تخوض حركة النهضة استعدادًا لمؤتمرها العاشر نقاشات عميقة تنظر في أصولها الفكرية لنشأتها ومسيرتها التاريخية وطبيعة عملها كحزب يطرح نفسه للتنافس السياسي على السلطة، كما تنظر في دورها المستقبلي بالبلاد وأبعاده الحركية التي عبرت عنها في تصورها لمشروعها الحضاري وروافد الاشتغال عليه، واليوم تبلغ النقاشات صميم خلفيتها المرجعية لتعبر عنها بقضية الفصل أو الوصل بين العمل السياسي والعمل الدعوي، وقد تكون هذه القضية في شكل التعبير عنها موهومة لم ترتق لتبيان عمق النقاشات ودلالته على التطور البارز لتصورات العمل الحركي للنهضة وكيفية استجابتها للمتغيرات التي طرأت عليها منذ الثورة برهاناتها الوطنية وحضورها الإقليمي وحتى الدولي.
ما تشهده حركة النهضة من مخاض داخلها يعود بالحديث عند نشأتها الأولى وخلفيتها المرجعية الإسلامية بسمتها الحركي والذي لا يمكن فصله عن سياق نشأة الكثير من التنظيمات الحركية الإسلامية التي شهدتها البلدان العربية منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر، وقد ترجمت أدبيات حركة النهضة وما عبرت عنه ممارساتها هويتها الإسلامية التي أطّرت ووجهت فعلها الحركي منذ نشأتها، ورغم انحصار دور النهضة في بعده السياسي على حساب باقي روافد عملها إلا أنها عبّرت في كل مراحله وفي سياق تطوره تمسكًا بتصورها للعمل بأبعاده المجتمعية والثقافية وفي هويته “الدينية” التي ميزتها بل وأكسبتها الفرادة بين باقي المكونات السياسية الفاعلة في البلاد.
واليوم، تطرح نقاشات الإعداد المضموني للمؤتمر العاشر للحركة في عمقها تصورًا للعمل الحزبي في سياق ما أقرّته من تمسك بالمنافسة السياسية على السلطة، ليتناول أصل التزام النهضة بنشأتها الحركية والتزامها “المرجعي” للاستجابة لحاجات المجتمع في سياق ما تقدمه من تصور لمشروعها الحضاري الوطني.
وتجد الحركة اليوم تسابق لتكييف خطابها السياسي للتعبير عن تجذرها الوطني وتونسيتها والتزامها بالعمل الحزبي “القانوني” الذي يعبر عنه الدستور التونسي وتؤطره القوانين المنظمة له، فإذا حصرنا عمق الإشكاليات التي تتناولها نقاشات المؤتمر القادم للحركة نجدها تتجاوز إشكاليات هوية النشأة والمرجعية الإسلامية بكثير من الالتزام والإقرار بها لتقف عند طبيعة العمل الحركي وقدرتها على الاستجابة لالتزاماتها الوطنية وما تطرحه من تصورات لمشروعها الحضاري الوطني.
ما تلقيه حركة النهضة اليوم من تصورات لعملها الحزبي القادم والتكييفات المقبلة عليها يطرح الوقوف عند “السمْت” العام الذي يميزها عن باقي الكيانات الفاعلة في البلاد، إن كانت سياسية أو نقابية أو جمعياتية، وتبقى فرادة حركة النهضة في مرجعيتها الإسلامية التي نجحت في صبغها بالصفة الديمقراطية، وهو ما فشلت فيه – بأقدار- باقي التنظيمات الحركية الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، سمْت حركة النهضة بمرجعيتها الإسلامية وكيانها الحركي وتطورها في استيعاب أبعاد فعل الدولة والسلطة منطلقات هي محل جدل داخلها حول قدرتها على الاستجابة للرهانات المقبلة والاستحقاقات الوطنية في إطار مأسسة عملها الحزبي وتمتين تماسكها الداخلي وفي تلبيه تطلعات التونسيين وتحقيق انتظاراتهم من النخبة السياسية عمومًا والأحزاب المقبلة على السلطة.
ولا شك أن معادلة السلطة وما تطرحه حركة النهضة للرهان عليها يدعوها اليوم للنظر في تصورها لمشروعها الحضاري الوطني الذي تعبر عنه وسبل إدارته وآليات تنزيله، وبالتالي النظر في تصورها للعمل الحزبي والتكييفات الهيكلية التي تدعوها للمزاوجة بين مطلب السلطة كخيار التزمت به وعملت عليه وبين ما أنتجته منذ نشأتها من مقاربات لمشروعها الحضاري بروافده المتعددة.
تجد حركة النهضة نفسها اليوم أمام ثنائية دقيقة، الإجابة عنها خلال المؤتمر القادم رهين توافق قيادي داخلي يتعذر الوصول إليه دون النظر في مآلات كل الخيارات على حضور الحركة كفاعل سياسي قوي ومقبل على السلطة وككيان تميز بسمْته وفرادته، وبالعودة إلى الخطاب السياسي للحركة منذ الثورة وتطوره على الصعيد الوطني والمقبولية التي حققها داخل أوساط المجتمع وحتى الفاعلين الدوليين في المنطقة، يعتبر مكسبًا تحقق خلال السنوات الأخيرة بالإقرار الداخلي للحركة بضرورة التطور واستيعاب رهانات المرحلة واستحقاقاتها، وبتقديرها للعبة الديمقراطية ومعادلات الفعل داخلها، دون أن تسقط في التوجس القائم حول مرجعيتها الإسلامية وطبيعة مشروعها الحضاري الذي تبحث اليوم عن سبل إدارته بما يفرضه عليها التزامها الوطني وتستوعبه قبة الدستور والقوانين المؤطرة للعمل الحزبي.
ولعل الإجابة عن مجمل الأسئلة المطروحة اليوم للنقاش والبت فيها خلال المؤتمر القادم، تفضي للحديث عن الخيارات الهيكلية الضرورية والتي ستتجاوز بها عوائق العمل الحزبي ورهانات السلطة وإكراهاتها، وكذلك تصورها للمشروع الحضاري الوطني، هذه الخيارات الهيكلية محل جدل كبير داخل الحركة، التي تعودت مركزة فعلها وتعديد روافده، وليس بالإمكان اليوم إدارة المشروع السياسي ومطلب السلطة وتصورها لمشروعها ضمن المقاربات التقليدية للعمل الحركي الذي أفقدها النجاعة وأثقلها، وأصبح عبئًا لا تقدر الرهانات المطروحة أمامها، الحزبية منها والوطنية، على حسن إدارتها وتحقيق الأفضل لها.
وتقدم عديد التجارب المقارنة للحركات الإسلامية والتنظيمات الحزبية تصورات هيكلية محترمة ومتقدمة في الفعل والنجاعة تجد فيها حركة النهضة استحسانًا بالإمكان الأخذ به مع مراعاة خصوصية الواقع التونسي وحاجاته وطبيعة فهم الشعب ونخبه للعمل الحزبي والرهانات عليه.
مخاض النقاشات التي تديرها حركة النهضة اليوم استعدادًا لمؤتمرها العاشر فارقة في تاريخها، تذهب بها للوقوف عند جذور نشأتها وتصوراتها الحركية ومرجعيتها الإسلامية وتلقي بها أمام التزاماتها الوطنية ورهانات المرحلة القادمة، ولا شك أن ما ستفرزه لوائح المؤتمر خاصة المتعلقة بتصوراتها الهيكلية هي صورة جديدة عن الحركة الإسلامية ستعزز حضورها الوطني ومقبوليتها داخليًا وخارجيًا.