برينتن يُشرّح الثورة فى العصر الحديث
المؤرخ الأمريكي الأشهر “برينتن” حاول تشريح الثورة الحديثة التي حدثت في الغرب وجمع المتشابه بين الثورات الأربع الكبرى: الإنجليزية، الأمريكية، الفرنسية، والروسية في كتابه “تشريح الثورة” ولا نظن أنه يختلف كثيرًا عما سُمي في التاريخ الإسلامي بأحداث “الفتنة”.
وضع برينتن أربع مراحل تمر بها الثورة كما يلي:
(1) مرحلة التمهيد للثورة، والتي تتميز بالتنافر الطبقي، وعدم كفاءة الحكم، وتبدّل الولاءات الفكرية، وفشل القوة.
(2) مرحلة تصاعد الثورة، وزيادة الاحتجاجات والأحداث المثيرة، ووصول “المعتدلين” للسلطة.
(3) مرحلة فشل المعتدلين في تحقيق الاستقرار، واستيلاء “المتطرفين” على السلطة وربما يؤدي ذلك لحدوث حرب أهلية أو التورط في حرب خارجية.
(4) مرحلة النقاهة أو الخلاص، على يد ديكتاتور ذي قبضة قوية يقمع المتطرفين ويصدر العفو عن المعتدلين ويعود معه المجتمع إلى الهدوء ببطء.
ويمكننا أن نتفهم المرحلة الثانية والثالثة في ضوء نظرية تباعد الروابط النخبوية والانفجار الاجتماعي التي تحدثنا عنها، بأنه كلما حدث الانفجار الاجتماعي – أو الثورة – مخلفًا وراءه روابط متقاربة القوة والتماسك كلما أطال ذلك من أمد الثورة، وتأخُر استعادة الاستقرار للمجتمع، بسبب الصراع الذي سيقع بين مراكز قوى متكافئة، وهذا ما حدث في الثورة الفرنسية والإنجليزية وأطال أمدها لعقود من الحروب الأهلية، وفي الربيع العربي مثال الثورة السورية والليبية والعراقية، وهذا ما عبر عنه برنتن بالمعتدلين والمتطرفين، أما إذا خلفت الثورة رابطة واحدة أقوى من كل الروابط النخبوية الأخرى كان ذلك لا شك أسرع للاستقرار الاجتماعي والتئام جرح الثورة.
والناس في البداية تميل إلى المعتدلين الذين يرونهم الأقرب إلى تحقيق أهدافهم، فإذا فشلوا في بسط الاستقرار سريعًا وإحكام قبضتهم وَثَبت الروابط الأكثر تطرفًا – إن وجدت – لاقتناص الفرصة، وكلما طال أمد الثورة مل الناس آلامها وجنحوا إلى الاستقرار، وانتظروا الديكتاتور المخلص الذي يفرض الاستقرار بالقوة، ويحقق أهداف الثورة، ومثاله جورج واشنطن في الثورة الأمريكية، وستالين في الثورة الروسية، ومعاوية في أحداث الفتنة.
إلا أن الفرق الوحيد بين أحداث “الفتنة” عند المسلمين، و”الثورة” الحديثة عند الغرب هو القيمة الحضارية، فالقيمة الحضارية تناقصت بعد أحداث الفتنة ومهدت لبداية تراجع حضاري للمسلمين، ولكنها على العكس تصاعدت بعد الثورات الغربية وأخرجت الغرب من عصور الظلام إلى عصر الحضارة!
ولعل هذا هو السبب وراء اصطلاح الناس على تسمية الأولى “فتنة” والثانية “ثورة”، ولعل هذا هو السبب ذاته الذي جعل المسلمين على طول تاريخهم يخشون تكرار أحداثها، أو حتى الحديث عن تفاصيلها، وتناول تحليلها تحت شعار متكرر خطه الرواة والمحدثون (ثم كان ما كان) كنوع من الهروب من التفاصيل، أو العجز عن التحليل، الذي أحدثته الصدمة الفكرية جراء التراجع الحضاري وانتكاس قيم الشوري، والعدالة، والشريعة، وهيمنة الوحي، ولجأت النخب الفكرية إلى تفسيرات عاجزة وسطحية:
ربطتها بالقضاء والقدر مرة منقسمة ما بين:
“الجبرية” الذين برروا لبني أمية أفعالهم تحت مظلة “الجَبر”، وتبرير الفعل بسلطان القدر الكامل عليه، وتوفير الغطاء الشرعي لذلك بأن الإنسان لا يضره مع الإيمان عمل.
و”القدرية” و”المعتزلة” الذين واجهوا ذلك بمبدأ تحرير الفعل حتى من سلطان القدر، ونزع الغطاء الشرعي عنه دون الوقوع في التكفير الذي وقع فيه “الخوارج”، واستبداله بمنزلة وسط بين منزلتي المؤمن والكافر سموها منزلة “مرتكب الكبيرة”.
ومرة أخرى تعتزل هذه النخب الأمر برمته تحت عباءة “التصوف” والانعزال، أو ينتابها التردد تحت عباءة “الإرجاء” فتارة تُرجئ وتارة تنهض للمعارضة.
ومرة ثالثة تحلل الأمر من منظور نفسي وعاطفي وجماهيري حاد، نشأ مع حالة الهياج الاجتماعي والثوري التي حدثت، فترفع رموز الثورة من الصحابة لدرجة التقديس تحت اسم “التشيع”، وتخفض آخرين لدرجة السب والقذف واتهام النوايا، فيتولد عن ذلك رد فعل مُبالِغ في التبرئة والتبرير المتكلف تحت اسم “التسنن”، مما أدخل الأمة في حالة استقطاب متراكمة لازالت تعاني منها لليوم، أودت بالطرف الأول إلى الوقوع في انحراف عقدي نتج عن التقديس المبالغ فيه، وأودت بالطرف الثاني إلى جمود وتقعيد للانحراف الذي حدث نتج عن التبرير المتكلف المبالغ فيه.
تقدير موقف للثورات العربية
يمكننا أن نقرر الآن أن المجتمعات الأسرع في التئام جرحها الاجتماعي – الثورة – هي التي أولاً: تتوفر لها رابطة قوية تستطيع أن تفرض الاستقرار وتجمع النخب والروابط المنشطرة حولها، إما بقوة السلطان أو بقبول وإرساء التعددية التشاركية، وثانيًا: أن تمتلك هذه الرابطة القيمة الحضارية أو ما نسميها “قيم الثورة”، وهذان الشرطان لم يتوفرا مجتمعين في عصر “الفتنة” لأحد، فعلىّ كان يملك القيمة ولكنه لم يملك قوة اليد لبسط الاستقرار، ومعاوية آلت إليه وكان يملك قوة اليد التي بسط بها الاستقرار وجمع الأمة بعد انشطار وفرقة، لكنه لم يملك القيمة الحضارية التي تحفظ للأمة صعودها الحضاري.
وفي الثورات الحديثة توفر الشرطان في الثورة الإيرانية، فكانت أكثر الثورات الإسلامية نجاحًا وأسرعها استقرارًا على الاطلاق رغم استهدافها من الخارج، مع بقاء عامل “التشيع” – الذي تحدثنا عنه – حاضرًا لم تتناوله الثورة في منظورها القيمي والحضاري سوى بجزء ضئيل هو إحلال فكرة “ولاية الفقية” محل فكرة “الإمام المنتظر”، وبعض الخروج عن الغلو في التقديس، ولعل هذا ما أخمد وطأة العداء الخارجي للثورة الإيرانية ومجاراتها بعض الشيء لحاجة في نفس العقل الإستراتيجي الأمريكي بدت ملامحها الآن في بزوغ صراع سني شيعي في الهلال الوسط أسيوي ينذر بعقود أخرى من التفكك والسيطرة على الرقعة الأوراسية بكاملها، وهذا أمر ربما يحتاج علاجه لثورة أخرى أكثر شمولاً وتزامنًا مع الثورة السنية، لكن الثورة الإيرانية لاشك نجحت في بسط قيم ثورية حضارية أخرى، كما نجحت في فرض الاستقرار ورتق الجرح الثوري سريعًا.
والإخوان في الربيع العربي لم يتجهزوا للثورة كما تجهز لها الخميني ورفاقه بعد الانقلاب على مُصدّق، فرغم أنهم يمتلكون القيمة الحضارية أو بمعنى أدق هم الأقرب لتحقيق قيم الثورة، إلا أنهم حين تسلموا السلطة بدوا معتدلين مرتعشي الأيدى في ظل وجود روابط أخرى مكافئة لهم وربما أقوى منهم وأكثر تطرفًا كالعسكريين في مصر، وفي هذه الحالة فقبول الترشيد أو التعددية التشاركية وإرسائها من البداية كان هو الحل الأمثل وهذا ما سارع إلى استدراكه التونسيون واليمنيون بعد الدرس المصري القاسي.
ليس أمام الإخوان في مصر سوى طريقين: إما الرجوع إلى قبول التعددية التشاركية وتحمل تبعات التأخير، وهنا سيقف وجود القتلة دائما عائقًا دون ذلك لكن مع زوالهم سيزول هذا العائق.
أو أن يكونوا أمام تحدٍ آخر وهو أن يحدثوا تحولًا تاريخيًا في تركيبتهم الدعوية والاجتماعية القاصرة إلى تركيبة ثورية واجتماعية وسياسية ناجعة، تمتلك من أدوات القوة والنفوذ ما يمكنها من النجاح فيما فشلت فيه من قبل ولا زالت، خصوصًا وأن الفرصة تجددت أمامهم بفشل العسكريين بدورهم فى امتلاك الشرطين، فلا هم بسطوا استقرارًا يغلق جرح الثورة المفتوح بعد، ولا هم يمتلكون قيمة حضارية، مما يؤذن بحدوث انفجار اجتماعي وثورة أشد فتكًا في القريب المنظور، لن يستطيع أن يسبر أغوارها ويكبح جماحها سوى كيان قوي يمتلك مقومات السلطة والصعود الحضاري معًا.
هذا المقال هو الجزء الخامس من خمسة مقالات بعنوان: نحو فهم جديد للخلاف بين الصحابة – دراسة لتفكيك الحكم الإسلامي والثورة الإسلامية
يمكنكم قراءة الجزء الأول من هنا، الجزء الثاني من هنا، الجزء الثالث من هنا، الجزء الرابع من هنا