ترجمة حفصة جوده
شُنت واحدة من أعنف الحروب وأكثرها دموية في أفريقيا من مبنى يتكون من ثلاث طوابق, في حيّ راقٍ وهادىء بالعاصمة الإثيوبية، إنه هنا, في فيلا بضاحية مثالية في أديس أبابا, يمكن السير إليها بسهولة من منطقة الفنادق الفاخرة ومطاعم البرجر, حيث يحرص ريك مشار على إقامته هناك، إنها منطقة بعيدة تمامًا عن الجبهة الأمامية للحرب.
مشار, هو رجل متعدد الألقاب، فهو طبيب وحاصل على درجة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية من جامعة أمريكية، إنه بطل حرب جنوب السودان والتي استمرت لعقود طويلة من أجل الاستقلال، إنه أب وزوج أيضًا, ونائب رئيس سابق، وسياسي محنّك.
لكن لقبه الأهم اليوم, مع دخول جنوب السودان عامها الثالث في تلك الحرب الأهلية المدمرة, هو القائد العام للقوات المسلحة في الجيش الشعبي المعارض لتحرير السودان.
وبالإضافة إلى سلفا كير, الرئيس الحالي لجنوب السودان, يترأس مشار حلقة الصراع الداخلي.
لقد مات عشرات آلاف المدنيين منذ أن بدأت الحرب بين المجموعتين العرقيتين “الدينكا” و”النوير” في ديسمبر 2013, حيث قام المقاتلون من كلا الجانبين بالنهب والاغتصاب أثناء مرورهم بالقرى والمدن, بينما تم إجبار أكثر من 2 مليون مواطن على مغادرة منازلهم.
أصبحت الحياة في جنوب السودان اليوم, الدولة الأفريقية الجديدة, أكثر صعوبة من ذي قبل، ومشار هو أحد المتسببين في ذلك.
الرجال يلوحون بالأعلام ويهتفون في أول مباراة لكرة القدم لجمهورية جنوب السودان في العاصمة جوبا في عام 2011.
التقينا في منزله حيث يقضي معظم وقته, الأمن هناك مشدد، ومن الداخل تنسدل الستائر الثقيلة المغلقة دائمًا لتجنب حرارة النهار, مما يضفي على الغرفة جوًا من القتامة والفظاظة.
يجلس مشار على مقعده المريح ويقول بمرح: “يصبح اليوم جيدًا إذا بدأ بالصحفيين”، إنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة وببطء.
لقد ولّت أيامه القتالية فهو في بداية الستينيات ومن الواضح أن لقب القائد العام للقوات المسلحة هو تسمية فخرية، وفي ملابس العمل يبدو واضحًا أن مشار لا يقوم بتوجيه القوات بنفسه.
لكن هذا الأمر لا يقلل من أهميته أبدًا, فهو رئيس المفاوضين في محادثات السلام الأخيرة, ومن وظيفته إنهاء القتال بدلًا من إشعاله، وهذه المعركة الدبلوماسية تُوجت العام الماضي بتوقيع إتفاقية السلام بين المتمردين والحكومة حيث قامت بفرض الوقف الفوري لإطلاق النيران, وكان من المفترض أن تؤدي لتشكيل حكومة وحدة وطنية مع مشار مرة أخرى في مكتب نائب الرئيس.
لقد فشلت هذه الطريقة تمامًا, فقد تم خرق هدنة وقف إطلاق النار مرارًا وتكرارًا من كلا الجانبين, وكان كير مترددًا في التخلي عن السلطة, حيث قام من جانبه (بشكل منفرد) بإنشاء 28 ولاية جديدة، في محاولة واضحة منه لعرقلة عملية الانتقال.
الرئيس سالفا كير
بالرغم من ذلك, يبدو مشار متفائلًا “إنني سعيد بهذه الإتفاقية, سوف يؤدي ذلك إلى البدء في الإصلاحات، وسيسفر أيضًا عن إنشاء نظام حكم جديد فيدرالي في بلدي, وأنا راضٍ عن ذلك”.
لكن اعتماده على الهيئات الضامنة للاتفاق – وهي الهيئة الحكومية للتنمية والثِقل الدولي للصين والمملكة المتحدة والولايات المتحدة – ليس في محله؛ فالمجتمع الدولي يصبح بلا رأي عندما يتعلق الأمر بجنوب السودان, وتأثيره في جوبا (عاصمة جنوب السودان) أصبح أقل من أي وقت مضى.
بالرغم من ذلك, يصرّ مشار على أن كير فقط هو الذي فشل في دعم طرفه بهذه الصفقة، لأن قوات مشار توقفت عن القتال, لكن القوات المتمردة الأخرى تورطت في انتهاكات متعددة لوقف إطلاق النار.
العنف
يزعم مشار أيضًا أنه نجح في القضاء على ثقافة انتهاك حقوق الإنسان، بما في ذلك الاغتصاب الجماعي والعنف العرقيّ وتجنيد الأطفال، والتي كانت تميز الأيام الأولى من الحرب، حسب التقرير الموجز الساخط للاتحاد الإفريقي.
لكن الأخبار الجديدة تقول عكس ذلك, فلم يفشل كير فقط في اتخاذ أي إجراءات ضد القادة المتورطين في جرائم الحرب, بل استمرت انتهاكات حقوق الإنسان بعد أن كان من المفترض أن تتوقف في أبريل 2014.
يرفض مشار أن يتحمل مسؤولية أياً من ذلك, وعندما أشرت إلى المذكرة المسربة من الأمم المتحدة بشأن تطبيق عقوبات فردية على مشار وكير, قال مشار: “هذا ليس عدلًا, إنهم يتصرفون بلا إنصاف، كيف تتهم الضحية بارتكاب الجرائم؟ إنني ضحية, لماذا يتم فرض العقوبات عليّ؟”.
وأضاف: “لقد قضيت حياتي كلها من أجل تحرير جنوب السودان, كان من الأفضل أن أفعل شيئًا لمصلحتي، لكن مقاومة الأنظمة الديكتاتورية أمر يستحق العناء بدلًا من قبولها والتفكير بأنها ستتغير من تلقاء نفسها”.
وعند سؤاله عن إمكانية إيقاف معاناة غالبية المدنيين في جنوب السودان إذا توقف هو وزملاؤه عن القتال, أجابني القائد المتمرد قائلًا: “التوقف عن القتال تصرف غير مسؤول, ولن يسامحني التاريخ على هذا الأمر”.
“إذن، فكيف تحب للتاريخ أن يتذكرك؟”، أجاب مشار مؤكدًا: “لقد صنعت دولة, لقد صنعت دولة”.
وأضاف: “أنا بطل الاستقلال, لا يمكن أن يكون هذا خطأ, لقد وجدنا أنفسنا في هذا الموقف المزري وهذا لا يعني أن الاستقلال ليس مشرفًا، نحن نعتز باستقلالنا فقد حاربنا من أجله لأجيال عديدة”.
أعضاء من جيش التحرير الشعبي يقومون بدوريات في قرية لير نصف المفرغة من سكانها، في 3 فبراير 2016.
بالنسبة لمشار، انتصار الاستقلال أمر كافٍ, حتى إذا فشل في تحقيق الاستقرار والازدهار وسيادة القانون اللازمة لذلك، هذه الحرب ليست مختلفة, فهي مفهوم سياسي مجرد تجعله يشعر بالراحة في غرفة معيشته بأديس أبابا بينما يتغاضى عن معاناة الشعب الذي من المفترَض أنه يقاتل من أجله.
يتمسك مشار أيضا بالفكرة – التي يتقاسمها مع العديد من الزعماء الذين قضوا وقتًا طويلًا في مواقع السلطة – بأن المشهد لن يستمر بدونه.
” سوف يأتي وقت تقاعدي, لا مفر من ذلك” يقول مشار, وأضاف: “لكن هذا الوقت ليس الآن، ما تبقى لي هو ضمان أن الأمور تسير بشكل صحيح وأن هناك آخرين يمكنهم تولي هذا الأمر, وإذا كان هناك شيء آخر أرغب في الحياة لأجله فهو تحقيق استقرار البلاد وأن أرى أن النظام يمكنه الحراك بدوني”.
الأخبار القادمة من جنوب السودان ليست جيدة؛ ففي يوم الإثنين , قال الاتحاد الإفريقي أن الأزمة تتفاقم للأسوأ، وقد شددوا على الخبر الذي يقول أن القوات الحكومية متهمة بخنق 50 مدنياً حتى الموت وذلك باحتجازهم في حاوية شحن شديدة الحرارة.
هذا ما جلبته الحرب لشعب جنوب السودان, ومهما حاول مشار التظاهر بعكس ذلك, فهذه هي التكلفة المستمرة لقتاله من أجل السلطة.
المصدر: الغارديان