يمثل المقال التالي الجزء الثاني من سلسلة (مقدمة نقدية إلى علم الاجتماع)، والتي ننشرها بشكل أسبوعي رغبة في توفير مصدرًا وافيًا للقارئ المهتم بالموضوع.
هذا المقال هو الأول من ثلاثة يغطي كل منها أعمال أحد آباء علم الاجتماع الكلاسيكي؛ ماركس، دوركايم، وفيبر. ونبدأ وفقًا للترتيب الزمني في هذا المقال بتقديم مقدمة بسيطة جدًا إلى أعمال ماركس وأفكاره.
من الناحية الأدبية، تمثل حياة كارل ماركس فخًا للكاتب لما تمتلئ به من الحبكة والقصصية، إلا أن المقال لا يهدف لتقديم قصة تاريخية (على ما بها من إغراء)، وإنما يهدف إلى هدف أكثر صعوبة من هذا؛ وهو تقديم مقدمة بسيطة لعمل تنظيري عملاق استمر لأكثر من أربعين عامًا.
لهذا سنكتفي باختصار مخل لحياة ماركس لنحاول فهم أعماله بشكل أكبر، ولد ماركس عام 1818 لأسرة ميسورة الحال من أصول يهودية، كان والد ماركس محاميًا أجبر على اعتناق المسيحية لممارسة عمله، بينما أتت والدته من أسرة هولندية شديدة الغنى تمثل أصل شركة “فيليبس” للإلكترونيات الشهيرة اليوم، يجب التذكير هنا أن الفترة التي ترعرع فيها ماركس كانت بداية القرن التاسع عشر؛ قمة النجاح الاقتصادي والسياسي الأوروبي الحديث، حيث كانت سماء أوروبا لا تخلو من دخان المصانع التي لا تتوقف، وحيث كان ثلثي العالم تحت سيطرة أوروبية.
بدأ ماركس في دراسة القانون تلبية لرغبة والده، إلا أن اهتمامه كان في مكان آخر تمامًا؛ الفلسفة، الفلسفة الهيجلية التي احتلت الساحة الأوروبية في تلك الفترة تحديدًا، ومن هنا بدأت النواة الرئيسية لأعمال ماركس حتى موته.
كانت أحد أهم الأعمدة الفلسفية لدى هيجل هي الجدلية أو الديالكتيك (Dialectic)، وهي ببساطة نموذج منطقي يحاول تفسير تشكل الحقيقة أو الواقع، وهي في أبسط صورها تتكون من فرضية وفرضية معاكسة لها، وينتج من تفاعل المكونين السابقين ما يعرف بالمآلفة (Synthesis) وهي الناتج الكلي لتفاعل الفرضيتان، وليست أي منهما على حساب الأخرى.
مثل الديالكتيك الوحدة الرئيسية لتحليل الواقع في كل أعمال ماركس، إلا أن نسخة ماركس كانت أكثر تحديدًا، يعتمد الديالكتيك المادي الذي استخدمه ماركس بشكل رئيسي على تفسير الواقع عبر الجدليات المادية الملموسة، أي القواعد الاقتصادية التي شكلت الواقع في صورته الحالية كما آمن ماركس، بدأ ماركس في استخدام الديالكتيك لتحليل مجموعة من الظواهر الاجتماعية، وفي الفقرات القادمة نناقش أهمها بشكل مختصر.
الطبيعة البشرية وفائض القيمة
بينما يشتهر ماركس تاريخيًا بتفسيراته الاجتماعية المعتمدة على المكونات الكبرى للمجتمع كالطبقات، إلا أن بداية عمله أصلًا كانت في تحليله للطبيعة البشرية، وبداية هذا التحليل كانت في تساؤله عن مصدر القمع والظلم الاجتماعي، وبينما كانت أغلب الإجابات على السؤال السابق في عصر ماركس تركز على دور الحكام أو البيروقراطية في إدارة هذا الظلم، كانت إجابة ماركس أكثر راديكالية، آمن ماركس تمامًا أن الإنسان كائن طبيعي بالأساس، كائن يعمل على تلبية احتياجاته الأساسية بشكل غريزي، عمل الإنسان أساسًا وفقًا لماركس لتلبية جوعه تمامًا كما عمل لتلبية حاجته لوجود معنى لحياته، معنى يكتسبه الإنسان عبر شعوره بالإنجاز وتحقيقه لذاته وإمكانياتها.
يعمل الإنسان، ينتج منتجًا ما، يشعر الإنسان بالفخر لإنجازه، ترتفع القيمة الإنسانية للفرد بهذا الإنجاز، تلخص الجمل السابقة رؤية ماركس للطبيعة الإنسانية، إلا أنها لا تجيب على سؤال مصدر الظلم الاجتماعي، الإجابة على هذا السؤال تأتي وفقًا لماركس عبر العبث في هذه المعادلة البسيطة للطبيعة الإنسانية.
تاريخيًا، مع التقدم التكنولوجي بدأ الإنسان في إنتاج ما يزيد عن حاجته المباشرة، وبينما يزيد هذا الإنتاج عن حاجته، فإنه يحمل قيمة لباقي البشر الذين لا يستطيعون إنتاجه، ومن هنا نبعت قيمة المقايضة والتجارة، حيث لا يمثل ذات الشيء نفس القيمة للأفراد المختلفين، وبالتالي يستطيع الإنسان مقايضة ما ليس له قيمة كبيرة عنده بشيء آخر له قيمة أكبر، مثل تقديم النقود لهذه المعادلة تطورًا هامًا للغاية، إذ تم إخراج القيمة من الشيء محل التجارة ليصبح في المال، وبهذا الشكل أصبح من الممكن اختزان هذه القيمة لوقت لاحق، على عكس المنتجات التي قد يزيد أو يقل الطلب عليها، أو تلك التي لا تصلح للتخزين، يمكن اختزان المال إلى لا نهاية.
يمثل التطور السابق جزءًا محوريًا في الماركسية، وهو الصراع على فائض القيمة، القيمة التي تزيد عن الحاجة المباشرة، وفقًا لماركس، نتج العبث في معادلة الطبيعة البشرية عن الصراع على هذا الفائض، إذ تم تحويل النجاح البشري تدريجيًا من الشعور بالإنجاز عبر الإنتاج إلى الشعور بالإنجاز عبر مراكمة أكبر ممكن من فائض القيمة (المال).
يبدأ التاريخ الحديث للبشرية من لحظة التحول تلك تحديدًا، إذ مثلت اللحظة التي بدأت فيها قواعد اللعبة الجديدة في التشكل، لعبة الإنتاج وقواعدها من أدوات ورأس مال.
رأس المال والصراع الطبقي والتاريخ
انطلاقًا من التحليل السابق لفائض القيمة، بدأ ماركس في مهمته في تحليل وتفسير التاريخ الحديث لأوروبا، فبالنسبة إليه كان الصراع على فائض القيمة هو المحرك الأكبر للتاريخ، وهذا بالطبع صراع غير متكافئ بين من يملكون الموارد الكافية لخلق المزيد من الفائض وهؤلاء الذين لا يملكون ذات الحظ، أدى تطور التجارة في عصر الاستعمار الكبير (القرن الثامن عشر ونهاية السابع عشر) إلى خلق طبقات تملك الكثير من الأموال، هذه الأموال يمكن استخدامها (أو من الأفضل استخدام استثمارها) في تأسيس مؤسسات وشركات تدر المزيد من المال، هذا المال يذهب أغلبه إلى المزيد من الاستثمار تحت مسمى “رأس المال” في دائرة مفرغة من إنتاج فائض القيمة.
هنا يجب التراجع قليلًا للخلف، فواقع أن هناك من يملك المال يفرض أن هناك من لا يملكه، هؤلاء هم الطبقات الأدنى التي لا تملك سوى عملها وجهدها لبيعه مقابل المال، والحاجة إلى هؤلاء في تلك المؤسسات الجديدة لا مفر منها، وبينما كان الفرد يعمل سابقًا في عمله السابق محافظًا على كل فائض القيمة الناتج عن عمله، أصبح هؤلاء الأفراد يعملون لدى أصحاب رأس المال الذين يبقون أغلب فائض القيمة لأنفسهم ورؤوس أموالهم، أصبح الفرد من الطبقات الأفقر يعمل فقط مقابل قوت يومه.
هنا أصبح من الواجب خلق تفسيرًا جديدًا لقواعد الإنتاج لضمان بقاء النظام الرأسمالي على ما به من انعدام للعدالة، القاعدة الرئيسية من هذه القواعد هي ما وصفه ماركس بـ “هوس السلع”، أي تحويل علاقات الإنتاج التي هي بين البشر وبعضهم البعض أساسًا إلى علاقة بين الفرد والسلعة، أي أن نجاح البشر يعود بالأساس إلى السوق وقدرتهم على شراء أكبر عدد ممكن من السلع، أي أن استغلال أصحاب رؤوس الأموال للعمال يمكن تفسيره بشراء هؤلاء للسلعة التي يعرضها العمال؛ وهي العمل، بهذا الشكل يبدأ العمال في التعامل مع عملهم كسلعة منخفضة القيمة لا كوسيلة لتحقيق السمو البشري والمعنى.
يؤدي الوضع السابق إلى خلق طبقات تفصلها خطوط واضحة في المجتمع، لا تدرك الطبقات الدنيا من الأساس أنها يتم استغلالها لصالح الطبقات العليا وتستمر في العمل لأنها لا تملك خيارًا آخر، مبقية على الأمل في الوصول إلى مكان في الطبقات العليا عبر العمل الشاق، تلخص الجمل السابقة ما يعرفه ماركس بـ “الوعي الزائف”، أو الخيط الأخير الذي يمنع الطبقات الدنيا من الثورة على مستعبديها.
ملاحظة أخيرة
بالطبع يصح أي زعم بأن الحديث السابق هو اختصار شديد الإخلال للفكر الماركسي، إلا أن قواعد النشر تحدنا في هذا الكم، ويجب الإشارة إلى أن هذه المقدمة تفتقد لجزء رئيسي من أهداف السلسلة وهو توفير تقديم “نقدي” وافي، وهو ما أحاول فعله في مقال منفصل لاحقًا هذا الأسبوع.
مرة أخرى، أرحب بأي نقاش يخص المذكور في المقال أو تساؤلات إما في نطاق التعليقات أدناه أو عبر البريد الإلكتروني.
———————————-
قائمة مصادر للتوسع في القراءة
مقدمة إلى علم الاجتماع – أنتوني جيدنز (الفصل الحادي عشر)
مقدمة قصيرة جدًا إلى الفكر الماركسي – أوكسفورد
Sociological Theory – George Ritzer (الفصل الثاني)
البريد الإلكتروني للكاتب: [email protected]