منذ حوالي 100 سنة، توقع ألبرت أينشتاين وجود موجات الجاذبية، وهي تموجات في نسيج الزمكان تكوّنت نتيجة للتغيرات الكونية العنيفة التي حدثت في بداية نشوئه، فمع ما كان يمتلكه من معرفة عن الكون، بالإضافة إلى التكنولوجيا التي كانت متاحة في عام 1916، افترض أينشتاين أن هذه التموجات ستكون صغيرة جدًا وبالكاد يمكن اكتشافها، ولكن الاكتشافات الفلكية والتقدم التكنولوجي خلال القرن الماضي غيّرت هذه الاحتمالات لتجعل هذه الموجات قابلة للاكشاف.
الآن، وللمرة الأولى، أعلن علماء الفيزياء عن اكتشاف موجات الجاذبية بشكل واضح من خلال آلة أرضية، ومن خلال ذلك، أكدوا بشكل كبير على نظرية أينشتاين في النسبية العامة وفتحوا طريقًا جديدًا لمشاهدة الكون.
“لقد رصدنا موجات الجاذبية، لقد فعلناها”، هذا ما أدلى به ديفيد رايتزي، المدير التنفيذي لمرصد ليزر موجات الجاذبية التداخلي “ليغو”، في مؤتمر صحفي تم عقده في واشنطن تم خلاله الإعلان عن الاكتشاف الذي حدث يوم الخميس الواقع في 11 فبراير من عام 2016، ويعد هذه الاكتشف أعظم الاكتشافات لهذا القرن، وذلك بعد 50 عامًا من التجربة والخطأ، و25 عامًا من تطوير مجموعة من الأدوات الحساسة حتى يتمكن العلماء من تحديد أصغر التشوهات في الزمكان.
ولكن هذا ليس كل ما بالأمر، فإلى جانب ذلك، استطاع العلماء أيضًا حل تشفير إشارة موجات الجاذبية وتحديد مصدرها، ووفقًا لحساباتهم، فإن موجات الجاذبية هي نتيجة لتصادم ثقبين أسودين هائلين، على بعد 1.3 بليون سنة ضوئية وهو حدث هائل لم تتم ملاحظته حتى الآن.
استطاع العلماء من خلال حساب الإشارات الأولية التي التقطوها عن موجات الجاذبية اكتشاف الكيفية التي تموت بها النجوم، حيث يبدأ الجسمان بالدوران حول بعضهما 30 مرة في الثانية، حتى ينتهي بهما الأمر إلى التسارع لتصل سرعة دورانهما إلى 250 دورة في الثانية قبل أن يتصادما ويندمجا بعنف في الظلام.
عن طريق الخوض أكثر في تحليل إشارات الجاذبية، كان الفريق قادرًا على تتبع الميلي ثانية الأخيرة قبل تصادم الثقوب السوداء، واكتشفوا بأن الثقوب السوداء، هي أضخم بـ30 مرة من شمسنا، وبأنها تدور حول بعضها بسرعة قريبة من سرعة الضوء قبل أن تنفجر في حادث تصادم وتطلق كمية هائلة من الطاقة بشكل موجات جاذبية، تعادل حوالي ثلاثة أضعاف الكتلة الشمسية – وفقًا لمعادلة أينشتاين (E = MC2) -.
بحسب بيتر فريتشر، كبير العلماء في ليغو وعالم أبحاث بارز في معهد كافلي للفيزياء الفلكية وأبحاث الفضاء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فإن معظم تلك الطاقة تنطلق في بضعة أعشار من الثانية، وتبقى الطاقة في موجات الجاذبية لفترة قصيرة جدًا من الزمن أكبر من جميع الأضواء المرئية في الكون.
بعد ذلك تتموج هذه الموجات خلال الكون، وتشوه نسيج الزمكان، قبل أن تمر عبر الأرض بعد أكثر من مليار سنة حيث يصبح أثرها أقل عنفًا بكثير مما كان عليه في السابقة.
تبعًا للبروفيسور ألبرتو فيكيو، من جامعة برمنغهام، وأحد الباحثين في ليغو، فإن هذا الاكتشاف يغيّر كل شيء، فقد كان العلماء حتى الآن ينظرون إلى الكون من خلال الضوء، ولكن لم يكن بإمكانهم سوى رؤية جزء مما يحدث ضمنه، إلّا أن موجات الجاذبية تحمل معلومات مختلفة تمامًا عن الظواهر في الكون، ومن خلال ذلك، فقد استطعنا فتح طريقة جديدة للاستماع إلى قناة البث التي تسمح لنا اكتشاف ظواهر لم نشاهدها من قبل.
استطاع العلماء اكتشاف هذ الحدث الهائل باستخدام أداة حساسة لدرجة يمكنها الكشف عن التغير في المسافة بين النظام الشمسي وأقرب نجم لنا، والذي يبعد حوالي أربع سنوات ضوئية، بمقدار شعرة واحدة من رأس الإنسان.
استطاع العلماء إنجاز المهمة في غضون أسابيع من بدأ تشغيل آلتهم الجديدة المحسنة، ولم يستغرق الأمر أكثر من 20 ميلي ثانية لالتقاط حدث الاندماج بين الثقبين الأسودين، حيث وقع الحدث في مكان ما خلف سحابة ماجلان الكبرى في سماء نصف الكرة الجنوبي، ولكن الفحص الدقيق للإشارات مع جميع عمليات المحاكات الحاسوبية المعقدة التي تمثل تصادم الثقوب السوداء استغرق أشهرًا للتأكد من أن الأدلة مطابقة للقالب النظري.
انحناء الزمكان
استطاع هذا الاكتشاف تنفيذ جميع مراحل القوس العلمي لعملية التنبؤ، والتي تتمثل بالاكتشاف ومن ثم التأكيد، حيث قام العلماء أولًا بحساب ما ينبغي عليهم الكشف عنه، ومن ثم قرروا ما الذي يجب أن يبدو عليه الدليل لحساباتهم، وبعد ذلك أجروا التجربة التي يمكن أن تؤكد المسألة، وهذا هو السبب الذي جعلنا نهلل لإعلان العلماء في يوم الخميس في جميع أنحاء العالم لكونه تأكيد آخر على “نموذجهم المعياري” للكون، وبداية لعصر جديد من الاكتشاف.
جاء أول دليل على موجات الجاذبية في عام 1974، عندما اكتشف علماء الفيزياء، راسل هالس وجوزيف تايلور، زوجًا من النجوم النيوترونية، التي تبعد حوالي 21000 سنة ضوئية عن الأرض، والتي تبدو بأنها تتصرف وفق نمط غريب، وخلصا إلى أن النجمين كانا بدوران حول بعضها البعض بطريقة تجعلهما يفقدان الطاقة في شكل موجات جاذبية، وقد حاز اكتشافهم على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1993.
اليوم، استطاع مرصد ليغو الحصول على أول ملاحظة مباشرة لموجات الجاذبية بآلاته الأرضية، وقد اكتشف الباحثون موجات الجاذبية في 14 سبتمبر 2015، في الساعة 05:51 بتوقيت شرق الولايات المتحدة، وذلك باستخدام مرصدي ليغو لقياس التداخل، اللذان يقعان في منطقة ليفينغستون في ولاية لويزيانا وهانفورد في ولاية واشنطن.
تبعًا لبروفيسور كيب ثورن من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وأحد الآباء المؤسسين لليغو، فإن علماء الفلك كانوا ينظرون حتى الآن إلى الكون كما لو كان بحرًا هادئًا، ولكان كل ذلك تغير، فالثقوب السوداء المتصادمة التي تنتج موجات الجاذبية تخلق عاصفة عنيفة في نسيج المكان والزمان، عاصفة تؤدي إلى تسريع الوقت وتباطؤه، ومن ثم تسريعه مرة أخرى، عاصفة تقوم بتحويل شكل الفضاء بطريقة أو بأخرى.