (هناك تلك العلاقات المعقدة التي تتجاوز الشخصين مثل رائعة إيليا كازان “عربة قطار اسمها الرغبة”)، ولقد تغافلتُ في هذه القائمة عن تلك الأعمال التي تعتمد على قصة الحب للحديث عن أشياء أخرى (مثل فيلم فورست غامب، ومصير أميلي بولان المدهش)، إن هذه الأعمال، فضلاً عن حسن صنعتها، مدهشة في إبداعها وأفكارها وتعبيراتها السينمائية، وتدعو المشاهد إلى التفكير في الحب بقدرما تثير الحاجة إليه.
10 ـ مزاج للحب Fa yeung nin wa ـ (2000)
هو الاسم الذي اختاره المخرج وونغ كار- واي (Wong Kar Wai) لفيلمه الأشهر، والحقيقة أن هذا الرجل البارز في سينما الموجة الجديدة الثانية، عُرف بأعمال مهمة أخرى لكن يبدو أن الطابع الرومانسي لهذا الفيلم كان عونًا كبيرًا لرواجه تجاريًا، يقص لنا كار واي تفاصيل علاقة غريبة بين رجل وامرأة اكتشفا أن زوجيهما يخونانهما معًا، إن ألمهما المشترك في مختلف أبعاده، وإن العاطفة بينهما لن تجد نارًا أشد توقدًا لها من نار الانتقام، لكن ذلك يعني أن ينحُوَا منحى زوجيهما الذي أداناه.
تتميز سينما كار واي بهذا التداخل المرهف بين الجمالي في الصورة، والمربك في المعنى، ولقد ترجم هذا الفيلم فلسفة وونغ كار واي السينمائية تمامًا.
9 ـ ألعاب صبيانية Jeux d’enfants ـ (2003)
من أعجب بفيلم المصير المدهش لأمِلي بولان Le fabuleux destin d’Amélie Poulain فسيعجب حتمًا بهذا الفيلم، ولئن كان فيلم أملي متمحورًا أساسًا حول الشخصية الرئيسية وتعاملها مع مختلف عناصر الحياة (بما فيها الحب) فإن هذا الفيلم يدور أساسًا حول العلاقة الملتبسة بين بطلي الفيلم جوليان “غليوم كاني Guillaume Canet” وصوفي “ماريون كوتيار Marion Cotillard” إنه الفيلم الذي اتخذ أساسًا لفكرته، تلك القولة الشهيرة لابن حزم: الحب أعزك الله أوله هزل وآخره جد، فكيف يتحول الحب من الهزل إلى الجد؟ وهل من الجدي التعامل مع الحب بمنتهى الهزل؟
إنها تلك الأسئلة التي سوف تراودك وأنت تتابع تطور لعبة “هل تستطيع” التي دأبا عليها منذ طفولتهما، إلى شيء مرضي لا يكاد يحتمل، فمن يخرج فائزًا في لعبة الحب هذه؟
8 ـ حب Amour ـ (2012)
يقدم لنا المخرج الألماني مايكل هانِكه تصوره الفريد عن الحب من خلال قصة زوجين عجوزين يعيشان لحظات حبهما الأخيرة، يكشف لنا من خلال عدسته الصارمة المراقبة الصامتة الهادئة يوميات جورج وآن وهما يستقبلان بعد سن الثمانين شللاً أقعد الزوجة وجعل الزوج يجاهد للحفاظ على حياة كريمة لكليهما، وصورة مشرقة لحبهما الكبير.
إنها المعركة الأخيرة بين الحلم والواقع، بين ما يجعل القلب ينبض وما يجعله يتوقف عن النبض، إنها المعركة بين الحياة والموت، وبين الحب والعجز، يمكن للمرء من خلال هذا الفيلم أن يكتشف أن الصورة السينمائية قادرة على صنع التفاعل العاطفي من دون الحاجة إلى التكلف والانفعال المفرط والموسيقى الهستيرية، إن الحقيقة وحدها كافية.
7 ـ ضائع في الترجمة Lost in Translation ـ (2003)
شارلوت الفتاة الفاتنة الصغيرة التي تمثلها سكارلت جونسون، تأتي إلى طوكيو مع زوجها المصور الفوتوغرافي اللامع، لتجد نفسها وحيدة ومعزولة في مدينة لا تفهمها، في نفس الوقت الذي يحط فيه الممثل الكهل المعروف بوب “بيل موراي” الرحال في نفس الفندق، لأداء إشهار تجاري في طوكيو، يجد الرجل نفسه في دوامة الوحدة والعزلة ذاتها التي فيها شارلوت، لم يكن لقاؤهما في الفندق إذًا صدفة بقدر ما كان حتميًا.
إن عادة قصص الحب، أن تنشأ وسط سياقات استثنائية مختلفة، لكن في هذا الفيلم، يبدو أن الحب هو الاسثنائي، إنه كل ما لم يحصل بين بوب وشارلوت، إنه تلك القصة التي يفترض أن تحدث بينهما، إنها تلك التفاصيل الخفية التي تشي بما لا يوجد، في عبقرية ليست تعرف سرها سوى المخرجةُ صوفيا كوبولا، ولعلها في النهاية مجرد تفاصيلٍ ضاعت في الترجمة.
6 ـ قبل الشروق Before Sunrise ـ (1995)
أعتقد أن الفيلم أشهر من تقديمه، إنه بداية الثلاثية الرومانسية الشهيرة للمخرج الأمريكي المتميز ريتشارد لينكلايتر، يروي الفيلم تفاصيل اللقاء المدهش الذي جمع بين الأمريكي جيسي (إيثان هاوك) والفرنسية سيلين (جولي دلبي) في قطار يقف بهما في فيينا، فاسحًا المجال لليلة وحيدة يتعرفان خلالها على بعضهما البعض قبل أن يشد كل منهما الرحال إلى بلاده، هو أحد الأفلام النادرة التي تعتمد أحداثها أساسًا على الحوار لا غير، الحوار وحده من يكشف لنا طبيعة الشخصيتين وخفاياهما وهو الذي يدفع بكليهما إلى اتخاذ القرار وتغيير القناعات.
إن ما يجعل هذا الفيلم ساحرًا، هو تلك الصورة الجميلة والمختلفة عن المتحابين، فلِسيلين وجيسي مواضيع أخرى غير التغني كلٌ بصاحبه، وغير المشاعر والعراقيل التي تحول دون وصالهما، بل هما يوغلان في ذلك الذي جمع بينهما وجعل كلا منهما يهتم بالآخر: ذاته نفسها، يتحدثان عن كل شيء، ويستمتعان إلى آخر رمق من الليل بحديثهما، ويمتعان المشاهد، ويجعلانه يحلم بليلة لا كتلك التي تغنت بها أم كلثوم، وإنما ليلة من التفاعل الروحي الجميل.
5 ـ إشراقة أبدية لعقل طاهر Eternal Sunshine of the spotless mind ـ (2004)
حين شاهدتُ الممثل الكوميدي الشهير جيم كاري في معلقة الفيلم، استغربت أن يكون للعمل علاقة بالرومانسية، لكنني كنت مخطئًا تمامًا، إن هذا الفيلم ذا الاسم الغريب، أحد أفضل أعماله وهو أيضًا أحد أفضل أعمال الرائعة كايت وينسلت، وتكمن عبقرية الفيلم في الخلطة العجيبة التي جمعت بين الرومانسية والخيال العلمي.
تصل العلاقة بين جويل “جيم كاري” وكليمانتين “كايت ونسليت” إلى نهايتها، ورغم الحب الكبير بينهما يقتنعان بأن الحل يكمن في أن ينسى كل منهما صاحبه حرفيًا، في عالمهما المستقبلي، يمكن للطبيب أن ينتزع من ذاكرتك تمامًا كل أثر لأي شخص تريده، لكن فقط حينما نسي كلٌ منهما الآخر، فهما عمق العلاقة التي تربط بينهما.
إن الخيال العلمي هنا ليس زخرفيًا بقدر ما هو جزء مهم من حبكة الأحداث، ولقد ساهمت هذه الطرافة في إيجاد مذاق خاص لرومانسية الفيلم، فضلاً عن أداء البطلين الذي يخضع لأي تقييم، وإنما يفرض عليك الاستمتاع فحسب.
4 ـ إفطار عند تيفاني Breakfast at Tiffany’s ـ (1961)
في هذا الفيلم الكلاسيكي الشهير من الستينات، تقدم لنا الساحرة أودري هيبورن Audrey Hepburn دور فتاة جميلة تحاول ممارسة بورجوازيتها وإبدائها والانتفاع منها، وسط مجتمع نيويورك الراقي والمنافق، وتلعب الصدف دورها لتلتقيَ بباول “جورج بيبرد” وتبدأ العلاقة الملتبسة بينهما التي تختل فيها الحدود بين الحب والصداقة، وتتأرجح فيها المشاعر بين التلميح والتصريح، وتكتشف خلالها هولي “أودري هيبورن” كم تخفي من الضعف خلف قناع بورجوازيتها الزائفة.
يعتبر هذا الفيلم أيقونة سينمائية مهمة ولقد خلدت أودراي هيبورن في سجل هوليود بفضل هذا الدور التاريخي الذي عبر بإتقان كبير عن التقلبات الحضارية والاجتماعية التي شهدتها الولايات المتحدة والعالم الغربي في تلك الفترة.
3 ـ الدار البيضاء أو Casablanca ـ (1942)
إنه الفيلم الكلاسيكي الشهير، أحد أهم معالم هوليود في عصرها الذهبي، يعتبر هذا الفيلم ملحمة حقيقية جمعت تقريبًا كل شيء في أقل من ساعتين من المشاهد السينمائية العالية الجودة، يذهب بنا الفيلم إلى المدينة المغربية الجميلة، في أوج الحرب العالمية الثانية، حيث تحولت الدار البيضاء إلى أكبر احتشاد للجواسيس وضباط المخابرات في العالم، ووسط هذا الصراع الخفي الحامي، تولد قصة الحب المفاجئة بين الأمريكي المهاجر ريك “همفري بوغارد” وزوجة أحد المقاومين التشيكسلوفاكيين للنظام النازي، إلـزا “إنغريد برغمان”، ويصبح الفرار من هذا العالم الرهيب نوعًا آخر من المقاومة.
صنف معهد الأفلام الأمريكي هذا الفيلم على أنه ثاني أعظم فيلم هوليودي على الإطلاق – بعد فيلم المواطن كاين – واعتبره أعظم قصة حب صورتها السينما، ومنه مشاهد عديدة واقتباسات تعتبر أيقونات سينمائية شهيرة كثيرًا ما تقلد.
2 ـ آني هال Annie Hall ـ (1977)
إنه الفيلم الذي يذكره أي شخصٍ حينما يسمع اسم وودي آلن، ذلك المخرج الأمريكي غريب الأطوار، المثقف، الساخر، الممتع، المؤذي، بأفكاره وتعبيراته المتفردة، لقد قدم وودي آلن أرق أعماله وأكثرها جمالاً منذ بداياته، من خلال الاعتماد على شخصيته الفريدة (أجل هو نفسه بطل الفيلم، ويمثل تقريبًا شخصيته ولكن باسم ألفي سينغر) والتي سيستعملها في أغلب أعماله اللاحقة، وعلى شخصية آني هال الاستثنائية (ديان كيتون) التي ملأ حضورها المشهد رغم الكاريزما الذهنية التي يتمتع بها وودي آلن.
تقدم المعلقة الفيلم على أنه “ما يكاد يكون قصةَ حب”، وبهذا النفس الساخر المتفلسف، يروي لنا ألفي سينغر تفاصيل علاقته بآني هال، منذ أن التقاها لأول مرة، إلى أن افترقا، مرورًا بكل تلك اللحظات التي تميز كل علاقة حب، على أن تلك اللحظات لا يمكن أن تخرج من ذهن عصابي عبقري كذهن وودي آلن، على شاكلة اللحظات القابعة في ذاكراتنا، إنها لحظات ساحرة، ساخرة، محدَودبة أو مقعرة أو أي شكل متمرد آخر، آني هال، هي تلك التجربة الساحرة التي تجعل من النهايات الحزينة أمرًا ثانويًا جدًا.
1 ـ أنوار المدينة City Lights ـ (1931)
أجل، إنه تحفة تشارلي تشابلن الخالدة، ذلك الفيلم الذي كتبه وأخرجه وقام ببطولته العبقري البريطاني هو أعظم ما صنف كوميديا رومانسية، وهو برأيي أهم أعمال هذا الرجل إلى جانب أعجوبة “عصور حديثة”، يستعيد تشابلن في الفيلم شخصية المتشرد الشهيرة (The tramp)، ليقابل في شوارع المدينة العامرة، امرأة كفيفة جميلة تبيع الورود.
يقع المتشرد في هوى بائعة الورود، ويقرر أن يجد لها المال الكافي لتجريَ عملية جراحية لاستعادة بصرها، وتتكفل رحلة البحث بخلق الملحمة الساخرة من هذه الحضارة المهيبة التي تخفي خلف عظمة تماثيلها، وأبهة أثريائها، وبذخ احتفالاتها، أمراضًا وعاهات، وأنها ربما تفتقر إلى الحب الذي يملكه متشرد يعيش خلف أنوار المدينة.