” إلى فضيلة الإمام الأكبر وهيئة كبار العلماء الموقرة وإلى رجال الجماعات الإسلامية والفكر الإسلامي .. فكرت طويلا في هذا الخلاف العلمي بين الجماعات الإسلامية في مصر أولا ثم في بلدان العالم الإسلامي ثانيا وتلمست طويلا السبيل إلى جمع القلوب حول هدف أسمى تلتقي عنده الأرواح المؤمنة وتتجه إليه الجهود العاملة وتقوم على أساسه النهضة المنتظرة .. “
قد لا يعرف كثيرون أن تحت هذه المقدمة مضمونا من أهم المضامين التي يتم تدريسها داخل جماعة الإخوان المسلمين وفيها ما يُعرف بالأصول العشرين، وقد كانت ضمن رسالة أرسلها حسن البنا – كما ذكر الأستاذ أنور الجندي في كتابه حسن البنا – إلى شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء وكثير من رجال الفكر والعمل الإسلامي منذ ما يقارب ال 8 عقود دون تفسير أو شروح خاصة، بغرض قال عنه :
” وقد أردت أن أضع أمام أنظار المفكرين من رجال الإسلام هذه ( الصيغ ) والبنود التي أعتقد أنها تقرب إلى أقصى حد وجهات النظر المختلفة مع موافقتها للحق إن شاء الله، رجاء أن يطيلوا فيها النظر فإذا رأوها صالحة لجمع الكلمة اتخذنا منها أساسا للأخوة وجمعنا عليها شعب الخلاف ورددنا المفترقين إلى هذا الأصل “
قد تكون مفارقة كبيرة أن تكون رسائل عامة لرموز ومفكرين أو رسائل أخرى ألقيت في محاضرات ومؤتمرات أو كانت اشتباكا وسجالا عمليا مع الواقع أو إجابة على أسئلة وقضايا مثارة تحولت إلى رسائل للدراسة الخاصة يتتابع عليها الأجيال بالدراسة وبمزيد من الشروح والتفاسير.
كانت حياة حسن البنا عصارة لا يمكن فصل أفكاره وتكوينه عن حركته وأفعاله، لم يكن رجلا بيروقراطيا ولا رجلا منعزلا يتعرف على مشاكل الناس بالتقارير، أو من خلال الإعلام أو من خلال أفراد ولجان الإخوان، كان حسن البنا يشتبك مع القضايا العامة من داخلها، فلا يتكلم عن الإسلام والمحبة والأخوة والقيم العامة دون أن يكون ملما وفاعلا في قضية الاستقلال ومشاكل الأمن القومي والحدود والحالة الاجتماعية والاقتصادية ومشاكل المجتمع والناس، هو هو الذي يتحدث عن خواطر القرآن يتلمس بالأرقام معيشة الفلاح المصري وحالة الريف فتجده يقول مثلا :
” إن أربعة ملايين من المصريين لا يحصل أحدهم على ثمانين قرشا في الشهر بشق النفس، فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري بل الأسر المصرية عامة، كان متوسط ما يخص الفرد في العام جنيهين، وهو أقل بكثير مما يعيش به الحمار، فإن يتكلف صاحبه (140 قرشا خمس فدان برسيم و 30 قرشا حملا ونصف الحمل من التبن و 150 قرشا أردب فول و 20 قرشا أربعة قراريط عفش ذرة ومجموعها 340 قرشا) وهو ضعف ما يعيش به الفرد من هؤلاء الآدميين في مصر، وبذلك يكون أربعة ملايين مصري يعيشون اقل من عيشة الحيوان. ” من هم الإخوان المسلمون
كان أغلب وقته بين الناس وفي القرى والنجوع والمحافظات وليس في الغرف المغلقة، يتحدث عن مشاكل العمال ومعاناتهم كأنه واحد منهم يقول :
” لقد بلغت أرباح شركة المياه منذ تأسست في 27 مايو سنة 1865 إلى سنة 1933 عشرين مليونا من الجنيهات , وقد بلغ التفريط والتهاون بالحكومة المصرية أن باعت حصتها في أرباح الشركة في عهد وزارة رياض باشا (وكان ناظر الشغال حينذاك محمد زكي باشا) بمبلغ عشرين ألفا من الجنيهات مع أن حصتها في صافي الربح من تاريخ البيع وهو 10 يوليو سنة 1899 إلى سنة 1934 فقط مبلغ مليونين ونصف من الجنيهات . إن في مصر 320 شركة أجنبية تستغل جميع مرافق الحياة , وقد بلغت أرباحها في سنة 1938 الماضية (7.637.482 جنيها) وهذه الشركات جميعا تخالف نصوص العقود في كثير من التصرفات ثم لا يكون التصرف معها إلا متراخيا ضعيفا يفوت الفائدة على الحكومة والجمهور معا. ” من هم الإخوان المسلمون
عجيب أن يكون مؤتمرا لرؤساء المناطق، لا يتحدث فيه عن نفسه ولا عن شأن التنظيم وأحواله بل شأن البلاد هو شأنه، فقناة السويس ومستقبلها حاضر في هذه الاجتماعات :
” وقناة السويس ـ أرض مصرية حفرت بدماء مصرية وجهود أبنائها فيجب أن يكون لمصر حق الإشراف عليها وحمايتها وتنظيم شأنها، ولقد قارب أمد امتيازها الانتهاء وتفكر بعض الدول في التدخل في شأنها أنها قد اشترت عدداً كبيراً من أسهمها. إن مصير هذه القناة إلينا بعد عدد قليل من السنين، ومن واجبنا أن نتنبه لذلك من الآن وأن نطالب بزيادة عدد الموظفين من المصريين في الأقسام المختلفة وبخاصة الأقسام الفنية التي تحتاج إلي دراية ومران. يجب أن نستعد للمستقبل وألا ننتظر الحوادث حتى تفاجئنا ونحن علي غير استعداد. ويجب أن تعترف لنا الدول بهذا الحق الثابت وتقرنا عليه . ” في اجتماع رؤساء المناطق – ومراكز الجهاد
ومن حديثه عن الاقتصاد وعن استقلال النقد :
” ومن أفظع التغرير بهذا الشعب، أن يسلم جهوده ومنتجاته نظير أوراق لا قيمة لها إلا بالضمان الإنجليزي، وإن مصر إذا حزمت أمرها، وأحكمت تصرفاتها، ستصل ولا شك إلى هذا الاستقلال … ولقد انفصلنا عن الكتلة الإسترلينية، وفكرنا في تأميم البنك الأهلي، وطالبنا بالديون التي لنا على الإنجليز، وكل هذه ونحوها مشروعات تؤمن النقد المصري … فماذا فعل الله بها ؟ وماذا أعددنا العدة لإنقاذها ” النظام الاقتصادي
” ولقد أنتج ضعف الرقابة على النقد , والاستهانة بأمره استهانة بلغت حد الاستهتار، هذه المآسي التي نصطلي بنارها من التضخم الذي استتبع غلاء المعيشة، وصعوبة الاستيراد والتصدير. ” النظام الاقتصادي
كان حسن البنا رجل العمل لا رجل الغرف، ورجل الاشتباك العملي والتجربة والفعل لا رجل اللطم والبكاء على الماضي والأمجاد، لم يكن منعزلا ولا مترددا ولا خائفا ولا منكفئا ويبدو أنه عبّر عن مفتاح أساسي من مفاتيح شخصيته حين جادله البعض في بداية دعوته عندما طرح فكر ة البدء برواد المقاهي بأسلوب جاذب وطريقة مناسبة، ولما أطالوا الجدل عقّب فقال ” ولما طال بنا الجدل حول هذا الموضوع قلت لهم : ولم لا تكون التجربة هي الحد الفاصل .. ” حسن البنا تأليف أنور الجندي
إن أحوج ما يحتاجه من يظن أنه من تلاميذ البنا أن يتنافس في فهمه للمجتمع ومشاكله بعمق بالفعل والتجربة لا بالشعارات واللوائح، ويتنافس في حركته بين الناس وفي قدرته على وضع حلول للواقع ولايتنافس في بيروقراطية الغرف المغلقة، من يتأمل مسيرة البنا عليه أن يجعل التجربة والممارسة العملية هي الحد الفاصل للتقييم والنظر، فما تم تجربته هو حصيلة فكر واجتهاد وعمل عبر سنين طويلة، لا يمكن أن نتجاهله أو أن نخترع العجلة بعده ، بل واجب أن نستخلص خلاصات تلك التجارب، ولا ندور كحمار الرحى المكان الذي ارتحل منه هو الذي وصل إليه.