ترجمة وتحرير نون بوست
هناك جانب مضيء لجميع أعمال العنف والفوضى والإرهاب والدمار والمأساة الإنسانية الشاملة التي يعاني منها الشرق الأوسط اليوم؛ ففي كامل العواصم الغربية أصبح الجميع خبيرًا في العقيدة الإسلامية.
وفي الوقت الذي يكافح فيه المسلمون باستمرار بغية الفهم التام لخلافات السنة والشيعة الاعتقادية، أو لإسباغ صفة “الصحيح” على الأحاديث النبوية المشرفة المروية من خلال الرواة الثقات، يبدو بأن الصحفيين والناشطين والمثقفين من خارج المنطقة يستوعبون كافة تلك الأمور، حيث تجدهم قادرين على تميير السني من الشيعي، تحديد أي مدرسة فكرية دينية هي الأكثر تقدمًا، وتقديم تعريف واقعي للكلمات ذات الطبيعة الإسلامية كـ”الجهاد” أو “الفتوى” أو “السلفية”.
إذن، من يحتاج رجال الدين أو الأكاديميين الذين كرسوا جلّ حياتهم لفهم الدين عندما تستطيع استقاء الإسلام من ورقة مجانية تُوزع خارج محطة مترو الأنفاق تشرح عن الدين كل شيء! والأمر ذاته ينطبق كذلك على السنوات الـ15 الماضية التي لم يمضِ فيها يوم واحد من دون أن تضم أجندة الأخبار تناولًا لدين الشرق الأوسط.
في أعقاب عام 2001، صب العالم جام غضبه على كلمة “الجهاد”، حيث اكتسبت اللغة العربية معنى جديدًا لهذه الكلمة، التي كانت تعني في البداية “النضال” بالنسبة للشخص المسلم الذي يعيش حياة تقية، ولكن تغيّر هذا المعنى بسرعة إلى تعريف آخر يعني “الرجل الملون العنيف الذي ينضم للعباءة الإرهابية طمعًا بجماع 70 امرأة عذراء”.
إلى جانب الإيحاءات الجنسية المقلقة التي يتم نشرها حول هذا الموضوع، كالتساؤل الذي يقول ما الذي تنتظره المرأة الجهادية في الجنة، تكمن قضية المعجم الديني وكيف تم، على مر السنين، تغيير الكلمات الحميدة بشكل تام لتناسب الأجندات السياسية المختلفة.
اليوم، لم تعد لندن وواشنطن تغزوان الدول لمحاولة إحلال الديمقراطية وإنقاذ المرأة المضطهدة، بل لمحاربة “الجهاديين”، الذين تلقوا، في كثير من الأحيان، تدريبهم ضمن السجون التي تديرها الولايات المتحدة، كسجن أبو غريب أو معسكر بوكا، الذي خرّج زعيم تنظيم داعش، أبو بكر البغدادي.
تمثلت النتيجة الطبيعية لهذه الحملة الإعلامية بتصعيد مشاعر الإسلاموفوبيا إلى مستويات تسرّب معها الخطاب العنصري عميقًا في قلب الخطاب اليومي، حتى إن بعض النشطاء المناهضين للعنصرية واليساريين المناهضين للحرب استخدموا بشكل ملحوظ بعض هذه المصطلحات المثيرة للقلق.
الوهابية واليسار الجديد
الوهابية هي عقيدة دينية أُدخلت على شبه الجزيرة العربية في القرن الـ18 من قبل رجل الدين المحلي محمد بن عبد الوهاب، الذي اعتمد في مذهبه العودة إلى الشكل المتزمت من العبادة أو السلفية، والتي أصبحت فيما بعد السمة المميزة للممارسة الإسلامية في جميع أنحاء منطقة الخليج العربي.
لا أحد ينكر إمكانية ربط الوهابية بالأشكال المتطرفة من العبادة بشكل لا يترك مجالًا للنقاش الديني التقدمي؛ فالوهابية هي تفسير صارم للغاية للإسلام يشجع على ترسيخ التفكير المتعصب، ولكن الواقع هو أن وراء هذا الانتقاد المشروع للوهابية تكمن قضية أخرى حول ما يُنسب من معنى لذاك المذهب ليتناسب مع الأجندات السياسية المختلفة.
اتخذت كلمة الوهابية اليوم حياة خاصة بها، بعيدة عن الخطاب الديني، وأقرب لكونها دليلًا معرفيًا حول التعصب المقبول، ومع معاناة أوروبا من أزمة اللاجئين، باشرت الأقنعة بالسقوط، وأضحى الناس الذين كانوا غير مرة يدافعون عن قضايا المظلومين، يطرحون سردًا مذهلًا بتعصبه بغية معارضة وصول ضحايا الحرب إلى بلادهم.
وفي الوقت الذي يبدو فيه النقاد اليمينيون صادقون وصريحون في استنكارهم ومعارضتهم لوصول الأجانب من أصحاب البشرة السمراء، يأخذ الخطاب في الدوائر “الليبرالية” منحى “فكريًا” بشكل متزايد؛ حيث تم إعادة صياغة سرد الخوف من اللاجئين ليصبح الخوف من “إغراق الوهابيين” لأوروبا.
وفي حين يبدو رفض وصول “جحافل” العرب أو المسلمين تعبيرًا عنصريًا صارخًا بالإسلاموفوبيا، يسبغ استنكار وصول “جحافل” الوهابيين فجأة صبغة من القبول على هذا الخطاب، حيث أضحى العنصر الرئيسي في الخطاب “الليبرالي المتعصب” عبارة “لا يمكن لهم أن يتكيفوا مع ثقافتنا”.
رغم أن اللاجئين السوريين أو العراقيين لا يتبعون العقيدة الوهابية، إلا نعتهم بهذه الصفة يسمح لليبراليين، الذين لطالما تفاخروا بدفاعهم عن الضحية، بالتفوه بعبارات كان يُعتقد في السابق بأنها عنصرية بشكل أو بآخر.
وفي الواقع، الآن وبعد أن دخلت الوهابية وتغلغلت في الخطاب السائد، وأصبحت مذهبًا مفهومًا على ما يبدو لكل من هب ودب، أضحت “الوهابية” تسمية مناسبة جديدة يمكنك إسباغها على أي شخص لا تستسيغه من الشرق الأوسط.
جميعهم وهابيون الآن
طرد أي شخص من العالم العربي لا تتوافق معه لأنه طاغية أو محب للديكتاتوريين أضحت ممارسات عائدة للعقد الماضي، فاليوم أصبح لقب الوهابي هو كل ما يتطلبه الأمر للقيام بالمطلوب.
وهكذا، جميع أولئك الأشخاص الفارين من الحروب الممولة من الدول الخليجية التي تعتنق المذهب الوهابي، أضحوا اليوم وهابيين، وهذا اللقب الأخير أصبح جوهر الدوائر “التقدمية” لمعارضة وصول ضحايا الحروب – التي أشعلتها أو مولتها أوروبا بمساعدة تركيا والخليج العربي- من خلال نعتهم جميعهم بلقب الوهابيين.
وفي الوقت عينه، وبالنسبة لأولئك الذين يدعمون السيادة السورية، والذين يؤيدون بالتبعية بشار الأسد، يبدو موضوع الوهابية قضية حساسة للغاية؛ ففي كثير من الأحيان، يشيد “العلماء المسلمون” الجدد بالرئيس السوري لأنه “تلقى تعليمًا غربيًا”، ولأن زوجته “تبدو وكأنها امرأة غربية”، بل في الواقع أشار العديد منهم إلى حقيقة أنها لا ترتدي الحجاب، على عكس جميع النساء الأخريات في الشرق الأوسط، كقاعدة تبرر دعم بشار وزوجته، أما المواطنون السوريون الذين يفرون من الإرهابيين، ويتطلعون من خلال العنف لفرض الحجاب، فيُوصفون بأنهم وهابيين يسعون لغزو أوروبا وتحويل القارة إلى ذات الخلافة التي فروا هربًا منها.
ولكن في هذا الموضع، لا يمكن للتفاصيل أن تشكّل أي موضع اهتمام أو قوة للعنصريين المنغلقين الذين يجدون أنفسهم يرددون ذات الخطاب الذي كان مخصصًا غير مرة للعناصر الهامشية الذين كانت فكرتهم المثالية عن أوروبا تشبه تصوّر ذاك النمساوي المصاب بجنون العظمة، والذي ترك خلفه سيلًا من الدماء والدمار في جميع أنحاء القارة.
الصمت حول سبب أزمة اللاجئين
يوجد بالطبع نقاش صحي ومفهوم تمامًا فيما يتعلق بتدفق اللاجئين الشامل الذي شهدناه في العام الماضي، فمن المنطقي أن تعمد أي دولة لحراسة حدودها، كما أن البلدان الصغيرة، مثل المجر، لا ينبغي أن تتحمل وزر سياسات الدول الأقوى المسؤولة عن تأجيج واستمرار الأزمة في المقام الأول.
نظرة خاطفة على المكان الذي ينحدر منه اللاجئون، ومجرد محاولة ربط السياسة الخارجية الغربية مع مأساة اللاجئين الأخيرة في الشرق الأوسط كافية لتتوضح لنا الصورة بأكملها؛ فمن العراق المدمر، الذي لا يزال يعاني من تبعات الغزو الأمريكي لعام 2003، إلى الدولة الفاشلة الآن في ليبيا، ينحدر الجزء الأكبر من أولئك اللاجئين الذين يفرون من ديارهم هربًا من الصراعات التي كان يمكن، بل ويجب، تفاديها، ولكن ذلك لم يتم إما لعدم التدخل، أو للتشجيع على استمرار الصراع من خلال التمويل والتدخل غير المباشر.
ومن هذا المنطلق، كان من الأجدر بالشعب الذي يعارض الآن وصول هؤلاء اللاجئين، أن يعارض ذهاب حكوماته للحرب في المقام الأول وتسببها بالأزمة التي أعقبت ذلك.
وهنا يبدو مدهشًا حقًا وصول تأثير بعض جماعات اليمين المتطرف، كجماعة بيغيدا الألمانية، إلى كامل أنحاء أوروبا، حتى وصلت إلى الضحية السابقة للإمبريالية، أيرلندا.
وفي خضم كل تلك المعارضة، لم تُكرَّس أي من تلك المنظمات السياسية الشعبية القوية لمعارضة الحروب التي أدت إلى خلق أزمة اللاجئين الحالية في المقام الأول، وهي النتيجة التي كانت متوقعة بشكل طبيعي في ضوء تاريخ الصراعات السابقة.
أخيرًا، وسواء كان ذلك على وسائل الاعلام الاجتماعية أو في شوارع أوروبا، نستطيع أن نتلمس شيئًا واحدًا بوضوح، ممارسة العنصرية أسهل للغاية من ممارسة النشاط المناهض للحرب، و”الوهابية” بسّطت للغاية من سبل ممارسة تلك العنصرية.
المصدر: ميدل إيست آي