مع اقتراب نهاية المدة الأخيرة لأوباما في البيت الأبيض؛ تبدأ جولة أخيرة للرئيس مع الكونجرس بخصوص الميزانية الأمريكية الجديدة، فوفقًا للقانون الأمريكي يقوم البيت الأبيض بتحضير مقترح الميزانية ليبدأ بعد ذلك في مناقشته وتعديله مع الكونجرس، وليس الاختلاف بين الرئاسة والكونجرس باستثناء في حالة أوباما تحديدًا، بل على العكس من ذلك؛ إذ أدى الخلاف على مسألة شبيهة وهي تمويل الحكومة الفيدرالية إلى توقف الأخيرة عن العمل لفترة عام 2010 في حادثة شهيرة، إذ غالبًا ما تصطدم تصورات الرئيس الديموقراطي مع الرؤى الأكثر محافظة للقوى الجمهورية المسيطرة على الكونجرس؛ وخصوصًا في قضايا كالتأمين الصحي والإصلاح البيئي.
يمكن من خلال إلقاء نظرة سريعة على البنود التي تغطيها الميزانية (وخصوصًا الجديد منها) رسم صورة بدائية لملامح العام المقبل في السياسة الأمريكية، إلا أن من الواجب تذكر أن هذه الميزانية تبقى مجرد مقترح لم يعدل عليه الكونجرس حتى الآن.
تنقسم الميزانية بشكل رئيسي إلى قسمي الموارد والمصارف، وفي هذه الحالة فقد وصلت القيمة الإجمالية للميزانية المقترحة إلى 4.1 تريليون دولار، وتعد الضرائب المورد الرئيسي في الميزانية؛ حيث وصل مقدار ما جمعته الحكومة الأمريكية من الضرائب عام 2014 إلى 3.02 تريليون دولار؛ بواقع 17.5% من الناتج القومي الأمريكي لذات العام.
تصل قيمة العجز في الميزانية المقترحة إلى 616 مليار دولار، أي 3.3% من الناتج القومي المتوقع لذات العام، وتمثل هذه النسبة زيادة ملحوظة عن نفس النسبة في الميزانية السابقة والتي كانت 2.5% بواقع 438 مليار دولار، كما أنها تتخطى عتبة نسبة الـ3% التي يعتبرها الاقتصاديون النسبة الصحية للنمو الاقتصادي.
لا تنبع الزيادة في العجز في هذه الحالة من تراجع اقتصادي أو زيادة عشوائية في المصارف والتكاليف بشكل رئيسي، وإنما تأتي نتيجة لمجموعة من الاستثمارات بعيدة المدى التي قررت الحكومة المراهنة عليها، وهنا يمكن لنا البدء في الحديث عن المصارف؛ والتي تشكل هذا العام حالة تستحق التأمل.
تذهب أغلبية مصارف الموازنة لتغطية التأمينات الاجتماعية وبرامج التأمين الصحي كبرامج “أوباما كير” و”ميديكير”؛ والتي زادت مصارفها لسببين رئيسيين: 1- توسع حكومة أوباما في تطبيق هذه البرامج في الأعوام الأخيرة، 2- الزيادة السكانية وتقدم سن الشعب الأمريكي واللذان يمثلان ظاهرة طبيعية، وغالبًا ستمثل هذه الزيادة أحد أهم مشاكل المناقشة في الكونجرس مع الجمهوريين شديدي التحفظ تجاه البرامج الاجتماعية.
يأتي البند الثاني ممثلًا قرابة الربع من مصارف الميزانية، وهو تمويل البرامج العسكرية التي يقرها كلًا من الرئيس والكونجرس على طول العام، وبطبيعة الحال ستبقى الولاية المتحدة متصدرة لقوائم التمويل العسكري على مستوى العالم بمبلغ يقترب من التريليون دولار، أي مجموع ما يصرفه عدد من الدول التي تأتي بعدها على ذات القوائم مباشرة.
شمل المقترح زيادة في مجموعة من المصارف الجديدة نسبيًا؛ والتي تساعد في فهم موقف الولايات المتحدة في العصر الحالي، إذ يشمل المقترح صرف مبلغ وقدره 19 مليار دولار لتمويل تطوير البنية التحتية للأمن التكنولوجي الأمريكي، ويأتي هذا القرار بعد عام شمل مجموعة من الهجمات الإلكترونية على الحكومة الأمريكية من قبل أطراف تتدعي غالبًا أنهم الصين، شملت قائمة الهجمات الناجحة اختراق حواسيب وزارة الدفاع والاستيلاء على مواد شديدة الخطورة تخص مشروع طائرة إف-35، كما هجمة أخرى على حواسيب وزارة العمل انتهت بالاستيلاء على البيانات الشخصية لأكثر من 21 مليون موظف حكومي.
أحد المقترحات الجديدة تمامًا كان صرف 300 مليون دولار على مبادرات بديلة تخص شبكات النقل وتحسين الشبكات الحالية، من المتوقع أن يشمل هذا البند تمويل لمبادرات كمشروع شركة جوجل الحالي للسيارات ذاتية القيادة؛ وجهود شركة تيسلا الأمريكية لدفع السيارات الكهربائية بشكل تجاري كخيار صديق للبيئة وأوفر في الوقود.
وتقترح الميزانية تمويل هذا البند من خلال فرض ضريبة جديدة وقدرها عشرة دولارات على كل برميل بترول كمحاولة للزيادة من تنافسية الطاقة البديلة.
كما شملت الموازنة بندًا يدل على محاولة إدارة أوباما لمواجهة أحدث تحديات الواقع، وهو تخصيص قرابة ملياري دولار لفهم ومواجهة فيروس زيكا الذي أعلنت عنه منظمة الصحة العالمية مؤخرًا كوباء شديد الخطورة عالميًا.
كما تم تقليل الميزانية المخصصة لوكالة الفضاء (ناسا) بشكل طفيف لتصبح 19 مليار دولار في مقابل 19.3 العام الماضي، ويمكن فهم هذا التخفيض مع واقع أن كميات كبيرة من التمويل سيتم تخصيصها ضمن المبادرة السابق ذكرها لشركات تكنولوجيا الفضاء الخاصة كشركات SpaceX و Amazon؛ والتي تعمل على توفير ما يعرف بتكنولوجيا الفضاء المستدامة والأكثر اقتصادية من مثيلاتها التي تقدمها ناسا.
بالرغم من أن كل هذه المصارف تساهم بشكل جدي في زيادة العجز السابق ذكرها، إلا أن الإدارة قد اتبعت استراتيجية بعيدة المدى لتقليل العجز على مدار السنوات القادمة، في مقابل توفير النقد الكافي لدعم مبادرات بعيدة المدى وممتدة المفعول قد يكون له دور كبير في دعم الاقتصاد والتنافسية الأمريكية على المستوى التكنولوجي والبيئي، خصوصًا مع التقدم والمنافسة الأوروبية والأسيوية المذهلة التي تواجها أمريكا على نفس الصعيد.
كما أن الميزانية تشمل مقترحات كزيادة العبء الضريبي على الأشخاص الأكثر دخلًا في الولايات المتحدة بالإضافة للضريبية البترولية الجديدة، مما سيشكل مشكلة كبيرة مع أجندة الأغلبية الجمهورية في الكونجرس والتي تعارض مثل هذه الإجراءات بشدة.
بشكل عام، يبدو على الاقتصاد الأمريكي التعافي والتحسن التدريجي، مع هبوط واضح في معدلات البطالة والعجز الائتماني وسعر البترول، في مقابل زيادة الوظائف الجديدة ومتوسط الدخول ونسب التأمين الصحي والاجتماعي، مما يعني أن رهان أوباما على زيادة العجز الكلي للموازنة حاليًا في مقابل تخفيضه تدريجيًا على مدار السنوات المقبلة للسماح للاقتصاد بالنمو والتوسع قد يؤتي أكله.