“عذرا هيرودوت فلم تعد مصر هبة النيل”، بهذه الكلمات استقبل الملايين من المصريين تلميحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بشأن إمكانية استخدام مياه الصرف الصحي في الشرب بعد معالجتها تقنيًا، وهو ما يفند مقولة المؤرخ الإغريقي الأشهر في التاريخ، الذي توهم أن نهرًا بحجم “النيل” وحده كافيًا أن يحافظ على خصوبة دولة بأكملها حال الحفاظ عليه والدفاع عنه.
وظلت مصر عقودًا تلو العقود تتربع على عرش الدول صاحبة الوفرة المائية فضلًا عن كونها أغنى بلدان العالم الزراعية، وهو ما أهلها لتكون سلة غلال العالم القديم، لكن سرعان ما تبخرت هذه الحقائق لتجد “أرض الكنانة” نفسها بين سندان انخفاض حصتها من النيل ومطرقة زيادة استخدامات الموارد المائية.
ومع الإعلان عن نية إثيوبيا بناء سد النهضة، وما منيت به مصر من فشل ذريع في جولة المفاوضات المستفيضة والتي استمرت ما يقرب من ثلاث سنوات دون نجاح يذكر، هاهم المصريون يواجهون خطر “الفقر المائي” لاسيما في ظل انشغال الحكومات بتثبيت أركانها الداخلية والمؤسسية دون أدنى اعتبار لتلك الكارثة التي قد تحول سلة الغلال إلى صحراء قاحلة.
وبعد أن كان متوسط نصيب الفـرد من الموارد المائية 2526 م3 عام 1947 أيام النظام الملكي الذي اتهمه البعض بالتآمر مع المحتل ضد مصلحة الوطن، هاهو اليوم يصل إلى 600 م3 في 2015 في ظل الأنظمة الجمهورية المستقلة، ومن المتوقع أن يصل إلى 475 م3 عام 2025، ليبقى التساؤل: هل آن الأوان أن يشرب المصريون – أصحاب أطول أنهار العالم – من مياه صرفهم الصحي؟ ومن المسؤول عما وصلت إليه هذه الأوضاع؟
اتفاقيات المياه.. تاريخ من إهدار الحقوق
من الأمور العجيبة التي فرضت نفسها على مائدة النقاش في الآونة الأخيرة أن الدول التي احتلت مصر كانت أحرص على مصالحها فيما يتعلق بحصة المياه من النيل من الحكام المصريين أنفسهم وهو ما كشفته الاتفاقيات التي أُبرمت بين مصر ودول حوض النيل والتي فضحت حجم تراخي الحكومات المصرية في الدفاع عن حقوق أبنائها في المياه.
وفي ” نون بوست” نستعرض أبرز تلك الاتفاقيات للوقوف على حجم المفارقة بين ما تم عقده إبان فترات الاحتلال والملكية وبين ما تم عقب الاستقلال.
الاتفاقية الأولى 1929
بدأت هذه الاتفاقية على يد الدولة المستعمرة بريطانيا، بالنيابة عن مجموعة الدول الاستوائية، مع الحكومة المصرية، وكان ذلك عام 1929، حيث تم إقرار حق مصر في مياه النيل بصورة كاملة، كما حفظت لمصر الحق في استخدام “الفيتو” ضد إنشاء هذه الدول (حوض النيل) مشروعات جديدة على النهر وروافده، كما منعت الاتفاقية إقامة أعمال ري أو توليد قوى أو أي إجراءات على النيل وفروعه أو على البحيرات التي تنبع سواء من السودان أو البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية بغير اتفاق سابق مع الحكومة المصرية، من شأنها إنقاص مقدار المياه الذي يصل لمصر.
الاتفاقية الثانية 1959
تلك الاتفاقية كانت بين مصر والسودان، أبرمت عام 1959 استكمالًا لاتفاقية عام 1929، ووافق فيها الطرفان على إنشاء السد العالي بمصر، وخزان “الروصيرص” بالسودان، كما أقرت بدفع مصر 15 مليون جنيه كتعويضات لأهالي حلف، هذا بخلاف احتفاظ مصر بحقها المكتسب من مياه النيل وقدره 55.5 مليار متر مكعب سنويًا
الاتفاقية الثالثة 1993
تم توقيعها بين مصر وإثيوبيا عام 1993 في إطار تعاون بشأن استخدام مياه النيل على أساس قواعد ومبادئ القانون الدولي، مع الامتناع عن أي نشاط يضر بمصالح الطرف الآخر، وكانت هذه الاتفاقية مترتبة على محاولات إثيوبيا تشييد منشآت على النيل الأزرق في بداية السبعينات، لكن مصر استخدمت حق “الفيتو” طبقًا لاتفاقية 1929، ورفضت المشروع.
الاتفاقية الرابعة 1999
في فبراير 1999 تم توقيع “مبادرة حوض النيل” في تنزانيا بين الدول العشر الأفريقية، بهدف تدعيم التعاون الإقليمي بينهم، ونصت المبادرة علي الوصول إلى تنمية مستدامة في المجال السياسي والاجتماعي.
الاتفاقية الخامسة 2010
تعد بداية الخلاف الجذري الذي نشب بين دول حوض النيل، بسبب اتفاقية “الإطارية الشاملة”(CFA)، لكن مصر والسودان عارضتا، نظرًا لتأثير ذلك على حصتهما من الماء، هذه الاتفاقية تمت مناقشتها على مدار سنوات طويلة في إطار مبادرة حوض النيل، وبالفعل في عام 2010 تحديدًا في شهر مايو، وقعت أربع دول هي إثيوبيا، وأوغندا، ورواندا، وتنزانيا، على الاتفاقية، ثم بعد مرور أيام وقعت كينيا لتنضم إلى القائمة.
في مايو2009، عقد اجتماع وزاري لدول حوض النيل في كينشاسا، الكونغو الديمقراطية لبحث الإطار القانوني والمؤسسي لمياه النيل، ورفضت مصر التوقيع على الاتفاقية بدون وجود بند صريح يحافظ على حقوقها التاريخية في مياه النيل، وتم تأجيل الاجتماع.
في يوليو 2009، عقد اجتماع طارئ لوزراء خارجية دول حوض النيل بالإسكندرية، وفي بداية الجلسات صدرت تحذيرات باستبعاد دول المصب “مصر والسودان” من توقيع الاتفاقية، ثم أعطيت مهلة 6 أشهر للدولتين، وفي أبريل 2010، رفضت مصر التوقيع على الاتفاقية أثناء اجتماع دول حوض النيل في شرم الشيخ، وطلبت تأجيل التوقيع، لكن بعد أشهر قليلة وقعت بالفعل خمس دول بالموافقة.
الاتفاقية السادسة 2011
في بداية شهر مارس 2011، وقعت بوروندي على اتفاقية “تقاسم مياه النيل”، وهنا كانت بداية تجريد مصر من العديد من امتيازاتها في مياه النهر وأبرزها حق الفيتو في منع إقامة أي مشروع على النهر خارج أراضيه.
تراجع حصة المواطن من المياه سنويًا
في ضوء استعراض الاتفاقيات التي أٌبرمت بين مصر ودول حوض النيل خلال النصف قرن الأخير يتضح أن هناك حالة من التراجع المستمر في حصة المواطن المصري من المياه، لاسيما في ظل تخاذل الأنظمة والحكومات عن القيام بدورها في الدفاع عن حقوق الشعب في المياه، فضلًا عما يمكن أن يترتب عليه من زيادة في الأعباء الأخرى من تراجع في موارده الزراعية، والآثار الصحية المدمرة كما سيتم ذكره لاحقًا.
وفي دراسة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تحت عنوان “الموارد المائية وترشيد استخدامها في مصر”، أشار فيها إلى ارتفاع الاستخدامات من الموارد المائية المتاحة من 66.6 مليار م3 إلى 74.5 مليار م3 بنسبة زيادة 23.7% خلال الفترة 2002/ 2003 ـ 2011، وذلك في ظل ثبات حصة مصـر من مياه النيل عند 55.5 مليار م3 سنه طبقًا للاتفاقيات الدولية الموقعة في هذا الشأن .
وأوضحت الدراسة انخفاض متوسط نصيب الفـــرد من الموارد المائية من 2526 م3 عام 1947 (وفرة مائية) إلى 1672 م3 عــام 1970 (كفـاية مائية) بنسبــة انخفاض 33.8 % وإلي 643 م3 عام 2013 (فقر مائي) بنسبة 60.3% ومن المتوقع بلوغه 475 م3 عام 2025.
ونستعرض في الجدول التالي نسب الانخفاض في معدل حصة المواطن المصري من المياه، مقارنة بما كانت عليه مصر أيام النظام الملكي وصولًا إلى العصر الجمهوري الذي تحياه منذ ستينات القرن الماضي.
العام |
عدد السكان |
حصة الفرد من المياه سنويا |
1947 |
17.9مليون نسمة |
2526م3 |
1966 |
27.8مليون نسمة |
1960 م3 |
1970 |
30.6مليون نسمة |
1672 م3 |
1976 |
34.6مليون نسمة |
1600 م3 |
1986 |
45.3مليون نسمة |
1200 م3 |
1996 |
61.4مليون نسمة |
900 م3 |
2006 |
72.8مليون نسمة |
762 م3 |
2009 |
76.1مليون نسمة |
730 م3 |
2011 |
83.7مليون نسمة |
690 م3 |
2012 |
85.5مليون نسمة |
660 م3 |
2013 |
87.6مليون نسمة |
643 م3 |
2014 |
89.5مليون نسمة |
620 م3 |
2015 |
95مليون نسمة |
600 م3 |
2025 |
116 مليون نسمة ( المتوقع في ضوء الإحصائيات الرسمية ) |
475 م3 |
نهب 20 مليار متر مكعب من سيناء
كالعادة فقد تسبب تراخي الأنظمة الحاكمة في مصر في الدفاع عن حقوقها وثرواتها في مزيد من فقدان الموارد الطبيعية، وهو ما تجسد بصورة حية في سيناء، حيث فقدت مصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة ما يقرب من 20 مليار م3 تمكنت إسرائيل من سرقتها عبر السحب الجائر من خزان المياه الجوفية بسيناء، منهم ما يقرب من 30 مليون متر مكعب من مياه السيول على مدار الـ5 سنوات الماضية، بسبب عدم وجود خزانات معدة لتخزين مياه السيول، وأن إسرائيل قامت بحفر 80 بئرًا بعمق 800 متر بصحراء النقب لاستغلال المياه الجوفية المصرية، وفقًا لتقرير صادر عن معهد بحوث الصحراء.
ووفقًا للتقرير فقد تسبب هذا السحب في إحداث تغيرات في خواص المياه المتبقية لاسيما في شمال سيناء مما جعلها غير صالحة للزراعة أو الاستخدام الآدمي، لتفقد مصر موردًا جديدًا من موارد الحياة في سيناء بعدما فقدت الثروات المعدنية في السابق نتيجة تجاهل الحكومات المتعاقبة لهذه القطعة البارزة من أرض مصر منذ حرب 1967 وحتى الآن.
كما تسببت بعض المشروعات القومية غير المدروسة في إهدار مليارات الأمتار من مياه النيل، وهو ما تجسد بصورة أوضح في مشروع “توشكى” الذي تم الإعلان عنه أواخر تسعينات القرن الماضي، حيث جاء تلبية لرغبة بعض رجال الأعمال في الاستثمار، وأُنفق عليه المليارات دون أي عائد.
وبالرغم من الفشل الذريع الذي مني به هذا المشروع لازال هناك من يسعى لإحيائه مرة أخرى بعد 18عامًا من الإهدار المستمر للمال والمياه.
سد النهضة.. تهديد لمنظومة الزراعة والشرب والطاقة
حالة من الجدل سادت الأوساط المصرية منذ الإعلان عن بناء سد النهضة، ما بين التهويل بحجم المخاطر التي ستواجهها مصر جراء هذا السد وما يمكن أن يتسبب به في “تعطيش” ملايين المصريين إبان فترة مرسي وما قبلها، وبين التقليل من الآثار المترتبة عليه إلى الحد الذي دفع رئيس الحكومة الأسبق حازم الببلاوي إلى الإعلان أن هذا السد سيكون “رخاءً” على مصر وشعبها، ومابين هذا وذاك تخرج التقارير والدراسات العلمية لتؤكد أن “سد النهضة” يمثل – بلا شك – كارثة حقيقية بكل المقاييس.
الدراسات تشير إلى أن حصة مصر من مياه النيل تغطي 97% من الاحتياجات المائية، وفي ظل التزايد المستمر في عدد السكان فإن هذه النسبة ستقل كثيرًا، وهو ما ترجمه التراجع الشديد في حصة الفرد من المياه سنويًا والتي قاربت على 600 م3 أي أقل من المعدلات العالمية بما يزيد عن 400 م3.
وبحسب الدراسات فإن السعة المائية لخزانات سد النهضة تبلغ 74 مليار متر مكعب، وحال بناء هذه الخزانات ستُحرم مصر والسودان على أقل تقدير من 15 مليار متر مكعب من حصتهم سنويًا، وطبقًا للتقديرات، يتطلب مليار متر مكعب من المياه سنويًا لري 200 ألف فدان بمصر، وبذلك مع كل مليار متر مكعب تخسرها مصر من حصتها المائية تفقد 200 ألف فدان، وبالتالي فإن جميع خطط استصلاح الأراضي الزراعية التي أعلنت عنها الحكومة المصرية سيُعاد النظر بها مرة أخري لمواجهة التهديدات المقبلة، كذلك فإن المياه المخزنة خلف خزانات “النهضة” قد تؤثر على المدى البعيد بمنسوب المياه خلف السد العالي، ومنها التأثير على قدرته في إنتاج الطاقة الكهربائية بنسبة تتراوح بين 20% و40% بحسب خبراء في مجال المياه.
هل يشرب المصريون مياه الصرف الصحي؟
بالرغم من العزف المتواصل على وتر عدم الانتهاء بعد من مفاوضات سد النهضة ، وأن مصر لن تتخلى عن حصتها الكاملة في مياه النيل مهما كانت النتائج، إلا أن الواقع شيء آخر، فها هي إثيوبيا تنتهي من بناء ثلثي السد في ظل انشغال النظام المصري بتسكين الشعب وتخدير مشاعره بالبيانات المكذوبة والعبارات المعسولة التي يبثها الإعلام الموجه ليل نهار.
إضافة إلى ما تم الإعلان عنه مؤخرًا بشأن اكتشاف خزان النوبة الجنوبي، ذلك الاكتشاف القديم الجديد، وقدرته على تحقيق الاكتفاء الذاتي من المياه لما يزيد عن 95% من الشعب المصري، إلا أن كل هذا لم يكن وحده كافيًا لضمان الأمن المائي المصري، فها هو رئيس الدولة يلوح لصلاحية مياه الصرف الصحي للشرب بعد معالجتها عبر تقنية “المعالجة الثلاثية” ليضرب بكل الاحتمالات السابقة عرض الحائط، حيث يعد هذا التلويح اعترافًا ضمنيًا بفشل مفاوضات السد وأكذوبة خزان النوبة الجنوبي.
وبالرغم من التأكيد اليقيني من قِبل الرئيس بشأن إمكانية أن تكون محطات الصرف الصحي هي نيل المصريين المستقبلي، إلا أن خبراء المياه والصحة أكدوا بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك العديد من العقبات أمام هذا المشروع على أرض الواقع تجعل من تحقيقه أمرًا غاية في الصعوبة والتحقيق.
ومن أبرز الصعوبات التي تعوق ترجمة هذه الأفكار إلى واقع عملي، طبيعة الصرف الصحي المصري المختلط، حيث إنه صرف زراعي وصناعي ومنازل في آن واحد، مما يجعل هناك صعوبة بالغة في تحلية هذه المياه التي يختلط فيها الصرف العضوي مع صرف الزراعة التي تحتوي على المبيدات وصرف المصانع الذي من الممكن أن يكون سامًا.
كذلك المخاطر الصحية الناجمة عن هذه المعالجة والتي تهدد حياة الإنسان، كما أكد الدكتور محمود محمد عمرو، أستاذ الأمراض المهنية بكلية الطب ومؤسس المركز القومي للسموم الإكلينيكية، في تصريحات صحفية له نشرت مؤخرًا.
وأضاف أستاذ الأمراض المهنية أن هذه المياه الملوثة تحتوي على النيتروجين الذائب الذي يتأكسد إلى نترات وهو ما يسبب مشاكل صحية كبيرة للإنسان؛ حيث يصل أيون النترات والنتريت مع مياه الري أو الصرف وتختزنه بعض النباتات في أنسجتها بنسبة عالية مثل “الكرنب والسبانخ والفاصوليا والخيار والخس والجرجير والفجل والكرفس والبنجر والجزر”، ما يفقدها الطعم وتغير لونها ورائحتها، وتنتقل النترات عبر السلاسل الغذائية للإنسان فتسبب فقر الدم عند الأطفال وسرطان البلعوم والمثانة عند الكبار.
وتابع: “العناصر الثقيلة الموجودة فى هذه المياه مثل النيكل والرصاص والمنجنيز والكوبالت والزئبق والكادميوم والسلينيوم والفلورايد، تؤثر على المخ والأعصاب والغدة الدرقية والقلب وأمراض الصدر والدم والفشل الكلوي والأسنان واللثة”.
إضافة إلى ذلك التكلفة الباهظة التي يحتاجها هذا المشروع العملاق والتي تتجاوز المليارات التي لا تقدر الدولة على تحملها في الوقت الراهن، لاسيما وأن كمية مياه الصرف الصحي المطلوب معالجتها سنويًا لتحقيق النسبة المرضية من استخدامات المواطنين تتجاوز مليار م3 مما يتطلب ميزانية ضخمة لتنفيذه.