دخل أوباما إلى البيت الأبيض قبل ست سنوات مثقلا بهزيمتين عسكريتين في العراق وأفغانستان، حاملا معه مشروعا لمعالجة المخلفات المدمرة التي تركتها المغامرات العسكرية الجامحة للمحافظين الجدد مع إمعانهم في استخدام القوة العسكرية تحت عنوان الضربات الاستباقية. وقد اتجهت أولوية أوباما إلى الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط والتركيز بدلا من ذلك على مواطن الخطر الاستراتيجي في جنود شرق آسيا، بخلفية كبح القوة الاقتصادية والعسكرية الصينية الصاعدة، ثم بدرجة اقل على جبهة أوراسيا للحيلولة دون عودة روسيا بطموحاتها وترسانتها العسكرية للساحة الدولية.
وبفعل الكدمات التي تلقتها الولايات المتحدة الأمريكية وصعود قوى جديدة على الساحة وعودة أخرى مجددا، لم تعد أمريكا الطرفَ الوحيدَ المتحكمَ في المعادلات القائمة في المنطقة، بل غدت لاعبا من بين لاعبين آخرين متنازعين. وكان من النتائج المباشرة لهذه المتغيرات الكبرى أن الأطراف العربية التي ظلت لعقود من الزمن تحتمي بالمظلة الأمريكية قد وجدت نفسها في العراء من دون حماية ومن دون أن تتهيأ لذلك، في حين أن تلك التي كانت تناهض السياسة الأمريكية وتحشد قواها في مواجهتها قد غدت في وضع أقوى.
فالإيرانيون مثلا وبحكم حالة الإنهاك الأمريكي تمكنوا من عقد تسوية مع القوى الغربية حول مشروعهم النووي، كما نجحوا في التموقع داخل الساحة العراقية والنزول بقوة في الساحة السورية واليمنية وتعزيز حضورهم في لبنان محمولين على المجموعات الشيعية المنشرة في مناطق مختلفة من المنطقة.
حالة الاضطراب والتخبط المتمخضة عن تراجع حضور الحليف الأمريكي في المنطقة تضع هذه الدول العربية، خصوصا تلك التي تتدثر بالغطاء الأمريكي، أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما مواصلة الاعتماد على حماية أمريكية تتلاشى يوما بعد يوم، أو التعويل على إمكاناتها وقواتها الذاتية وما يقتضيه ذلك من استعداد للدفاع عن مصالحها المباشرة والمشتركة كدول عربية فيما بينها، خاصة وأن أوباما بعث بأكثر من رسالة مفادها انه لن يغامر بالقوات الأمريكية مجددا في نقاط الصراع في المنطقة في العراق وسوريا أو غيرها، وأن أقصى ما بوسعه هو استخدام الضربات الجوية وإرسال الخبراء العسكريين لا أكثر.
الواضح اليوم أن المعادلةَ ليست لصالح العرب بسبب حالة الانقسام الداخلي التي يتخبطون فيها من جهة، ثم لغياب البوصلة والرؤية المشتركة، مقابل وجود مشروع وإرادة وتصميم لدى المحور الإيراني- الروسي المقابل الذي تجند للدفاع عن مصالحه بكل شراسة في إطار وضوح في الأهداف والوسائل المفضية إليها. ولن يقدر العرب على تعديل المشهد لصالحهم وتدارك أوضاعهم إلا إذا تمكنوا من اتخاذ الخطوات التالية:
1- عودة مصر لممارسة دورها المطلوب بحكم ثقلها السياسي والعسكري في المنطقة وذلك بدفعها إلى عقد تسوية سياسية داخلية توقف نزيف الصراع المكلف بين النظام وخصومه السياسيين، باتجاه عودة حياة سياسية مدنية معقولة، وهو الصراع الذي دفع ويدفع السيسي إلى مزيد الارتماء في أحضان إسرائيل، صارفا مصر عن ممارسة دورها الطبيعي في المنطقة، بما يحمي مصالح مصر والعرب على حد سواء.
2- الضغط على بعض دول الخليج للكف عن ممارسة سياسة عبثية موغلة في تفتيت الجسم العربي من خلال زرع الفتن الداخلية وتأجيج الصراعات في اكثر من موقع في العالم العربي وحتى خارجه عبر استخدام سلطة المال والإعلام، وهي سياسة تُنفَّذُ بالتحالف مع اللوبيات اليمينية الأمريكية والإسرائيلية. ففي ليبيا، تعمل هذه الأطراف على تأبيد الأزمة والنزاع المسلح بدل السعي لتهدئة جبهة الصراع وتشكيل حكومة توافق وطني، مثلما عملت من قبل على دعم علي عبد الله صالح واتباعه في اليمن قبل أن ينقلب عليها، فضلا عن تدمير الوضع في مصر ودفعها في أتون دكتاتورية عسكرية عمياء.
بل إن سياستها التخريبية هذه قد تجاوزت حدود الساحة العربية إلى تركيا المجاورة حيث سعت لإسقاط أردوغان ودعم خصومه تحت عنوان مواجهة الإسلام السياسي حيثما كان. وبلغ صلفها حد التحريض على فلسطيني 48 لملاحقة قياداتهم وإغلاق مؤسساتهم بدل مؤازرتهم في وجه سياسة التهويد وابتلاع الأرض وتغيير هويتها العربية. السؤال المحير هنا: لمصلحة من يشتغل هؤلاء وما الذي يريدونه من هذه الأجندة التخريبية المعادية للعرب ومصالحهم؟
3- يجب العمل على إعادة قدر من الُّحمة في الوضع العربي من خلال تهدئة جبهات الصراع الداخلي وتقوية التعاون مع تركيا المجاورة التي تواجه مخاطرَ وتحديات مشابهة، من أجل إعادة التوازن المفقود في الساحة العربية والإقليمية.
الغاية من هذا التوجه ليست الدخول في معركة أزلية ومفتوحة مع ايران، ولكن حملها على التخلي عن طموحات الهيمنة في العراق وسوريا واليمن وغيرها، وبناء معادلة متوازنة ومعقولة في المنطقة تأخذ بعين الاعتبار مصالحَ المكونات الرئيسة فيها، أي العربَ والتركَ والإيرانيين، فقَدَر المنطقة ومهما كانت الخلافات والصراعات التي تشقها هو إيجاد تعايش وتعاون بين هذه القوميات الثلاث بعيدا عن التدخلات الخارجية .
منطقتنا هذه تقوم على ثلاث مكونات رئيسية هي العرب والترك والإيرانيون، والمشكلة القائمة اليوم ناتجة في جوهرها عن حالة الضياع والتيه التي يتخبط فيها العرب بسبب انعدام الرؤية المشتركة أو الحد الأدنى من الاستعداد للدفاع عن مصالحهم.
على العرب أن يدركوا أن سياسة التعويل على ما يسمى بالحليف الأمريكي لن تُجديَهم نفعا ولن تزيدهم إلا ضعفا على ضعف ما لم يأخذوا زمام أمورهم بأنفسهم وينزعوا الشوك بأيدهم بدل التعويل على قوة أمريكية منسحبة ومتراجعة. فمتى يستفيق العرب من غيبوبتهم ويكفون عن تدمير أنفسهم ويتداركون وضعهم المأساوي؟!
نُشر هذا المقال لأول مرة في موقع عربي 21