ظهرت بمصر في المدة الأخيرة رواياتان عن داعش، أمّا الأولى فمنشورة رقميًا وهي للكاتبة هاجر عبد الصمد بعنوان “حبيبي داعشي” وقد أنهت كتابتها في نهاية السنة الماضية في مدة شهر واحد، وأمّا الثانية فهي “أيام داعش” وتباع بمعرض القاهرة الدولي هذه الأيام وهي للكاتب مصطفى محمود عواض وقد كتبت في مدة ستة أشهر من السنة الماضية أيضًا.
والعملان من أول ما يكتب روائيًا عن تنظيم “الدولة” ليتحول الخطاب عن داعش من مستوى التحليل إلى التعبير ومن رسم الواقع إلى تمثّل تصوّر للمتوقع عبر آلة الخيال وعدسة القلم، بما يرفع درجة الفضول لاكتشاف خصائص هذه الكتابة وقدرتها على تفكيك عالم التنظيم واختراقه فنيًا، فترتفع درجة التساؤل بذلك عن قدرة العمل الفني على تبليغ رسائل مباشرة أو مشفرة في مقاومة الإرهاب بعيدًا عن المعالجة الأمنية والتحاليل السياسية والتقارير العسكرية.
روح الكتابة الشابة
تتميز الروايتان بروح شبابية عالية تحتاج إلى القرب منها لسبر أغوار مفردات هذه الكتابة الجديدة التي ترصد أفقًا فنيًا في استخلاص المعنى واستجلاب إمارة القلم من حيث يستجلب شباب داعش إمارة السيف، فثمة مسافة دقيقة معرفيًا وتعليميًا وعمريًا تمثل المشترك القيمي والثقافي الذي يصل الفواعل قصصيًا بالمؤلفين، بما يدفعنا إلى التوقف عند أفق شبابي يخترق مسارات المجتمع انزياحًا عن مغامرة الحياة إلى المقامرة بالذات في فضاءات ملغمة بحثًا عن المعنى والقيمة واستعادة للمكانة والاعتبار.
إننا إزاء “أدب شبابي” مقامر ومغامر يجسّ نبض الأدب ليقتحم عالم الكتابة الفنية في ظل غياب القلق الجمالي ومحدودية القلق الابتكاري، ليحققّ جماليته البسيطة عبر أدوات الخيال وآلة الطموح فيمتلك سردية ذاتية تحقق الاعتبار للذات دون اعتبار للنصوص الكبرى التي تمثل أفقًا متأملاً يتحرك بثقل وبطء وطمأنينة تأباها روح الشباب الحية والمتحركة.
لذلك لا نحتاج إلى التوقف كثيرًا عند ألغام اللغة التي نسفت أرض الكتابة الفنية وذهبت بأوصالها وجعلتها قواعدها أمشاجًا فكأنها نحتت من أرض المعركة إذ لا تعترف بقواعد لعبة الكتابة السليمة كما تنظيم داعش تمامًا،إذ ينشئ لعبة جديدة في عالم المعارك والحرب المعاصرة دون خضوع لمنطق المألوف في المواثيق الدولية وعهود حقوق الإنسان.
ولا معنى للتوقف عند التجديد الإبداعي ههنا فكأننا نتحرك على أرض مشتركة بين المرجعية الأدبية والخلفية الإيديولوجية لأبطال الرواية، قاعدتها استعادة الموروث وتوظيفه توظيفًا تقنيًا يجعل العمل في مواجهة النمطية نسفًا للتنظم والتجدّد والتجريب.
عتبات الرواية
تشترك الروايتان في تضمين الحدث الداعشي في مستوى العتبة والمتن الحكائي معًا، بما يجعل النص السردي مشوّقًا ومثيرًا معًا، من غلافه إلى نهاية أحداثه، وتتشكل جمالية العنوان الأول من جمع عاطفة الحب بما هي عنوان للحياة وحب البقاء والانتماء الداعشي بأفقه الانتحاري الملغم بمفردات الموت والقتل والحرب والخطف والأسر، واختزال العنوان الثاني الوقائع الطويلة في أيام تتقلص مساحتها لتتمدد داخل القص أيامًا معدودات تؤذن بالنهاية والأفول، لا وفق منطق الحديث ولكن بحكم الأحداث والوقائع الخارجية أيضًا.
وتشكل عتبات الرواية نصوصًا صغرى تحتاج إلى التفكيك والقراءة استخلاصًا للرسائل التي يروم العمل إبلاغها مشفرة، فيحضر اسم يوسف زيدان موضوعًا للإهداء أو تصديرًا بأحد أقواله بما يترجم دغدغة لعوالم الشهرة والانتشار عبر اسم رابح في عالم الرواية والجوائز الأدبية.
ولقد كان مصطفى محمود عواض أكثر وعيًا بالعتبات من هاجر عبد الصمد فالكاتبة قد جعلت إهداءها عائليًا حميميًا يترجم أشواقها إلى تشكيل المعنى وإضفاء القيمة على المهمش الاجتماعي العائلي تحقيقًا للاعتبار الذي ينشده الشباب العربي في ظل احتكار إعلامي لمسالك الشهرة والريادة، أما الكاتب فقد شكل عنوانًا فرعيًا لروايته وهو “نبل الغاية …وخسة الوسيلة” وهو عنوان لا أدبي لما فيه من المباشرة والذاتية والمصادرة لحق القارئ في الحكم على الأفعال أو عليها في النهاية.
كما أن الكاتب ضمّن إشارات معبرة عن خلفية الكتابة الروائية التي تنزاح عن مقاصد الجمالية والإبداع إلى مقصد إيديولوجي تجلوه إشارة “الدول هي من يصنع الإرهاب ثم تتجرع على كره علقمه ثم تنوح الدهر لآثاره”، ومن هذا تفيض الرواية من اتهام تنظيم الدولة إلى اتهام الدول جمعًا في تضمين واضح لنظرية المؤامرة وشبهة الصناعة الاستخباراتية.
غير أن المخرج الفني من ذلك هو التنبيه الذي سجله الكاتب؛ فقد نبّه أنّ عمله هو “مزيج بين واقع نحياه وخيال أحياه” فجدل الواقع والخيال هو حيلة فنية لتمرير المقولات الإيديولوجية التي تضمن رواج العمل دون أن يحاصر صاحبه بشبهة “تبييض الإرهاب” فيحاسب وفق مقتضيات قوانين الإرهاب العالمية والمحلية.
مرجعيات الكتابة
لقد استعاض العمل الروائي الشبابي عن صناعة البلاغة التقليدية بصناعة الخيال، وهو مادة أساسية في العمل الإبداعي، وتبني الروايتان متخيلهما عن تنظيم الدولة من خلال نشرات الأخبار ورصد المواقع الإلكترونية ومشاهدة مقاطع الفيديو ومطالعة الوثائق والبيانات، وهي مادة متوفرة للعموم، غير أنّ الخيال ينسج لها كائنات ورقية تتحرك في عالم الحكاية عبر مسارات متنوعة ارتدادية تعود من حيث انطلقت لتنفتح على المجهول وقد استحالت ذوات مدمرة وكائنات أنهكتها المعارك والمطاردات ولعبة المخابرات والتنظيم والمشاعر والعلاقات.
فهاجر عبد الصمد قد جعلت من قضية المرأة مطلقة وعانسًا وعاشقة موضوعًا لخيالها؛ إذ جعلت من قصة ليلى وعمر مدخلاً لرصد معاناة المرأة المطلقة نتيجة للخيانة والسلطة الأبوية ونظرة المجتمع وحولت قصة الحب إلى محرك حيوي للأحداث خروجًا من جحيم داعش إلى قفص الأسرة والانتماء إلى العائلة والوطن.
ولا شك أن قصص خطف الأيزيديات وأسرهن قد أوحت إلى الكاتبة بالكثير من الوقائع التي وظفتها على نحو درامي مشوّق يأسر من يمسك بالخيط الأول من الأحداث ليتابعها إلى النهاية في جلسة واحدة، وهي المزية الوحيدة لهذا الأثر، ويمكن أن تحجب بقية العيوب الفنية والنقائص التي قد تغتفر في التجربة الأولى في ظروف زمنية ومكانية معلومة.
ويظل التناص قائمًا في مستوى المتن الحكائي الذي استدعى وقائع الحياة الراهنة، ففي أعطاف الرواية حياة راهنية تذيعها وكالات الأنباء كل يوم وتعيشها الأسرة العربية في مختلف مواطنها، وتنسجها الأعمال الأدبية النسوية في أنشطتها المختلفة.
وتوسل مصطفى محمود عواض بوقائع التاريخ والحاضر بشكل جدلي أقام الرواية على تقنية التناوب والتضمين فظل القص متأرجحًا بين مكان وآخر ومتنقلاً بين زمن وغيره في كل فصل من الفصول، فجاءت الرواية متقطعة كأيام داعش بما هي شبكة من العلاقات والمقولات التي يتداخل فيها التاريخي واليومي ويتقاطع العالمي والمحلي.
ولقد كانت مغامرة الكاتب في مستوى الخيال دافعة به إلى الأقاصي ليخترق مجلس أبي بكر البغدادي ومحمد الجولاني وليجول في أروقة المخابرات المصرية والمخابرات الدولية التي تحيك خيوط شبكة الدولة على أرض المعركة لحماية المصالح الأجنبية، وسمح الخيال بالتردد بين الفضاء الشيعي والسني لإدانة المرجعيات الشيعية من خلال ممارسة زواج المتعة وازدواجية الظاهر والباطن، والجوس خلال الحركات الإخوانية والجماعات الوهابية، فاستدعت الوقائع مجزرة رابعة وتجربة الحكم ببلدان الربيع العربي.
فازدحمت الأحداث والفضاءات ليلهث القارئ خلفها باحثًا عن الخيط الذي ينظم مسارات الترابط والتنافذ، فيحيله كل فصل إلى فضاء جديد وشخصيات مغايرة تلتقي في النهاية حول رقعة الدولة التقاءً غامضًا يهدف إلى رسم جغرافية الاستقطاب ورصد خارطة التنظيم الممتدة في المساحة والعلاقات.
الخلفية النقدية
لا يمكن أن نتعامل مع الروايتين تعاملاً فنيًا خالصًا، فلا مجال للحديث عن الحياد أو مقصد الإبداع المحض، لأن الكتابة بقدر ما تتوشح برداء الذاتية فإنها تتحرك في واقع موضوعي ملغوم يشترك في محاربة الإرهاب والتصدي لشبكة تنظيم الدولة التي تؤثّر أدبياتها في الشباب العرب والأجنبي، وتحتاج المرحلة إلى إنتاج أدبيات مضادة تكشف المستور وتخترق المحجّب وتفضح النوايا والخطط.
وإذ يعسر ذلك في مستوى الواقع والحقيقة فإنه متيسر في حدود المتوقع والخيال وفي دائرة التصوير والتعبير، ويكون أيسر في سياق التجريب والتدريب والمحطات الأولى التي يفهم تعثرها ويبررّ تقصيرها سواء في مستوى الخطاب القصصي أو المتن الحكائي.
ولقد كانت حكاية هاجر عبد الصمد حربًا على تنظيم داعش إلى درجة شيطنته وتخليصه من أي بعد إنساني أو ديني، فغاب التنوع الفكري والجدل داخلها أقوالاً وأفعالاً لتنتهي إلى إدانة التنظيم بجرائم الحرب وجرائم الأخلاق في حق الإنسانية، إذ حوّلت أعضاء التنظيم إلى ضحايا المجتمع حدّ الشفقة فهم ذئاب متوحشة وأفاع نهاشة وعقارب لساعة لا همّ لها إلا إشباع الغرائز وترجمة العدوانية المشبعة بالحقد على الدولة الحديثة والمجتمع التقليدي.
وفي المقابل كان مصطفى محمود عواض أكثر جرأةً في استعراض الوجه الإنساني والديني لزعماء الدولة وأنصار جبهة النصرة وأكثر تحاملاً على المرجعيات الشيعية وقد رسمها في صورة الذئاب البشرية التي تنتهك براءة الطفولة بكل وحشية، ليكون طرفًا في الصراع الطائفي الذي يدور على الميدان بين المحورين الشيعي والسني.