استكمالًا لسلسلة تاريخ الفكر الاقتصادي لا نزال في العصور الوسطى في فترة ازدهار الحضارة الإسلامية نتدارس ما تناوله ابن خلدون من أفكار اقتصادية في كتابه المشهور “مقدمة ابن خلدون”.
كنا قد انتهينا في المقالة الماضية عند اتجاه الدول والمجتمعات إلى التدهور والإنحلال بعد تخليها عن صفاتها الأولى وتنحدر إلى الترف وكل هذا ينعكس على مالية الدولة جبايًة وإنفاقًا، وفي هذا السياق يذكر ابن خلدون في فصل:” في الجباية وسبب نقصها”: ” إن الجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة وآخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة” ومعنى هذا أنه حينما تقلُ الأعباء (الضرائب) على الأفراد فإن هذا يدعوهم على العمل والإنتاج أكثر وبهذا يزيد الناتج القومي ويزيد تحصيل الضرائب من قبل الدولة.
وهذا يشابه ما جاء به الاقتصاد الحديث حين ابتكر ما سُمي ” نظرية العرض” خلال الثمانينيات والتي اعتمدت على فكرة خفض الضرائب لحفز الأفراد والمشروعات على الاستثمار والإنتاج، وفي هذه النقطة يضيف ابن خلدون:” إذا قلت الوزائع والوظائف على الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيه، فيكثر الاعتمار ويتزايد لحصول الاغتباط بقلة العزم. وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع فكثرت الجباية التي هي جملتها”.
والعكس يحدث عندما تزيد نفقات الدولة وتتوسع وخاصة إذا انغمست في الترف وكثرت الحاجات والإنفاق بسببه، فتزول رغبة الناس للإنتاج والإعمار بسبب زوال الأمل من نفوسهم بسبب قلة المنفعة إذا قارنها بالمغرم حسب ابن خلدون، وتبقى الحال هكذا حتى يبدأ العمران بالتناقص لذهاب الآمال من الإنتاج الذي يضر الدولة في النهاية لإن فوائد الإنتاج تعود عليها في النهاية وبالتالي” أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنشط النفوس ليقينها بإدارك المنفعة فيه”.
كما لابد من توفر العدالة في النظام الضريبي لأن الظلم إن حدث يقل محصول الضرائب بالنتيجة وقد ذكر ذلك في فصل ” في أن الظلم مؤذن بخراب العمران” حيث يقول أن العدوان على الناس في ممتلكاتهم وأموالهم يؤدي إلى تقلص رغبة الناس في العمل والإنتاج للحصول على الأموال والاستزادة منها فإذا ذهبت الرغبة في اكتساب وتحصيل الأموال “انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك”.
كلام ابن خلدون في هذا الباب يشير فيه أن الفرد كائنٌ رشيد يقارن بين التكلفة والعائد “النفع والغرم” وهذا أساس فكرة الكائن الاقتصادي التي جاء بها انصار المدرسة الاقتصادية التقليدية.
ونلاحظ أيضًا رأيه في أثر الضرائب والأعباء كحافز للعمل أو مثبطٌ له، وكذلك بالنسبة للاقتصاد القومي فهو يرى أن أهمية الاعتمار الاقتصادي للدولة لا يأتي بالتزود من حصيلة الضرائب، إلا إذا تناسبت الزيادة في الضرائب مع الزيادة في “الاعتمار” أو الإنتاج للسلع والخدمات في شتى المجالات.
ولاحظ وجوب المرونة في أسعار الضرائب عندما شدد أن انخفاض الأعباء العامة وأسعار الضرائب قد يصاحبه زيادة في الحصيلة نتيجة زيادة الاستثمار والإنتاج، فالضرائب تشبه أسعار السلع تزيد حصيلتها مع انخفاض الأسعار وليس مع ارتفاعها.
وفي إطار دراسته لتطور المجتمعات وأشكال السلطة، نجد أن له نظرة ثاقبة في دور الدولة والموظف العام، فاعترف بأهمية السلطة وأفرد فصلًا “في أن العمران البشري لابد له من سياسة ينتظم بها أمره” ومع ذلك حرص ألا تنخرط الدولة أو تنغمس كثيرًا في النشاط الاقتصادي العادي فأفرد لهذا عنوانا يقول” في أن التجارة من السلطان مضرةٌ بالرعايا مفسدة للجباية” فالدول مهما ادّعت أنها تخضع لقواعد السوق وتدير أموالها في المشروعات الاقتصادية وفقًا لأساليب الإدارة الخاصة مع مراعاة اعتبارات الكفاءة، فهي في حقيقة الأمر لابد أن تلجأ إلى مزايا السلطة العامة وقهرها، وبذلك تفسد السوق. فالدولة أو القطاع العام ليس لاعبًا عاديًا في السوق بل إنه يملك أدوات السلطة والقهر فيفسد السوق بتدخله ويخل من نشاطاته.
والسوق لا ينجح إلا إذا توافرت فيه مزايا المساواة والتنافس الشريف بين المتعاملين من القطاع الخاص يقول ابن خلدون في هذه النقطة:” فإن الرعايا متكافئين في اليسار أو متقاربون، ومزاحمة بعضهم بعضًا ينتهي إلى غاية لوجودهم أو تقرب، وإذا رافقهم السلطان في ذلك وما له أعظم كثيرًا منهم، فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من ذلك غمٌ ونكد. ثم إذا السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غصبا”.
وهو يرى أن الجمع بين السلطة والتجارة يؤدي غالبًا إلى الفساد نظرًا لأن “الجاه مفيد للمال” وبذلك فإن الجمع بين السلطة والتجارة يعني إمكان الكسب غير المبرر ” فالإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش”.
وفي النهاية يقدم ابن خلدون توصيفًا لخصائص عمال الدولة وموظفيها: ” فالخديم القائم لا يعدو أربع حالات: إما مضطلع بأمره وموثوق فيما يحصّل بيده فلا يمكن أحد استعماله بوجه إذ هو باضطلاعه وثقته غني عن أهل الرتب الدنية ومحتقر لمنال الأجر من الخدمة لاقتداره على أكثر من ذلك..أما الصنف الثاني: وهو من ليس بمضطلع ولا موثوق فلا ينبغي لعاقل استعماله..أما الصنف الثالث: موثوق غير مضطلع، والصنف الرابع: مضطلع غير موثوق. وللناس الترجيح بينهما مذهبان ولكل من الترجيحين وجه. إلا أن المضطلع ولو كان غير موثوق أرجح لأنه يُؤمنُ من تضييعه، ويحاول على التحرز عن خيانته جهد الاستطاعة. أما المضيّع ولو كان مأمونًا، فضرره بالتضييع أكثر من نفعه”.
في هذه القضية يناقش “أهل الخبرة” و “أهل الثقة” وهو يرى أن من توافر فيه الصفتان الثقة والخبرة يتعالى ويتجنبب الوظيفة العامة لان خدماته تكون مطلوبة أكثر في النشاط الخاص، أما من يخلو من الصفتين فلا يوجد عاقل يشغله، وعليه فإن الخيار يبقى بين إثنين يتوافر لديهما صفة واحدة فقط من الصفتين: الخبرة أو الثقة. وفي كلا الحالتين هناك قصور في أدائهما ويرى ابن خلدون أن خطر انعدام الخبرة أكبر من خطر انعدام الثقة.
وبهذا نكون قد أنهينا الفكر الاقتصادي لدى ابن خلدون وفي المقالة القادمة سنبدأ بالفكر الاقتصادي ما قبل التقليديين.