أثارت اللحظة التي تغيّر فيها سمير صدمة الجميع، كيف لشاب عشريني يدرس العلوم الطبيعية وتتمتع أسرته بدخل جيد أن يتجرع سم الغلو وقد ترعرع في بيئة مرموقة تحترم التعاليم الدينية والعادات والتقاليد الإجتماعية . لم يكن يمثل اختياره سقوطا لشخصه فحسب بل لعلاقات وارتباطات أخرى . أمّا مصطفى فيتصف بنفس الظروف الظاهرة ويقع تحت ذات الضغوط لسمير لكنه لم يتغير! ما الفرق إذاً؟
لقد تناول الباحثون دراسة الحركات المتطرفة حدّ الإشباع من مختصين في مجال العلوم الاجتماعية والسياسية ومجال الأمن، ولعل ما توصلوا إليه من دوافع تشكل الجزء الظاهر من الصورة على أنّ من الدوافع ما تشكل الجزء الباطن حيث التفاعلات الخطيرة كجوف جبل يغلي بالبراكين.
لسنا إذاً أمام حالة خفية تعصي على الإكتشاف، بمعنى ما خفي ليس خافيا لو تمت القراءة بمعزل عن مختلف التحليلات التي ملأت المساحة وحجبت جزءً متبقيا من الحقيقة ربما عن غير قصد لتظهر المقصوصة مقصورة منقوصة.
ذهب المحلل الاجتماعي لما ذهب إليه قائلا إنّ مثلث القهر (الجهل-الفقر-المرض) هو المسؤول عن ظهور التطرف، وذهب المحلل السياسي إلى أنّ الإستبداد وقمع الحريات هو الذي أنتج هذا الواقع المتهالك، وقطع المحلل الأمني رأيه قائلا إنّ الفوضى التي تبعت ما أُسميت بالربيع العربي هي التي ورّمت المرارة، لكن بالرغم من وجاهة التبريرات تُبقي الإجابة بين دفاتها جزءً من الحقيقة وتقطع الشك بيقين مفاده أنّ التطرف ليس ظاهرة أحادية الجانب بل مركّبة من عدة عوامل.
إنّ العوامل النفسية لصيقة بالعوامل الأخرى وليست أقل تأثيرا منها . ولكي نخوض في تحليل هذه الظاهرة من منطلق نفسي يتعيّن علينا المرور على بعض المصطلحات الأولية بإيجاز، حيث يشتمل الجهاز الذاتي للفرد على “الهُو” والعديد من “الأناءات” ومن أبرزها : الأنا، والأنا الأعلى، ومثال الأنا، والأنا المثالي.
الهو : هو مكمن طلب إشباع النقص بشكل فوري لتحقيق اللذة، وهو المرحلة الأولية التي ترافق الفرد ليمرّ عبرها إلى مرحلة الأنا دون الإرتهان للأنا الأعلى.
الأنا : فحسب “فرويد” تشير الأنا إلى الهُوية التي لا يمكن أن تأخذ معناها إلا عن طريق نفي الآخر، على اعتباره أنه غير الأنا، حيث يتعامل ما الآخر أي مع الواقع الخارجي.
الأنا الأعلى : وهي ما نسميه الضمير، تعتبر سلطة صغرى مقارنة بالدين والعرف، وهي مستودع المثاليات التي تتجاذب مع الأنا لتجعلها إما خاضعة لها ومضهدة من قبلها بالمطلق أو ملاحقة منها نسبيا .
مثال الأنا : فحسب “جاك لاكان” هو وصل الأنا في مثال أعلى، يضعه الأنا نصب عينيه، ولا يتوخى إلاّ الإقتراب منه والوصول إليه أو تحقيقه .
الأنا المثالي : يقول لاكان بأنها مثالية، يريد الفرد أن يتوصل إليها لتشعره بالإكتفاء التام ويحصل على محبة الآخرين، بالشكل الذي يتمنى أن ينظر إليه .
التحليل النفسي :
في الحالات الطبيعية يستطيع الفرد السوي أن يحقق التوازن بين سلطتي الهو والأنا الأعلى حيث تتطلب الأولى إشباعا فوريا للرغبة الكامنة تحقيقا للذة بينما تتطلب الأخرى إخضاعا تاما للأنا في صورتها المثالية، لكن الأنا السوية تسيطر على الموقف لتتلذذ في الوقت المناسب وتحقق بذلك المثالية دونما حرمان، بمعنى أنّ الأنا هي بيضة القبان التي تحقق التوازن والإستقرار والأمان الداخلي.
لكن في حالات الميل من السواء إلى الاّ سواء تحدث التداعيات، مثلا حرمان الأمومة ينقل الأثر من الظاهر إلى الباطن حيث مكائن الكبت، التي تستمر مكبوتة طيلة الحياة لكن بمجرد التعرض لمواقف مشابهة للأثر تعود العوارض للحياة فلا يقوى على مواجهتها بسبب عدم تمكن مسح الأثر وبسبب غياب أدوار الآخر وبالتالي قلة الخبرة مما يلجئه إلى إسقاط هذا الحرمان على هيئة أدوار خطيرة قد يكون التطرف إحداها، لكن المكبوت يطوي على ما هو أشد حيث الحرمان الجنسي الذي يؤدي بالحالة السوية إلى النكوص وكبت الرغبات سيما وإن كانت تحوي ماضيا مؤلما كالشذوذ أو التحرش تنعكس مع التقدم في العمر على هيئة محاولات لإثبات العكس حيث الذكر يثبت ذكوريته باللجوء مثلا للعنف بما يحقق إشباعا لذكوريته ودسا لماضيه المؤثر في النسيان، والأنثى تثبت أنوثتها باللجوء مثلا إلى جعل مظهرها الخارجي يبدو أكثر اتساقا وجمالا واغراءً، أما في حالات الاّ سواء فبالنسبة للجنسيين تنتقل بهم إلى حالة مرضية بائسة قد تبدأ بالإكتئاب وتنتهي بالشذوذ وفي أسوء الحالات بالإنتحار في حال عدم تدخل خارجي، نظرا لاحتباس المكبوت في مرحلة من مراحل الطفل الجنسية التي لم تكتمل لاسباب يطول شرحها في هذا المقام ولا يقصر.
وفي حالة مثال الأنا تتماهى أو تعيّن الأنا الآخر كرمز تريد الإحتذاء به والإقتراب منه والوصول إليه وبالتالي تحقيقه باتخاذ أشكال مختلفة دينية أو أخلاقية أو فنية أو رياضية أو مهنية أو فكرية.
الانحراف يطلّ بتأثيراته عندما تتماهى الأنا مع مثال خاطىء تعيّنه بأدق التفاصيل من مشية وملبس وقصة شعر انتهاءً بإحلاله وهْمِه سعيا للبطولة والسيطرة والسلطة والنفوذ والمال والجنس حتى تتطابق به، فإن كان المثال مثالا متطرفا باتت الأنا متطرفة، حتى إذا كفّر كّفرت، وعذّب عذّبت، وقتل قتلت، لإنّ هالة من القداسة تحُاط به سيما وإن كان المنطلق أيديولوجيا .
أما الأنا المثالي تسعى حثيثة لإدراك الرشد والغلق على الشقاء لتكون الأنا الأنا المثالي.
يقول “كانت” أحد أبرز الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوربية الحديثة : (إنّ معرفة الذات سقوط في مهاوي جهنم) فكيف إذا تجلّت على الواقع إحدى حالته المرضية كالسّادية أو النرجسية ألن تكون جحيما قارّا أسودا على الآخر؟ والمراهق اليائس الذي يبحث في العنف البائس المتمثل بالأعمال الإجرامية والإرهابية يريد من ذلك بلوغ شكل يعترف به في الوجود الإجتماعي ويحقق ذاته ويحصل على امتيازات اجتماعية من سلطة ومال وشهرة ونفوذ وغيره، لكنّ الأنا في سيرها للسواء تروض الهو وتداهن الأنا الأعلى وترفض المثال الخاطىء لتصل للأنا المثالي السوي، وهنا بالكامن المكبوت الذي يحتفظ بالماضي برز وجه الفرق بين سمير ومصطفى بالرغم من تشابه ظروف الظاهر والضغوطات الواقعيْن تحتها.