ترجمة وتحرير نون بوست
في أوائل عام 2011، توقع معظم المحللين بأن الجزائر، التي تعاني من الفساد، المحسوبية، تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، تقييد الحريات، نقص المساكن، وسوء الإدارة، ستكون الدولة الثانية التي ستواجه انتفاضة الربيع العربي، ولكن على الرغم من أعمال الشغب ضربت البلاد، إلا أنه تم قمع هذه التحركات بسرعة، ودون إراقة الدماء، من قِبل القوة الشرطية الجزائرية الكبيرة، المدربة تدريبًا جيدًا، المجهزة تجهيزًا جيدًا، والتي تتقاضى رواتب جيدة.
أضحت الاحتجاجات والإضرابات وأعمال الشغب أعمالًا روتينية ودائمة حتى يومنا هذا ضمن الجزائر، لدرجة وصل معها تكرار هذه الحوادث إلى 500 حادثة في الشهر، ولكن، بشكل عام، كان النظام الجزائري قادرًا على معالجتها من خلال المكافآت ورفع الرواتب أو تقديم قسائم الإسكان، وبعبارة أخرى، تم إبقاء الاحتجاجات محلية ولم تتمتع جماعات المعارضة بدعم شعبي كبير، وعلاوة على ذلك، تم ضم العديد من المعارضين إلى المناصب الحكومية، حيث انخرط قادة معظم أحزاب المعارضة بشكل أو بآخر ضمن الحكومات المتعاقبة.
استطاع الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، النجاح في استمالة الشعب والمعارضة في الوقت الذي فشلت فيه جميع الحكومات الأخرى في المنطقة بتحقيق هذا الأمر، وهذا عائد لتذكر الجزائريين بأسى للصراع الوحشي الذي عانت منه البلاد في تسعينيات القرن المنصرم، عندما حاربت القوات الحكومية الجماعات الإسلامية المختلفة، فحينها كان متوقعًا أن تفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات التشريعية لعام 1992، لذا تم إلغاء الانتخابات بطريقة مفاجئة، مما أثار العنف في البلاد على نطاق واسع.
لا تزال الحكومة الجزائرية اليوم تتمتع بالكثير من النقود واحتياطيات النفط والغاز لشراء الولاء، ولكن يبقى السؤال الوحيد، هل سيبقى النظام الجزائري مرنًا بما فيه الكفاية للاستمرار في مواجهة التحديات الجديدة؟
مشكلة خليفة بوتفليقة
بعد مشاهدة الديكتاتور التونسي زين العابدين بن علي يفر من بلاده في يناير من عام 2011، تقدم بوتفليقة بوعود لإدخال إصلاحات تهدف إلى ما سماه بـ”تعميق العملية الديمقراطية” في الجزائر، حيث رفع حالة الطوارئ التي كانت مفروضة منذ عام 1992، وتقدم في أبريل من ذلك العام بخارطة طريق للإصلاحات، وحينها، تضمنت الخارطة وعودًا غير محددة لتعديل الدستور، ومراجعة قوانين الانتخابات، الأحزاب السياسية، الجمعيات، مشاركة المرأة في الحياة العامة، ووسائل الإعلام.
تمت الموافقة على حزمة الإصلاح، بما في ذلك مشروع قانون حول التمثيل السياسي للمرأة، في أغسطس 2011 من قِبل مجلس الوزراء، الذي يسيطر عليه حزب جبهة التحرير الوطني التابع لبوتفليقة، ومن ثم تم تمرير مشروع القانون عبر مجلس النواب، وبعد فترة وجيزة، دعا بوتفليقة لانتخابات تشريعية وبلدية، سمح ضمنها لعشرات الأحزاب المعارضة الصغيرة بالترشح بعد سنوات من التوقف، ونتيجة لتفتت وصغر حجم المعارضة، فازت جبهة التحرير الوطني وحلفائها بسهولة؛ وهكذا، ومن وجهة نظر النظام الجزائري، أعطت نتيجة التصويت موافقة عامة لبوتفليقة لمتابعة عمليته الديمقراطية الخاصة، والتي تتضمن نهجًا تدريجيًا غير مفروض من قِبل القوى الأجنبية، ظاهريًا.
ولكن على أرض الواقع، استخدم بوتفليقة تلك الفترة لتعزيز سلطته؛ فعلى الرغم من سوء حالته الصحية، حيث أصيب بجلطة في أبريل 2013، أُعيد انتخابه لولاية رابعة في أبريل 2014، وقام بحملته الانتخابية من خلال وكلاء مقربين منه لأنه لم يكن قادرًا على المشي أو إلقاء الخطب؛ فمن خلال شقيقه القوي، سعيد بوتفليقة، الذي يعتبر جزءًا من القلة الحاكمة التي تدير البلاد، قام بوتفليقة، في نوفمبر 2015، بإقالة رئيس المخابرات محمد “توفيق” مدين، ووضع مكانه أقرب زميل لتوفيق، عثمان “بشير” طارطاج، كما قامت الحكومة أيضًا بحل المكتب شبه المستقل الذي ترأسه توفيق، واستبدلته في يناير 2016 بوكالة أكثر قوة، المديرية العامة للأمن، التي تقدم تقاريرها إلى الرئيس، وتتمتع ببعض النفوذ داخل الجيش.
استطاع الأخوان بوتفليقة المضي بطرح هذه التغييرات من خلال استغلال الانقسامات داخل الجيش حول دور أجهزة الاستخبارات وقيادة القوات المسلحة، حيث يزعم النظام بأن عملية إعادة هيكلة الأجهزة العسكرية والإستخباراتية دليل على أن الدولة آخذة في التطور والإصلاح؛ ففي ظل هذا النظام، لم تعد أجهزة الاستخبارات العسكرية العمود الفقري للنظام السياسي، بل أضحت مؤسسة مهنية تعمل داخل دولة مدنية، ولكن مزاعم بوتفليقة لهذه الجهة تبدو مشكوكًا بصحتها، لأن الدستور الجديد الذي أُقر بدون أي معارضة من قِبل البرلمان في 7 فبراير 2016، لا يقدم أي دليل على دعم هذه المزاعم؛ ففي الواقع، حتى لو تم حد وقصر صلاحيات الجيش دستوريًا للدفاع عن الدولة وصيانة سلامة أراضيها، ستبقى المؤسسة العسكرية حجر الزاوية في الدولة الجزائرية حتى ذهاب بوتفليقة من الحكم.
الدستور الذي تم إقراره مؤخرًا في الجزائر يحد عدد فترات الرئاسة إلى اثنتين، ولكن المشكلة الرئيسية بالجزائر ليست بالدستور بحد ذاته، بل في عدم احترام القوانين؛ مما يجعل مناقشة مزايا مشروع قانون معين أو مناقشة تعديل معين عملية غير مجدية البتة، ويبقى السؤال الحقيقي في الوقت الحاضر، من سيخلف بوتفليقة؟
تكثر الشائعات، ولكن نظرًا للغموض الذي يحكم النظام السياسي، ليس من الحكمة أن نتنبأ بخليفة بوتفليقة، فالأخير رفض أن يُضمّن الدستور الجديد منصب نائب الرئيس الذي يمكن أن يخلفه في حالة المرض الشديد أو الموت، ومن المرجح أن تعمد الجماعات المتنافسة المختلفة في أعلى قمة النظام الجزائري لمحاولة الإجماع على خيار للشخص الذي سيحل مكان بوتفليقة والذي سيحفظ لهم المصالح التي راكموها تحت حكم الأخير.
حتى هذه المرحلة، لا يبدو بأن هذه الفئة وجدت الشخص الملائم، ولكن إذا صدقت الشائعات التي تقول بأن شقيق بوتفليقة سيخلفه، فإن انتقال السلطة سيكون محفوفًا بالمخاطر ومعقدًا؛ فسعيد لم يكن له أن يرتقي إلى السلطة بدون مساعدة أخيه، كما أنه ليس مسؤول أمام أي شخص إلا نفسه، فضلًا عن مسؤوليته عن خلق ما يسميه زعماء المعارضة بحكم”الأوليغارشية”.
الانهيار الاقتصادي
إيرادات النفط والغاز تشكل نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي في الجزائر و 97% من عائدات الدولة من العملة الأجنبية، وعندما كانت العائدات من مبيعات النفط والغاز عالية، استطاعت الحكومة شراء السلام الاجتماعي، وتمكنت أيضًا من الاستثمار بكثافة في البنية التحتية، وعلى الرغم من أن مثل هذه المشاريع ساهمت في تأمين الحاجة للمساكن الجديدة وغيرها من البنى التحتية التي تشتد الحاجة لها، أسفرت هذه الاستثمارات أيضًا عن إنشاء درجة جديدة وفاسدة من رجال الأعمال.
أما حاليًا، فقد أدى انخفاض سعر النفط لإثارة قلق النظام والطبقة التجارية الجديدة التي تعتمد في بقائها على العقود الحكومية، وحتى الآن، اعتمد النظام على الـ200 مليار دولار التي جمعها كاحتياطيات عندما كان سعر النفط مرتفعًا، وبعد عامين فقط من الإنفاق، استنفدت الجزائر نصف هذه المخزونات، ولم يبق إلا ما يكفي الدولة للنجاة بنفسها لعامين آخرين فقط.
في ديسمبر 2015، أصدرت الحكومة قانونًا ماليًا لعام 2016 يهدف لمعالجة الأزمة الاقتصادية، يعد هذا القانون، الذي نص على بعض التدابير التقشفية، مثيرًا للجدل، لأن الحكومة فشلت في معالجة قضايا دعم السلع الأساسية والرعاية الطبية والإسكان.
لا شك بأن المسؤولين الجزائريين يخشون من أن رفع الدعم قد يعمل على حشد معارضة هادئة، ولكن الموقف صعب للغاية، لدرجة أجبرت الحكومة على التفكير مليًا بإمكانية رفع الدعم بشكل تدريجي في الوقت الذي تعمل فيه على توفير النقد اللازم للجزائريين بدلًا من ذلك، وهذا قد يجبر الحكومة للجوء، ولو على مضض، للاقتراض من الأسواق الدولية.
باختصار، عدم رغبة النظام الجزائري بعد كل هذه السنوات في تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد منتج ستطارده بذات الطريقة التي تنبأ بها الخبراء تمامًا؛ فلا يوجد أمام الحكومة الجزائرية من خيار سوى خفض الميزانيات، زيادة أسعار بعض السلع، والحد من الواردات، وهذه التحديات تتحول إلى كابوس أسوأ إذا تلاحمت مع العوامل الأخرى، ولا سيما الفساد، حيث يضع مؤشر منظمة الشفافية الدولية الجزائر في المرتبة الـ88 من أصل 167 دولة في عام 2015 كما أن تقرير ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي لعام 2016 يضع الجزائر في المرتبة 163 من أصل 189.
انعدام الأمن
تشترك الجزائر بحدودها مع ليبيا في الشرق ومالي في الجنوب، وامتداد المشاكل الأمنية من هذين البلدين المدمرين بالحرب يشكل تهديدًا رئيسيًا ومستمرًا للاستقرار في الجزائر، حيث نشرت البلاد حوالي 75.000 جندي على تلك الحدود للمحافظة على أمن الداخل الجزائري، وفي هذا الموضع، أثبتت قوات الأمن الجزائرية براعتها العالية في مكافحة الإرهاب؛ ففي ديسمبر 2014، استطاعت نزع خلية “جند الخلافة” الجهادية، والتي تعهدت بالولاء لداعش، من مقرها في شمال الجزائر، كما منعت تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من تهديد النظام في الجزائر.
في الوقت الذي يتشدق فيه المسؤولون الجزائريون بفكرة أن الحروب في الشرق الأوسط هي عبارة عن حيلة مدبرة من قِبل القوى الغربية لزعزعة الاستقرار في المنطقة، واصلت الحكومة الجزائرية تعميق العلاقات الأمنية الثنائية التي بنتها مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منذ حوادث سبتمبر؛ فعلى سبيل المثال، قدمت الجزائر دعمًا لوجستيًا لفرنسا خلال التدخل الفرنسي في شمال مالي في يناير من عام 2013، وشاركت أيضًا معلومات استخبارية قيّمة لمكافحة الإرهاب مع نظرائها الغربيين، وعلى الرغم من أن الجزائر لا تتلقى أي مساعدات عسكرية من الدول الغربية، استطاعت من خلال وارداتها النفطية دعم وتجديد معداتها العسكرية، حيث أنفقت الدولة مليارات الدولارات على الأجهزة العسكرية المتطورة من روسيا، وهي المورّد التقليدي للجزائر، ولكن أيضًا من فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، والولايات المتحدة.
لهذا كله، سببت الصراعات في ليبيا ومالي قلقًا طاغيًا للسلطات في الجزائر، وفي الواقع، يمكن أن تعزى إعادة الهيكلة الأخيرة لأجهزة الاستخبارات جزئيًا إلى هذه المخاوف، حيث يهدف تحسين التنسيق بين مختلف فروع المخابرات وكذلك مع القوات العسكرية، لإعداد قوات الأمن لأي امتداد محتمل للصراع في ليبيا إلى الجزائر، كما يبدو الجزائريون قلقون للغاية من احتمالات تدخل غربي جديد في ليبيا، وهو الأمر الذي يبدو معقولًا على نحو متزايد، ويرون بأن هذا التدخل سيسبب كارثة لمنطقة شمال أفريقيا، حيث يفر آلاف اللاجئين من العنف، ولهذا أوضحت السلطات الجزائرية معارضتها الصريحة لمثل هذا التدخل، ولكن صوت الجزائر لم يعد قويًا كما كان ضمن الساحة الدولية، لأسباب ليس أقلها التشكك بالدولة الناجم عن حالة شبه الشلل التي يعاني منها بوتفليقة والشكوك التي تساور المجتمع الدولي حول الشخص أو المجموعة التي تحكم الجزائر.
بعد خمس سنوات من الربيع العربي، يبدو بأن الجزائر، أكبر بلد في أفريقيا، قد حافظت على بعض مظاهر الاستقرار؛ فغياب بوتفليقة لمدة ثمانية أشهر لتلقي العلاج في فرنسا بعد إصابته بجلطة في عام 2013 لم يهدد نظامه، بل على العكس من ذلك، عاد الرئيس المسن إلى كرسيه وهو يضمر عقلية انتقامية، وعلى الرغم من عجزه الجزئي، فشله في الظهور أمام شعبه منذ عام 2012، وندرة ظهوره على شاشات التلفزيون، تمكّن بوتفليقة من الإطاحة ببعض أقوى خصومه وترسيخ حكمه الديكتاتوري؛ فالعائدات الوفيرة للنفط والغاز، فضلًا عن وفرة الأمطار في البلاد، أمدوه بموارد كافية للحفاظ على السلام الاجتماعي، والنجاح في التوفيق بين الأصدقاء والأعداء من خلال إعادة توزيع الهدايا الطبيعة التي سُخّرت للجزائر.
المصدر: فورين أفيرز