ربما شاهد الكثيرون منا فيلم الأطفال المتحركة “الفايكنغ” الذي يظهر فيه الطفل الصغير “فيكي” برفقة البحّارة في مغامرات بحرية يجوبون البحار بحثًا عن الكنوز والغنائم، وحالما يعودون إلى القرية يقومون بتقاسم الغنائم بين أهالي القرية بشكل متساوٍ وعادل، المهم أنّ هؤلاء البحارة كانوا من النرويج ساهمت هذه القيم السامية في تقاسم الغنائم في دعم وازدهار اقتصاد النرويج الحديث فيما بعد.
تمتع المجتمع النرويجي قبل ظهور النفط في البلاد بحالة اجتماعية متماسكة، يعيش في نسيج مستقر من حيث السياسة والثقافة والاقتصاد، فمن الناحية السياسية تميزت النرويج قبل بداية التنقيب عن النفط بديمقراطية راسخة وجهاز حكومي متمكن وفعّال.
ومن الناحية الاقتصادية فإن النرويج تمتع باقتصاد متكامل ومنتعش ذو أسس زراعية وبحرية اشتهر بالملاحة وصيد الأسماك فضلًا عن الشحن والنقل البحري الذي شكل له تجارة واسعة النطاق مع أوروبا وأمريكا، مع ما يتوفر في البلاد من شلالات طبيعية ميّزته بمصادر طاقوية مستدامة أدت إلى انخفاض وارداته النفطية مقارنة ببقية دول أوروبا.
وبعد اكتشاف النفط في عام 1969 حرصت النرويج على عدم الوقوع في “نقمة النفط” و”الداء الهولندي” _نسبة لحقول الغاز الهائلة التي اكتشفتها هولندا في بحر الشمال في الستينيات_ حيث يشير هذا الداء أن النفط من شأنه أن يعبث باقتصاد البلاد من خلال تكوينه قطاعًا غنيًا لصادرات الطاقة في الوقت على حساب قطاعات التصدير الأخرى.
عام 1972 بات الاقتصاد النرويجي يعاني من متاعب عميقة دامت أربع سنوات بسبب اعتماد موازنة الحكومة على الإيرادات النفطية بشكل كبير؛ ومن هذه المتاعب ارتفاع الأجور وانتقال العاملين من المصانع إلى صناعة النفط، كما أسفر قدوم الأجانب للاستثمار في القطاع النفطي إلى رفع قيمة العملة إلى حد شكل عبئًا على البضائع النرويجية التي واجهت مشاكل في التصدير، واقتصرت حلول الحكومة آنذاك على الإغاثات المالية للمتضررين كما يسرد فاروق قاسم العراقي الأصل الذي قدم إلى النرويج عام 1968 واشتغل في وزارة النفط من 1973 حتى عام 1991 وهو الآن مستشار نفطي دولي.
فتساءلت بعد ذلك كيف يمكن أن ننعم باقتصاد مستدام ونمو اقتصادي مستقر؟
وجاء الجواب في عام 1976( كما يظهر فيكي في فيلم الفايكنك عندما يجد الحل ويقول وجدتها! ) حيث قطعت الحكومة على نفسها ألا تنفق من إيرادات النفط وتقوم بتحويل إيراداته في البحث والتنقيب عن مزيد من حقول النفط، ولكن في حلول عام 1995 بات سيل الإيرادات يتجاوز ما يمكن استيعابه بهذه الطريقة، وكانت الحكومة قد أسست عام 1990 صندوقًا سياديًا فقامت بتفعيله في عام 1996 وبدأت بتحويل الأرباح إليه.
وأعلنت الحكومة أن الصندوق مِلكًا للأجيال القادمة ومنعت الحكومة نفسها من استخدام ما يزيد عن 4% من هذه الأموال فقط تشمل مشاريع البنية التحتية ومشاريع عامة أخرى مع قيامها باستثمار باقي الأموال في أسواق المال العالمية ما يجعل هذه الأموال “منفية”.
واستطاعت الحكومة أن تجعل إيرادات النفط لا تزيد عن 30% من إجمالي الإيرادات الحكومية وأن يشكل القطاع النفطي 23% فقط من الناتج المحلي الإجمالي حسب 2013، بينما في السعودية يشكل الإنتاج النفطي 45% من الناتج المحلي الإجمالي و90% من عائدات التصدير.
فهل اقتصرت تجربة النرويج التي أبهرت العالم في إدارة موارد النفط فقط عبر تأسيس صندوق سيادي! إن القصة تتجاوز هذا الصندوق إلى استراتيجية متكاملة ساهمت في عدم الوقوع في فخ “نقمة النفط”، فمن النقاط التي ساهمت في ازدهار الاقتصاد النرويجي ما يلي:
النقطة الأولى: هي دعم القطاع الخاص بقدر دعم القطاع الحكومي فالاقتصاد النرويجي هو اقتصاد مختلط يمزج بين حصة الحكومة وحصة القطاع الخاص في الاقتصاد، حيث توفر الحكومة مشافي ومدارس مجانية كما أن معظم شركات النفط مملوكة للحكومة ونسبة الشركات المدرجة في سوق الأسهم حوالي 30% تابعة للحكومة، وزادت دعم المنتجات الزراعية وتوسعت في سياساتها الصناعية، وفي نفس الوقت فإن الحكومة تفرض ضرائب عالية على المواطنين لم تنخفض بزيادة إيرادات النفط، مع ذلك يتم التركيز كثيرًا على القطاع الخاص وإلائه اهتمامًا كبيرًا، وتنظر الحكومة للقطاع العام بأنه يؤمن المناخ الاستثماري للقطاع الخاص ويجذب الاستثمارات الأجنبية ويخلق فرص عمل.
وقد تم تصنيف النرويج في مراتب أولية في عدة مؤشرات دولية في عام 2013 مثل مؤشر البنك الدولي لسهولة أداء الأعمال حصلت فيه على المرتبة 6 من أصل 185، ومؤشر النزاهة في المرتبة السابعة من أصل 176، والانفتاح التجاري في المرتبة 8 من أصل 125، ومؤشر التنافسية حازت على 11 من أصل 148 دولة.
النقطة الثانية: هي الإنتاجية فالشعب النرويجي هو شعب منتج بمعدلات عالية وبمعدلات بطالة منخفضة جدًا جعلت الشعب يعيش حياة مرفهة بالاعتماد على العمل والإنتاج وليس بالاعتماد على النفط، ففي عام 2014 سجل معدل البطالة 3.8% وهو الأقل بين دول الاتحاد الأوروبي كما أن نسبة مشاركة المرأة في أوساط العمل عالية جدًا حيث تبلغ 74% التي تؤدي إلى رفع النسبة الكلية للمشتغلين في الاقتصاد ورفع الناتج المحلي ونموه، كما قامت الحكومة بتخفيض سن التقاعد لفتح فرص أكبر للشباب في حين تشارك المرأة السعودية في سوق العمل نسبة 16% فقط.
كما تتمتع النرويج بنسب نمو سكانية معقولة فمعدل الولادات لديها 1.8 طفل لكل امرأة مقارنة بالبرتغال 1.2 حيث ساهمت تشريعات الحكومة على إبقاء نسب الإنجاب جيدة مثل فرض الحكومة النرويجية إجازة أمومة لمدة عام كامل مدفوعة الأجر وإجازة للأب لمدة أربعة أشهر وتوفر ساعات نشاط إضافية للأطفال بعد المدرسة.
أما النقطة الثالثة: فهي إدارة رشيدة للإيرادات النفطية حيث قامت الحكومة بفصل الإنفاق الحكومي عن إيرادات الصندوق السيادي تمامًا، والإنفاق فقط من أرباح الصندوق الذي تتوزع استثماراته بين أكثر من 9000 شركة حول العالم في استراتيجية استثمارية تضمن التنويع في الاستثمار وعدم المخاطرة ولذلك يُقال أن الصندوق السيادي النرويجي يُفلس إذا أفلس العالم كله.
وقد حددت النرويج سقفاً بمقدار 4% من القيمة الإجمالية لموجودات الصندوق بالعملة المحلية لما يمكن أن تستخدمه سنويًا من موارد الصندوق في تمويل الإنفاق الحكومي أو في تخفيض الضرائب، وهذا السقف هو متوسط العائد المتوقع على موارد الصندوق في المدى الطويل.
استفادت الحكومة النرويجية من تحديد سقف السحب من الصندوق السيادي من خلال حد قدرة الحكومة على زيادة الإنفاق تبعًا لزيادة إيرادات الموارد، وهذا حمى الاقتصاد النرويجي من التأثيرات السلبية للنمو التضخمي الناجم عن الإنفاق الحكومي. فضلًا عن حماية إنفاق الحكومة من تذبذبات إيرادات النفط فلا ترتبط بارتفاع إيرادات النفط بعد ارتفاع الأسعار أو بخفض الإنفاق بعد انخفاض الأسعار.
والنقطة الأخرى هي اقتصار تمويل الإنفاق الحكومي من عوائد استثمار الصندوق فقط وليس على الإيرادات نفسها وهذا بحد ذاته سياسة رشيدة تدعم عدم استهلاك إيرادات النفط بشكل مباشر بل تقوم باستثمار الإيرادات في أصول مالية وعقارية متنوعة المخاطر ذات عوائد مستقرة ودائمة، وهذا يسمح لها بتوفير مصدر تمويل للإنفاق الحكومي حتى بعد نضوب النفط، كما عمل على عدم استثمار تلك الإيرادات في داخل النرويج من أجل إتاحة دور أوسع للقطاع الخاص للمساهمة في النشاط الاقتصادي وتنويعه.
في النهاية لا يمكن أن تطبق السعودية تجربة النرويج وصندوقها السيادي بحذافيرها فلكل دولة تجربتها الخاصة بها، وما يصلح هنا قد لا يصلح هناك، ومن المجحف مقاربة السعودية بالنرويج التي امتلكت قاعدة صناعية وزراعية متقدمة قبل اكتشاف النفط وساهم الإنفاق الحكومي على البنية التحتية وتهيئة المناخ الاستثماري لتعزيز دخول القطاع الخاص ومساهمته أكثر في النشاطات الاقتصادية داخل الدولة ومن ثم بدأت تجمع إيرادات النفط في الصندوق السيادي الذي اعتبرته للأجيال المقبلة ومن ثم أصبح أيضًا للمتقاعدين.
ما يمكن للسعودية الاستفاده منه في تجربة النرويج هو تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص وتنمية الصناعة أكثر والمشاريع الصغيرة ورفع نسبة المشاركين من المواطنين في سوق العمل وخاصة مشاركة المرأة، وبناء البنية التحتية وتنمية رأس المال البشري من تعليم وصحة ووضع خطة تنموية جديدة تشهد نقلة نوعية للاقتصاد السعودي خلال سنوات معينة ولو بالاعتماد على أموال الصندوق السيادي السعودي.