لم يعد المواطن اللبناني يتمتع برائحة القهوة اللذيذة صباحًا، فرائحة النفايات المحترقة أو كما يقال بالعامية “الزبالة” طغت على كل رائحة طيبة، ففي يوليو/ تموز العام الماضي بدأت النفايات تتكدس في الحاويات على إثر إغلاق مكب رئيسي وتم إلغاء مناقصة لاختيار ست شركات لجمع ومعالجة النفايات بدعوة ارتفاع تكلفة العروض المالية المقدمة، حتى استثارت الرائحة الحراك المدني في أغسطس من العام الماضي فخرج آلاف المدنيين متهمين الحكومة والمسؤولين بالتقصير ورافعين شعار “طلعت ريحتكم”.
وقد ازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي بالصور والانتقادات والتعليقات ضد أداء الحكومة التي عجزت عن حل مشكلة نفايات ونُشرت هاشتاجات كثيرة تصف الحال المزري الذي وصلت إليه البلاد بعد غرقها بالنفايات من قبيل “#يا_خوفي_عهلبلد” “#لبنان_يغرق”، “#اقترح _اسم _للعاصمة”.
يعاني العالم اليوم من فيروس “زيكا” الذي أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ لمواجهته لما يسببه من أمراض عضال و تضافر الجهود العلمية في شتى أنحاء العالم لابتكار مصل لهذا الفيروس الخطير . أما نفايات لبنان التي يؤدي حرقها إلى تضاعف المادة المسرطنة وانتشار الأمراض, فقد اعلنت الحكومة حالة الطوارئ لمواجهة الأزمة علما ان حلها لا يحتاج لاختراع أو ابتكار، و ما زالت الأزمة حتى يومنا هذا أي سبعة أشهر منذ بدئها، ما ينم عن تباطؤ وتكاسل من قبل الحكومة والجهات المعنية في حل هذه المشكلة التي يؤدي تفاقمها إلى أمور لا يحمد عقباها خصوصًا بعد قدوم فصل الشتاء، حيث إن الأمطار والنفايات تشكلان بيئة مناسبة لانتشار الأوبئة ونمو القوارض والبكتيريا وهو ما يهدد بأمراض خطيرة يأتي في أولها الكوليرا والسل.
قامت عدة بوادر للحل في الأشهر الماضية من قبيل ما تقرر بعد الاجتماع الطارئ الذي عقدته الحكومة بعد اندلاع الاحتجاجات حيث تقرر العمل بفكرة جمع النفايات المكدسة في الطرقات وتفعيل عمل البلديات وفتح مكبين جديدين لطمر ومعالجة النفايات في منطقة سرار بعكار شمالي لبنان ومنطقة المصنع في سلسلة جبال لبنان الشرقية، إلا أن عوائق سياسية ورفضًا شعبيًا لإقامة مطامر في مناطق معينة أعاق تنفيذها.
ومن ثم ظهرت حلول أخرى على السطح من قبيل صفقات ترحيل النفايات إلى الخارج التي فشلت بعد مدة بسبب عدم استيفاء الشروط الكافية للشركات، وتم ترويج أن السلطة تنوي جلب 50 محرقة للنفايات ستوزع على كل الأراضي اللبناينة تقوم على مبدأ التفكيك الحراري للنفايات واستخلاص ما يمكن استخلاصه منها، إلا أن هذا لم يتم و لاقى رفضًا شعبيًا كذلك.
وبعد هذه الفترة خلت الساحة اللبنانية من أي حل جذري علمي لهذه الأزمة؛ فبدأت البلديات في بيروت وغيرها بإحراق النفايات في الحاويات مرتأية أنها أسهل طريقة للتخلص من النفايات المتكدسة، علمًا أنه حسب نتائج الوحدة البحثية المشتركة بين الجامعة الأمركية في بيروت والمجلس الوطني للبحوث العلمية فإنه خلال الأيام التي تُحرق فيه النفايات تزيد فيه المواد المسرطنة بنسبة 2300% على الأقل.
حيث قامت الدراسة بقياس بعض المركبات السامة على أحد أسطح المباني قرب موقع حرق مفتوح وقورنت بقياسات أخذت بعد أسبوع من أي عملية حرق فتبين أن الخطر القصير الأمد للإصابة بالسرطان زاد من نحو شخص في كل مليون إلى 18 شخص في الأيام التي تم خلالها حرق النفايات.
كما تشير دراسات أخرى أن عملية طمر النفايات العشوائي مرتبطة بارتفاع نسبة الإصابة بسرطان البنكرياس والجلد عند الرجال، وبالتشوهات الخلقية كالعيوب الخلقية في النظام العصبي، وبانخفاض وزن الرضع، وبزيادة معدلات الإصابة بالربو، وبالأمراض التنفسية، وترتبط عملية حرق النفايات بارتفاع خطر الإصابة بسرطانات القولون، الحنجرة، المعدة، والتشوّهات الخلقية كالعيوب في المسالك البولية، وبخلل في الجهاز التنفسي وزيادة معدل الوفيات الناجمة عن الأمراض التنفسية.
اقترحت العديد من الفعاليات والندوات والورش حلولاً علمية للتخلص من الأزمة بشكل نهائي من قبيل الاستفادة من النفايات بطمرها وإحراقها بطرق علمية تفيد الاقتصاد والبلاد من حيث إنتاج الكهرباء من الغازات الصادرة من النفايات والسماد وما يتبقى يمكن الاستفادة منه بعمل بلاط للرصيف في الطرقات.
وحسب الخطة التي قدمها العميد البروفيسور تيسير حمية، مدير مشروع الإدارة المشتركة لبرنامج التعاون المشترك عبر الحدود لدول حوض البحر الأبيض المتوسط في الجامعة اللبنانية التي وصفها “بالخطة السريعة والمربحة للحكومة والاقتصاد” تقوم على إنشاء ستة مصانع في ست مناطق منها اثنان لبيروت وضواحيها وأربعة أخرى لمناطق الجنوب والبقاع والشمال وجبل لبنان بحيث إن كل مصنع Biogas Plant من المصانع الستة يعالج يوميًا حوالي ألف طن من النفايات الصلبة ويقوم على مبدأ إنتاج الغاز الحيوي، وتبلغ كلفة المصنع الإجمالية حوالي 50 مليون دولار، ويولد حوالي 65 مليون كيلووات سنويًا وينتج 25 ألف طن سنويًا من الأسمدة.
وعليه فإن لبنان لا ينقصه خبراء أو جامعات أو مراكز بحوث لحل الأزمة وبالأخص أنها ليست فريدة من نوعها والحلول موجودة على أرض الواقع فكثير من الدول تخلصت من جبال النفايات التي تنتجها بالطرق العلمية، كما أن كثيرًا من رجال الأعمال حولوا النفايات إلى عمل تجاري وربحوا ملايين الدولارات منها.
في تركيا مثلاً 22 محطة لتوليد الكهرباء من غاز الميثان الذي تطلقه النفايات وتتوزع في 11 محافظة وتعد المحطة الموجودة في إسطنبول الأضخم في أوروبا بقدرة إنتاج كهرباء تصل إلى 35 ميغاوات، حيث تخزن النفايات تحت الأرض على مساحة 55 هكتارًا بعد عملية فرز لها، ومن ثم تسحب الغازات الناتجة عنها وتُجمّع في أنابيب وترسل للحرق بغية تشغيل محركات ضخمة تحول الطاقة الحركية إلى كهربائية وبهذه الطريقة يتم التخلص من الكميات الكبيرة للغازات التي تتسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري، إضافة إلى التخلص من غاز الميثان الضار جدًا والأساسي في عملية الاحتراق ومن ثم فالمحطة تعمل على امتصاص 2 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي وهذا يعادل قدرة 2.5 مليون شجرة في الطبيعة.
كما أن كل مليون طن من النفايات ينتج 1 ميغاوات من الكهرباء وفي المحطة المتواجدة في إسطنبول توفر 10% من احتياجات إسطنبول للكهرباء أي ما يعادل حاجة مليون شخص في هذه المدينة.
وفي النهاية بين متهم لفُلان وعلنتان وإلقاء اللوم على هذا وذاك بالتقصير لحل لغز الأزمة تبقى رائحة النفايات المحترقة تطغى على رائحة القهوة في الصباح ويبقى المواطن البسيط يتحمل هذه التكلفة الصحية والبيئية وحده، فالحكومة بنت لنفسها بيوتًا عالية في مناطق خاصة لا تصل إليها الرائحة، ومن استعصى عليه حل أزمة نفايات فليس جديرًا أن يحل أزمة رئاسة فشل في التوافق علىه للمرة الـ 35.