أصبح مصطلح السلمية المستخدم الآن ذو سمعه سيئة تدلل دائمًا على الخضوع والذل والمهانة خصوصًا مع الإصرار على استخدامه كمبدأ بدون تقديم أدلة منطقية عليه أو وسائل تكتيكة تنفيذية على الأرض تكسبه مصداقية أو مَنَعه.
ولعل اتساع رقعه الثارات ومساحة المظلومية المباشرة بين النظام والآلة القمعية مع قطاع من الشعب يجبر المسار الفكري للمظلوم على الرغبة في الانتقام دون تفكير فيتبادر إلى ذهنه الانتقام المباشر الخشن من قبيل من قتل يجب قتله، من ثبت تورطه في جرائم اغتصاب يجب أن يتم قتله، يجب التفكير في وسائل تندرج كلها تحت تصنيف “المعاناة”، بمعنى آخر نريد أن نجعل الطرف الآخر يعاني أكثر مما نعاني فنستطيع كسره وهزيمته، وفي الواقع هذه هي فلسفة الحرب أن تجعل الخصم يعاني أكثر حتى تستطيع التغلب عليه.
قبل أن نبدأ
تهدف هذه السلسلة من المقالات إلى وضع المنهجين قيد الاختبار والمقارنة بطريقة علمية إحصائية قدر المستطاع بعيدًا عن آلية التفكير بعقلية الفتوى الشرعية التي تضيق سعة الاختيارات الإستراتيجية والتكتيكية وتؤطر قبل التفكير المفتوح دون الارتكان الى دراسة واقعية أو مبنية على استقراء واضح لما هو واقع، فيصدر الفتوى بأن القصاص واجب وأن الدفاع عن النفس واجب وأن الجهاد ذروة سنان الإسلام، لكنها في نفس الوقت تغفل هل القصاص الآن مطلوب؟ وهل يمكن تأجيل القصاص إلى موعد آخر؟ وما تعريف القصاص بالأساس؟ ومَن الذي يجب أن يقتص ومِن مَن ؟ وما توابع هذا القصاص؟ وكذا باقي المسائل، فالقاعدة واحدة لكن إصدار الفتوى الشرعية فيها يضفي من القداسة على “الاختيار” مما يدفع الجميع لانتهاج هذا الاختيار باسم الدين ولا يسمح لتوسيع أُطر الآراء والأفكار.
إن إصدار الفتوى الشرعية لتنفيذ اختيار من متعدد يعطي القداسة لغير المقدس ويعطي الإلزام لغير الملزم ويعطي الوجوب لغير الواجب فيصبح من لا ينتهج نفس النهج آثم ومن يشكك فيه معلول في فهمه للدين، والحال كذلك على من يصدر فتوى شرعية بعكس ما هو مذكور فيحرم قتل المغتصب على إطلاقها أو يجعل من الجهاد أجزاءً وأمورًا يهيئ منها أن مهادنة الحاكم على ظلمه واجبة أو اختيار الطريق السلمي في مكافحتة واجبة شرعًا ومن يفعل غير ذلك فهو آثم.
كلا الطرفين يسقط من الحكم الشرعي على الاختيار التكتيكي ما لا يحمله الموقف من ذلك.
لنوضح الفكرة بشكل أكبر فلنفرق بين أمرين: فهم الواقع، وفهم الإسلام لاستخراج الحكم الشرعي، الخطأ يحدث عندما تصدر الفتوى قبل فهم الواقع بتجرد مما يؤثر على مسار الاختيارات المتاحة للحل، فما هو المقصود هنا هو عند قراءة الواقع علينا ألا نصدر أحكامًا مسبقة شرعية تحرف مسار الفهم أو تجبر على مسار محدد لكن لنفهم الواقع أولًا بأدواته العلمية المجردة ثم نرى رأي الشرع في هذا الواقع بعد دراسته بدون قيود الفتوى بمعنى أدق هي فتوى على بينة علمية.
دعنا نتفق من البداية أن كلانا يريد لنظام السيسي أن يسقط
هذه المقالات تناقش منهجين في التغيير – العنف واللاعنف – بطريقه سأسعي فيها إلى الاستدلال العلمي والإحصائي لنصل في النهاية إلى منطق يبني عليه اختيار عسى أن يكون على بصيرة.
الفرضية الرئيسية
ستكون الفرضية الرئيسية في هذه المقالات أن منهج التغيير اللاعنيف لديه الفرصة الأكبر في زيادة عدد المشتركين والملتحقين به بشكل أكثر من المنهج العنيف مما سجعل هذه المشاركة تغير من نتيجة المعركة في النهاية.
في كتاب “لماذا تنجح المقاومة المجتمعية؟ المنطق الإستراتيجي لحرب اللاعنف” “why civil resistance works ” للكاتبين Erica Chenoweth & Maria J. Stephan الصادر من قسم دراسات الإرهاب في جامعه كولومبيا يقول الكاتب إنه “في المجمل العام فإن حركات المقاومة اللاعنيفة أكثر قدرة على الحصول على مكاسب ونتائج وبمجرد نجاحها فإنها الأقدر على تأسيس نظام ديموقراطي سليم مع احتمالية أقل لنشوء حروب أهلية”، يستند الكاتب في قوله على إحصائية تم من خلالها دراسة الحركات التغييرية منذ عام 1900 حتى عام 2006 سواء كان منهجها التغيير العنيف أو اللاعنيف بإجمالي عدد 323 حركة مقاومة صادرة من معهد NAVCO المتخصص في دراسة حركات التغيير ليصل إلى نتائج مفادها أن حملات التغيير اللاعنيف نجحت في تحقيق أهدافها الكلية أو الجزئية مرتين ضعف الحملات العنيفة، مع إضافة أن الحملات اللاعنيفة الداعية الى الانفصال (كانفصال جنوب السودان عن الشمال) هي أقل في معدلات النجاح من نظيرتها العنيفة.
ما تعريف كلا المنهجين؟ أي المنهجين أكثر نجاحًا؟ ما عوامل نجاح الحركات اللاعنيفة أكثر من نظيرتها العنيفة؟ ما الأوضاع التي تساعد على نجاحها؟ ولماذا تنجح هذه الحركات أو تفشل؟ وهل يوجد نقاط مركزية إذا توافرت في كلا المنهجين فإنها تساعد على نجاحه؟ وما هي الأنظمة التي يمكن أن تنجح فيها حالات التغيير اللاعنيف؟
العنف واللاعنف
نقصد بالعمليات اللاعنيفة في التغيير هي تلك المنهجية التي تعتمد كل العمليات خارج الإطار الرسمي السياسي من انتخابات أو عن طريق الأحزاب أو البرلمان، فهي تسلك طريق خارج الإطار الرسمي السياسي والمؤسسات السياسية للدولة من أجل إحداث تغيير بما فيها العمليات الممنوعة حسب القانون ولها عدد غير محصور من الأشكال التغيرية ابتداءً من العمليات المؤثرة على النظام الاقتصادي أو المعتمدة على المجتمع أو تستهدف أبعاد نفسية أو أشكال سياسية أيضًا بما في ذلك من تكتيكات كالمقاطعة الاقتصادية أو الاعتصامات أو الإضرابات وخلافه من الأشكال فهي عمليات تغيير تنتهج مقاومة سلبية أو إيجابية أو تجمع بين الاثنين في نفس الوقت أحيانًا.
أما ما نقصده من عمليات عنيفة فهي تلك التي تعتمد على منهجية هي أيضًا خارج إطار العملية السياسية المرسومة ومؤسساتها هذه العمليات العنيفة تندرج تحت ثلاثة مجالات كبيرة الثورات المسلحة والانقلابات وعمليات التمرد المسلح، تعتمد هذه المنهجية في التغيير على التفجيرات المتنوعة للإضرار بالبشر أو الممتلكات العامة والخاصة أو عمليات الاغتيال والاختطاف وتدمير البنية التحتية للدولة والعمليات النوعية الخشنة المستهدفة للأرواح أو الممتلكات.
في الواقع لا يمكن القطع بشكل كامل على أُحادية المسار خصوصًا في حالات التغيير الكبرى فهي تتقاطع أحيانًا بين عمليات العنف واللاعنف لكن ما يحدد طبيعة التغيير هو السمة العامة الغالبة عليها.
من المنتصر؟
يوضح الشكل 1.2 النسب بين عدد الحملات اللاعنيفة ونسبة نجاحها ويلاحظ فيها أنه منذ 1940 فإن حملات التغيير اللاعنيف في زيادة مستمرة وأن معدلات نجاحها تتصاعد لتصل إلى نسبة 70% من إجمالي عدد 20 حركة تغيير بين 2000 و2006 وقد يعزو ذلك إلى أن الخيارات التكتيكة والإستراتيجية المتاحة أمام اللاعنف أكثر وأوسع من تلك الموجودة في المنهج العنيف مما يساعد على تطوير هذه الأفكار وتعدد وسائلها.
في هذا الشكل يعقد المقارنة بين نسب النجاح بين عدد حملات العنف واللاعنف ويظهر التفاوت الكبير في نسب النجاح بين المنهجين ففي الفترة الأولى بين عامي 1940 – 1949 قاربت نسب نجاح المنهجين لتسجل 40% نجاح للتغير اللاعنيف مقابل الـ 30% للتغيير العنيف، لتصل في نهاية الأمر بين 2000 و2006 لتسجل 70% نجاح للتغيير اللاعنيف مقابل الـ 15% فقط نجاح لمنهج العنف.
ويبدو أنه بناءً على ذلك فإن طبيعة التطور الحاصل من الأنظمة في مقاومة العنف قد أجدى ثماره بينما لم تفلح تلك الجهود في إيقاف أو تقليل من خطورة ونجاح منهج اللاعنف.
ما الذي تم قياسه؟
ولعل من الأسئلة المتبادرة الى الذهن هي أنه قد تكون تلك النجاحات إما جزئية أو لم تحقق أهدافها وإذا تمت المقارنة في ذلك فلعل كفة العنف قد ترجح أو تتساوي.
الإحصائية التالية تبين نسب النجاحات الجزئية والكاملة والفشل لكلا المنهجين:
يبين الشكل البياني التفاوت الكبير بين نسب النجاح الكامل والجزئي والفشل لكلا المنهجين، وبالنظر إلى نتائج النجاح الجزئي فإن نسبة النجاح الجزئي للتغيير اللاعنيف يقارب ضعف نظيره من العنف، بينما تصل حالات النجاح الكامل للتغيير اللاعنيف إلى 55% مقابل 25% فقط للحركات العنيفة أي بمعدل الضعف لصالح التغيير اللاعنيف بينما فشلت الحركات العنيفة في تحقيق أي من أهدافها بنسبة تقارب الـ 60% لصالح 20% فقط للتغيير اللاعنيف أي أن نسب الفشل في التغيير العنيف ثلاثة أضعاف أحتمالية الفشل في التغيير اللاعنيف.
لكن ماذا عن الأهداف المطلوبة لمنهج اللاعنف؟ قد يقول قائل إن الأهداف التي نجحت فيها حركات التغيير اللاعنيف هي أهداف سطحية لا تستطيع مواجهة المخاطر الكبرى تحت أنظمة قمعية شديدة أو أن الأهداف تكمن في محاولة الحفاظ على الحديقة الموجودة في الحي بعد تعنت إدارة الحي في رغبتها بإزالتها.
الشكل القادم يوضح الأهداف بين ثلاثة قطاعات كبيرة: أهداف لإسقاط الأنظمة الحاكمة، أهداف خاصة محلية مثل مقاومة احتلال أو طلب الاستقلال، أهداف أخرى.
بالنسبة لأهداف تغيير أنظمة الحكم يظهر التفاوت الكبير في معدلات النجاح بين المنهجين لتصل إستراتيجية اللاعنف إلى نسبة 60% من النجاح، بينما يقارب الـ 30% فقط لمنهج العنف أي تقريبًا ضعف المعدل.
بينما تأتي الأهداف المتعلقة بالاستقلال أو مقاومة الاحتلال لتنخفض معدلات النجاح في إستراتيجية اللاعنف لتقارب في معدلاتها النجاح مع إستراتيجية العنف مع الاحتفاظ بالنسبة الأعلى أيضًا.
بناءً على النتائج السابقه يتضح لنا أن منهج اللاعنف استطاع تحقيق أهدافه بما يوازي ضعف منهج العنف أي أن المنهج يمتلك من الأدوات المطلوبة ما تؤهله للانتصار وتحقيق أهدافه ولعل كما للحروب أسلحة متنوعة وآلات مختلفه يتم استخدامها من أجل الانتصار في المعركة، فإن منهج اللاعنف يعتمد أيضًا على أسلحة لكنها من طبيعة مختلفة أكثر ذكاءً وبالموارد الموجودة والمتاحة في الأغلب.
إن كلا المنهجين يمثلان “أداة” للوصول لحالة النجاح المطلوبة، فالهدف ليس الانتصار للأداة إنما الانتصار في المعركة، والانتصار لا يعني فقط مفهوم المشهد الأخير بيوم 12 فبراير لحظة سماع تنحي المخلوع مبارك ومحاولة استعادة تلك اللحظة، إنما هو درب طويل من التخطيط والعمل رأس ماله الأساسي هو “الأفراد والأفكار” أي أن الانتصار بعد مقتل الآلاف قد يسمى انتصارًا لكنه ليس المطلوب، فالتضحية بالأفراد من أجل الانتصار دون التفكير في كيفية الانتصار بدون خسارة هذه الأرواح تعد تضحيه خائنة من القيادات المفكرة وقصور في النظر.
سنناقش في المقالات القادمة بشكل أعمق أهمية الأعداد والمشاركة وأهمية التخطيط لهذا المنهج وإسقاطات على الحالة المصرية بشكل مباشر.