ما بين التأييد والتعاطف والدعم من جانب، والرفض والكراهية والتربص من جانب آخر، واجهت جماعة الإخوان المسلمين في مصر موجات المد والجزر الشعبي طيلة مشوارها الدعوي والسياسي منذ التأسيس عام 1928م، وصولاً إلى المشهد الحالي الذي يجمع بين طياته كل المتناقضات.
“نون بوست” يسعى من خلال هذا الطرح إلى التعريج سريعًا على المؤشر الجماهيري حيال جماعة الإخوان، وكيف تحول هذا المؤشر ما بين الصعود والهبوط، مع بيان أبعاد هذا التحول، في محاولة لتقديم إجابات عن الأسئلة التالية: كيف ينظر الشعب للإخوان؟ وهل هناك ثبات لتلك النظرة؟ وما هي الرؤية المستقبلية للموقف الجماهيري من الجماعة في ظل القراءة الآنية للمشهد الحالي؟
وقبل البت في طرح المراحل المختلفة في حياة الجماعة، والتي تمثل نقاط فارقة في شعبيتها على أرض الواقع، كان تسليط الضوء على التكوين النفسي للشعب المصري ودراسة منظومة الاتجاهات لديه، وكيف يتم تشكيلها والتأثير عليها من الأهمية بمكان، حيث توصل عدد من خبراء علم النفس والاجتماع السياسي إلى أن التكوين السوسيولوجي للعقلية السياسية للمواطن المصري في الأساس تكوين “عاطفي”، يحتل فيه البعد “المنطقي” مرتبة متأخرة.
وقد أرجع الخبراء “عاطفية” التكوين السوسيولوجي للمصري إلى تراجع مستوى الوعي لديه، وقلة الثقافة لدى نسبة كبيرة من المجتمع، وهو ما يجعله فريسة سهلة وصيد ثمين للإعلام – لاسيما المرئي – وهو ما يجسد حجم الجماهيرية الكبيرة التي يتمتع بها إعلامي مثل توفيق عكاشة والذي يفتقد لأبجديات التأهيل الإعلامي حسبما أشار احد المتخصصين في علوم الإعلام والاتصال.
لذا قيل قديمًا: من يملك الإعلام يحتل العقول والأفئدة، لاسيما وإن كان المتلقي ليس بالمؤهل لتفنيد و”فلترة” ما يتعرض له من رسائل إعلامية، فما بالنا بشعب نصفه لا يجيد القراءة والكتابة، وما يزيد عن نصف المتعلمين منه يعانون من “أمية” ثقافية ومعرفية؟!
مرحلة النشأة.. الدعم المطلق
كان إنشاء جماعة الإخوان المسلمين بالإسماعيلية على يد حسن البنا عام 1929م نقطة تحول كبيرة في موقف الشعب المصري تجاه الجمعيات الخيرية، لاسيما بعد الانتشار الكبير الذي حققته الجماعة في ظل جهودها المجتمعية، فضلاً عن تمسكها بالقومية الدينية ورفض الدستور “المستورد” بالمشاركة مع “مصر الفتاة” لتجد الجماعة نفسها في مقدمة الحركات السياسية التي تدافع عن هوية الدولة الإسلامية في مواجهة عشرات التيارات الليبرالية والعلمانية الأخرى.
كما ساهم الدور الملحوظ الذي قامت به الجماعة في حرب فلسطين في إزعاج القصر الملكي والحكومة من تنامي شعبيتها وتزايد أعداد المنضمين لها، وهو ما دفع النقراشي باشا رئيس الحكومة وقتها إلى حل الجماعة خوفًا من سطوتها التي فاقت “الوفد” وقتها.
وهكذا ظلت جماعة الإخوان المسلمين محظورة إلى أن عادت إلى مزاولة نشاطها عام 1951م نتيجة صدور قرار من مجلس الدولة بعدم مشروعية قرار حل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها.
مرحلة الناصرية.. التأييد الشعبي والرفض العسكري
كانت جماعة الإخوان المسلمين من أولى الحركات التي ساندت ثورة 23 يوليو 1952م ضد الملكية، بل كانت في وقت من الأوقات القوة المنظمة الوحيدة التي تدعم تحركات الضباط الأحرار ويعتمد عليها الجيش في تأمين الدولة ومواجهة الإنجليز، وهو ما زاد من شعبيتها وجماهيريتها لاسيما بعد انضمام العشرات من ضباط الجيش للجماعة مما أعطى لها ثقلاً سياسيًا وشعبيًا غير مسبوق، وهو ما يجسده كونها الجهة المدنية الوحيدة في مصر التي كانت على علم بموعد ثورة 23 يوليو نظرًا لما تمثله من قوة داعمة للجيش وقتها.
لكن سرعان ما انقلب عبدالناصر على الإخوان بعد مساعيهم للتدخل في شؤون الدولة، ومحاولة إخضاع كافة القرارات الصادرة عن مجلس قيادة الثورة لميكروسكوب الشريعة الإسلامية، فما اتفق معها تمت الموافقة عليه، وما تعارض رُفض، وهو ما أعتبره ناصر والمقربون منه تدخلاً سافرًا لا يمكن قبوله، ومن هنا كانت بداية الحرب على الإخوان عسكريًا وشعبيًا.
وظل الصدام بين ناصر والإخوان متأرجحًا ما بين الصعود والهبوط إلى أن جاء حادث المنشية الشهير 26 أكتوبر 1954م حيث اتهم جهاز الأمن في مصر الجماعة بمحاولة اغتيال الرئيس وهو ما نفته تمامًا، إلا أن الأدلة حينها كانت ضد قيادات بارزة في الجماعة، ومن هنا سعى نظام ناصر إلى تقليم أظافر الإخوان من خلال تنفيذ أحكام الإعدام بحق بعض رموزهم كان في مقدمتهم الدكتور عبدالقادر عودة، والشيخ محمد فرغلي والدكتور سيد قطب بعد ذلك.
وبالرغم من تلك الحرب التي أعلنها نظام عبدالناصر ضد جماعة الإخوان والتي ساهمت بشكل كبير في تراجع شعبيتها باعتبارها جماعة تسعى للتخريب والقتل والإرهاب، إلا أن عروق الجماعة في الشارع لازالت تنبض بصورة كبيرة، وأسهمها في تزايد بصورة غير متوقعة وهو ما دفع الرئيس السادات للاستعانة بهم في حربه ضد التيارات العلمانية والماركسية حينها.
مرحلة ما قبل ثورة يناير.. التعاطف المجتمعي
في عصر مبارك عاشت جماعة الإخوان أزهى عصور التعاطف والتأييد الشعبي نظرًا لما كانت تتعرض له من انتهاكات من قِبل جهاز الأمن حينها، من اعتقالات ومصادرة للأموال وتضييق سياسي، وما إلى غير ذلك من الممارسات القمعية التي وظفتها الجماعة لخدمة نفسها مجتمعيًا.
وقد استفاد الإخوان من حالة السخط الشعبي ضد مبارك ونظامه الأمني لاسيما في السنوات الأخيرة من حكمه في التسويق لنفسها كبديل سياسي جاهز، وهو ما تمخض في نجاحهم في الحصول على 88 مقعدًا في البرلمان المصري خلال انتخابات 2005 بالرغم من اتهامات التزوير التي شابتها، وهو ما كان إعلانًا صريحًا عن الشعبية الجارفة التي تتمتع بها الجماعة.
ولا شك أن هذه الجماهيرية الكبيرة والدعم الشعبي الهائل يعود في كثير من مقوماته إلى كراهية الشعب للحزب الوطني المنحل ولنظام مبارك بالجملة، وهو ما دفعهم لاختيار أي بديل يملك أدنى مقومات الحضور السياسي والقوة التنظيمية، فما كان أمامهم إلا الإخوان نكاية في مبارك وحزبه، فضلاً عن النشاط الخيري الملحوظ الذي نجحت من خلاله الجماعة في دخول كل بيت داخل قرى ونجوع مصر، والذي رسم صورة ذهنية إيجابية عن هذا التنظيم، في ظل تجاهل الحكومات للفقراء والمهمشين في هذا الوطن.
مرحلة الثورة… الالتفاف الجماهيري
كانت ثورة 25 يناير 2011م، الشرارة الأولى التي قدمت جماعة الإخوان للشعب المصري كبديل سياسي لمبارك ونظامه، فبعد الدور الذي لعبه شباب الجماعة في إنجاح الثورة بجوار الحركات السياسية الأخرى، بالرغم من تقاعس دور القيادات وقتها والتي فضلت عدم المشاركة من باب المؤامات حينها، وما نجم عنه من الإطاحة بالنظام وقتها، والإعلان عن مرحلة انتقالية، ومن بعدها انتخابات نيابية، كانت الساحة مهيأة تمامًا لأصعب اختبار في تاريخ الجماعة منذ نشأتها.
قوة الإخوان وتنظيمهم على مدار سنوات طويلة مضت ساعدها في السيطرة على الساحة السياسية بعد الثورة، حيث فرضوا أيديهم على مجلس الشعب، وبعض الأجهزة التنفيذية، وباتوا التنظيم الأكثر قوة وسيطرة في ظل هشاشة الحركات السياسية الأخرى، وهو ما جعلهم “قبلة” الثوار، والراغبين في التغيير، إلى أن بات الإجماع الجماهيري والشعبي على الإخوان كونهم الوريث الشرعي للسلطة في هذه المرحلة الحساسة.
ونظرًا لضيق الفترة الانتقالية، واستعادة دولة مبارك لبعض من نشاطها مرة أخرى، في ظل التقاعس عن إجراء محاكمات ثورية عاجلة، وجد الشعب نفسه في ورطة بسبب الانتخابات الرئاسية 2012، ما بين سندان فريق الثورة ممثلاً في جماعة الإخوان ومرشحها الدكتور محمد مرسي، وبين مطرقة العودة للنظام القديم ممثلاً في الفريق أحمد شفيق، وهو ما دفع الكثير من الرافضين للإخوان ومرشحهم من الاشتراكيين والماركسيين وبعض الليبراليين للعدول عن موقفهم حفاظًا على الثورة فيما أطلق عليهم حينها “عاصري الليمون”، لتدخل الجماعة التاريخ من أوسع أبوابه حين تعتلي المشهد السياسي وتصبح الحاكم الفعلي لمصر بعد سنوات من الشقاء والمطاردة والانتهاكات.
مرحلة الحكم.. تراجع المؤشر
عقد الملايين من المصريين الآمال على الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية في تحقيق أحلامهم التي وعد بها، فضلاً عن ترقبهم للبديل الجاهز الذي طالما عانى من الاضطهاد طويلاً، ومدى قدرته على ترجمة أقواله إلى أفعال على أرض الواقع.
عام كامل قضاها مرسي في الحكم ساهمت بشكل كبير في تراجع شعبية الإخوان لاسيما بعد نجاح الثورة المضادة بمنظومتها الإعلامية في التربص بمرسي وجماعته وتسليط الضوء على السلبيات فقط ، فضلاً عن تقاعس أجهزة الدولة التنفيذية – لاسيما الأمنية – في القيام بدورها المنوط، وهو ما أدى إلى تقديم صورة سلبية عن حكم الإخوان وفشلهم في إدارة شؤون البلاد، وسعيهم للسيطرة على كافة الأمور دون غيرهم.
وبالرغم من عدم مسؤولية مرسي وحده عن هذا الفشل، إلا أنه الرئيس المسؤول أمام شعبه، ومن ثم زادت موجات الغضب الفئوية والشعبية ضده، لاسيما في ظل زيادة معاناة المواطنين وارتفاع الأسعار والانفلات الأمني وما إلى غير ذلك من الكوارث التي وظفها إعلام مبارك وثورته المضادة في تجييش الشارع ضد مرسي، وهو ما أدى إلى بزوغ الحركات المناهضة له والمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، إلى أن وصلت الأمور إلى 30/6 حيث المطالبة بإقالة مرسي.
مرحلة ما بعد مرسي.. شيطنة الجماعة
وصل رصيد الإخوان لدى الشارع بعد الإطاحة بمرسي إلى ما يقرب من الصفر، اللهم إلا من بعض أعضاء الجماعة والمقربين منها، حيث تعرضت الجماعة على مدار عامين ونصف تقريبًا منذ 3يوليو 2013 وحتى الآن إلى أقسى صور الهجوم والاضطهاد، في ظل تسخير منظومة إعلام مبارك ورجاله لقنواتهم وصحفهم ومواقعهم الإلكترونية للتربص بأعضاء الجماعة وإلصاق كافة الجرائم التي تحدث على أرض مصر بها.
وبالرغم من إيمان الكثيرين أن بعضًا من الجرائم الإرهابية التي حدثت في الآونة الأخيرة قد يكون الإخوان هم المسؤول الأول عنها، لكن هناك عشرات بل مئات الحوادث لا علاقة للجماعة بها، وهو ما أفرز حالة من “شيطنة” الجماعة ساهم بشكل كبير في كراهية قطاع عريض من بسطاء الشعب لكل ما له علاقة بالإخوان المسلمين، إلى الحد الذي تناثرت فيه فتاوى جواز تطليق الزوج لزوجته الإخوانية والعكس، فضلاً عن جواز قتل وتبليغ المواطن لجاره الإخواني أو المتعاطف معه.
المرحلة الحالية.. بصيص من الوعي
قد يكون العزف المتواصل على وتر تراجع مستوى الوعي لدى الشعب سلاح ذو حدين، فالمواطن الذي صدق أن هناك كرة أرضية أسفل ميدان رابعة العدوية، والذي آمن في نفس الوقت أن مصر أسرت قائد الأسطول السادس الأمريكي، والذي طالما أوهم نفسه أن ارتفاع أسعار السلع وتراجع مستوى الحريات وزيادة منسوب الانتهاكات وتشويه صورة مصر خارجيًا مسؤولية الإخوان وحدهم، وأن النظام الحالي مبرأ تمامًا من كل عيب، لم يعد تنطلي عليه هذه الأقاويل هنا وهناك، وبات الشعب – ولو بنسبة قليلة جدًا – يعي أن هناك خطأ ما، وأنه قد وقع فريسة لإعلام مضلل، ومن ثم بدأت الأسئلة المنطقية تنساب على لسانه على عكس السابق.
فالمواطن الذي كان يتعرض لسيل من التوبيخ والإهانات التي تصل في بعض الأحيان للضرب داخل وسيلة من وسائل المواصلات بسبب انتقاده للسيسي أو النظام الحالي بات اليوم يتحدث بصوت عالي ويؤيده البعض في نفس الوقت، وذلك بعدما تكشفت بعض الأمور التي غيّبها الإعلام طيلة العامين الماضيين.
وبالرغم من التشويه المتعمد ليل نهار للإخوان وتيار المعارضة بصورة عامة، إلا أن التقارير والأبحاث تكشف عن تراجع تأثير هذه الحملات المتواصلة على الفضائيات والمواقع في ظل بزوغ فجر جديد للإعلام البديل، الذي يسعى للكشف عن بعض الحقائق، فضلاً عن زيادة الوعي الشعبي بسبب الأزمات التي يعايشها المواطن بالصوت والصورة أمام عينيه في الشارع والعمل والبيت، والتي تتناقض تمامًا مع ما يعزف عليه الإعلام.
فقد أظهرت نتائج أحدث استطلاع للرأي أجراها “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى” عن أن نحو ثلث المصريين ينظرون بإيجابية إلى جماعة الإخوان المسلمين التي صنفتها الحكومة كـ “جماعة إرهابية”، بينما أبدى ثلثا المصريين عن تأييدهم للسلطة الحالية؛ مما دفع البعض إلى القول أن إرهاصات الثورة الجديدة باتت على الأبواب لو استمرت الأمور على هذا الحال.
أزمة الإخوان الأخيرة.. هل تغيرت الصورة؟
ردود فعل متباينة صاحبت الأزمة الأخيرة التي نشبت داخل جماعة الإخوان المسلمين، حيث انبرت الأقلام التي تؤكد أن هذه الأزمة آخر مسمار في نعش الجماعة سياسيًا ومجتمعيًا، وآخرون يؤكدون أنها حراك سياسي يحسب للإخوان، وبين هذا وذاك تقف الجماعة أمام مرآة شعبيتها على المحك، فكيف أثرت تلك الأزمة؟
الخبراء يؤكدون أن الصراع داخل الجماعة منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن لم يكن يومًا صراع على الكراسي كما يردد البعض، لكن الصراع في أساسه صراع فكري يتمثل في اختلاف الرؤى والإستراتيجيات بين جيل الشيوخ وجيل الثورة تجاه بعض القضايا.
جيل الشيوخ والذي يعد السبب الرئيسي وراء أبرز الأزمات التي حدثت للجماعة في مرحلة ما بعد الثورة، في مقدمتها الأزمة التي نشبت مع شباب الجماعة الذين تركوها لعدم إشراكهم في القرارات، وأزمة التعامل مع المجلس العسكري بعد الإطاحة بمبارك وخسارة رفقاء الميدان، إضافة إلى الأزمة المدوية التي نشبت بسبب خوض الانتخابات الرئاسية، وأخيرًا أزمة ما بعد 3 يوليو وما نشأ عنها من مجازر وسفك للدماء بطريقة أوضحت فشل رؤية هذا الجيل في التعامل مع الأزمة، في مقابل جيل الثورة والذي يرى أن فشل رؤية وسياسة جيل الشيوخ لا بد وأن يتبعه إستراتيجية جديدة، تقوم على المقاومة الإيجابية بديلاً لتلك السلبية التي انتهجها شيوخ الجماعة على حد قولهم.
وبالرغم من عزف البعض على وتر أن الأزمة الأخيرة “مفتعلة” من باب تصدير صورة ذهنية معينة للنظام الحالي تهدف إلى التخفيف من الضغط الممارس على أعضاء الجماعة من باب “الضرب في الميت حرام” إلا أن معظم الآراء التي تعرضت لتلك الأزمة أكدت أن الجماعة على أعتاب تحول جذري في الرؤى والإستراتيجيات، قد يساهم بشكل ما في إعادة رسم الخريطة من جديد، وأنها – الأزمة – لم تؤثر بالشكل الكبير على ملامح الصورة الذهنية للجماعة لدى الشعب، إذ يعتبرها البعض نوعًا من الحراك الإيجابي داخل الجماعة بينما يعتبرها آخرون تفكك من الداخل وإعلان وفاتها.