موقعة الأطباء وفتح جبهات المجتمع أمام السلطة

943925_10156487596915261_1921998759215047731_n

ما حدث في نقابة الأطباء بالأمس في جمعيتها العمومية الغير عادية التي عُقدت لمواجهة التعدي على الأطباء في مقار عملهم من قبل أفراد الأمن، تبعًا للواقعة الأخيرة التي حدثت في مستشفى المطرية التي اعتدى فيها مجموعة من أمناء الشرطة على أطباء بالمستشفى دون محاسبة، لهو تجسيد لقدرة المجتمع على مواجهة السلطة والنظام الحالي إذا أراد.

المطالب التي رفعها الأطباء كانت منخفضة السقف للغاية، بل ربما يُمكن القول أنها كانت بديهية، وهي أن يحظى الطبيب بالحماية أثناء ممارسة عمله، وأن يُحاسب أفراد الشرطة المعتدين على المنشآت الطبية، حتى أن هذه المطالب يمكن وصفها بأنها ليست بالجديدة مطلقًا، حيث نادت نقابة الأطباء منذ زمن على ضرورة حماية المستشفيات من التعديات المتكررة عليها وعلى الأطباء العاملين بها في حوداث باتت شبه اعتيادية.

لكن هذه المرة قررت فئة من المجتمع أن تفتح صراعًا مع السلطة وفق مطالبها هي لا مطالبنا -نحن معشر الثوار- إذا جاز لنا أن نستخدم هذا الوصف، هذا هو الباب الذي قرر الأطباء فتحه في هذه اللحظة أمام تسلط وجبروت أدوات القمع في الدولة، لا باب الذي نريد الدخول نحن منه.

لذا لا يجب على المنتمين إلى معسكر الثورة أيًا كانوا محاولة فرض أجندة سياسية بعينها أو مطالب محددة للتبني من قبل جموع الأطباء المهنيين، لأنهم بالتأكيد تجمعوا بهذه الصورة الغير معهودة على الجمعيات العمومية للأطباء من أجل مطالب مشروعة حددوها لأنفسهم سلفًا أثارتها وقائع بعنيها مع السلطة، فلا نملك نحن الحق بلومهم على تجمعهم من أجل مصالحهم المهنية التي لا تحترمها الدولة.

مطالب الأطباء كانت مشروعة تمامًا متعلقة بكرامة الطبيب المصري في المجتمع التي تحاول الأجهزة الأمنية وأفرادها دهسها، وهي في النهاية تشتبك مع المطالب الثورية التي يتبناها معسكر الثورة على اختلاف ألوانه، فالبتأكيد حينما يُطالب الطبيب بكرامته سوف ينادي بأحد مطالب الثورة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

وخروج الأطباء في هذا المشهد مدعاة لبث الأمل في نفوس معسكر الثورة اليآس من القدرة على المواجهة في هذه الأوقات العصيبة، حتى ولو لم يكن له نتائج بعد ذلك، حتى لو تم الالتفاف على مطالب الأطباء كما هي عادة الدولة، حتى لو اختلف البعض مع مجلس نقابة الأطباء، فليس هذا مدعاة إلى الاختلاف مع فئة الأطباء أجمعين في المجتمع.

يُمكن أن نوجه اللوم لمجلس نقابة الأطباء الذي ترك بعض زملاء المهنة في غياهب السجون دون تحرك أو موقف واضح لوقف هذه الانتهاكات بحق أطباء، كما ترك البعض الآخر فريسة التصفية الجسدية المباشرة من قبل النظام إما بالرصاص أو بالإهمال الطبي داخل السجون، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نشجعه على المضي قُدمًا في هذه الحالة وترك مسألة التعدي على الأطباء في المستشفيات هي الأخرى لأنه تقاعس عن دوره في الحالة الأولى، فالأولى أن تستعيد النقابة دورها في الثانية، ويعمل الأطباء على محاربة انتقائية مجلس النقابة في مواقفه.

هذا ما نفهمه بالمنطق، لكن التقليل من حراك المجتمع متمثل في فئة حشدت لمطالبها في مقابل فشل القوى السياسية في الحشد لمطالبها، هو فشل آخر يُضاف إلى جانب المنتمين لمعسكر الثورة المتبنين لهذه الوجهة.

لم يُعلن الأطباء أمس أنهم سيسقطون نظام السيسي، ولم يتجمع الأطباء لهذا الغرض، بل كانت مطالب التجمع واضحة ومحددة وهي محكمة بسقف نقابة مهنية لا بسقف القوى السياسية المعارضة للنظام، وأي مزايدات على حراك الأطباء هي من قبيل محاولة إلباس فشل القوى السياسية أمام النظام للنقابة التي تعمل في إطار النظام بالأساس إذا كانت القوى السياسية لا تعلم هذا.

هذا الحراك المجتمعي الذي تقدمته فئة الأطباء بالأمس هي رسالة واضحة للنظام أنه ثمة من يستطيع أن يُغرد خارج سربك في المجال العام؛ عن طريق مطالب مشروعة اجتمع عليها الأطباء من مختلف الاتجاهات السياسية، وهي تجربة قابلة للتكرار من قبل فئات المجتمع المهمشة التي تعاني الأمرين تحت حكم هذا النظام، والتي ربما تكون قادرة على الانفجار في وجه مع الوقت لكن بمطالبها المحددة لا بما نتمناه نحن .

 كما يمكن قراءة محاولة تسييس حراك الأطباء عنوة بوجود نية لدى البعض لإفشال هذا الحراك على إثر حالة التخبط السياسية بين مختلف قوى الثورة، والتي لا يجب أن ينسحب الأطباء لها لأنها معركة خاسرة من قوى لا تستطيع أن تخط يومًا واحد لحراكها ضد النظام، فيما لا تملك سوى العويل والتقليل من أي حجر يُلقى في مياه المجال العام المصري التي تعفنت بفعل نظام ديكتاتوري وقوى معارضة ممزقة.

الحراك الطبي هذا ربما يكون مجرد مقدمة وشرارة لحراك فئات أخرى من المجتمع للمطالبة بحقوقها، تلك الطريقة التي ستصنع عملية المراكمة انتظارًا لتعقل قوى معارضة النظام، لاستغلال هذا التراكم في صناعة التغيير السياسي المطلوب، لكن لا يفقه شيئًا من يُطالب النقابات المهنية أن تصنع هي التغيير السياسي بحراكها الفئوي، بينما تقف القوى السياسية المعارضة للنظام لتجعجع على شاشات التلفاز بشعارات حنجورية لا تغني ولا تُثمن من جوع.

على الجميع أن يعلم أن عملية صناعة شقوق في جدار القمع لدى النظام ليست بالعملية الهينة اليسيرة، ولكن أول معول سيطرق على هذا الجدار، سيفتح الفرصة لغيره أن يُكرر الضربة لتصبح ضربات من فئات مجتمعية لن يسهل على النظام مواجهتها كما يواجه فصيل بعينه، وهذا هو ما يُسمى بفتح جبهات المجتمع أمام السلطة.

وعلينا أن نعي جيدًا أن المجتمع سيصطدم مع السلطة إن عاجلًا أم آجلًا، ولكن بشروطه هو لا بشروط غيره، ومن الوارد أن يتم احتوائه أو إفشاله، وليس هذا معناه أن حراك المجتمع عديم الأهمية، لكنها عملية تراكمية تنتظر من يسثمر فيها من القوى السياسية المنتمية للثورة.