أفغانستان، غوانتانامو بيه، العراق، وفلسطين. تلك بعض الأماكن التي حاولت القوى المهيمنة في العالم تحويلها إلى مواقع استثنائية لا يطبق فيها القانون الدولي وترتكب فيها الجرائم ضد الإنسانية بعيداً عن المساءلة والمحاسبة.
انضمت مصر إلى تلك القائمة من الأماكن في الصيف الماضي. ولكن، وكما هي الحالة في جميع هذه المناطق، يقاوم الناس في مصر، وبقوة، كل الجهود المبذولة لحرمانهم من حقوقهم الأساسية.
يوم السبت الماضي عقدت مجموعة من المحامين الدوليين مؤتمراً صحفياً للكشف عن نتائج أولية توصلت إليها في معرض تحقيقها في الجرائم التي ارتكبها العسكر في مصر ضد الإنسانية منذ وقوع الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو (تموز) والذي أطاح بأول رئيس وأول برلمان منتخب ديمقراطياً في مصر.
وقد كلف هذا الفريق من المحامين المرموقين بمهتمه من قبل حزب الحرية والعدالة في مصر ومن قبل بعض أعضاء البرلمان المطاح به في البلاد. يترأس الفريق المحامي طيب علي أحد الشركاء في مؤسسة آي تي إن المتخصصة في الترافع أمام القضاء البريطاني في قضايا حقوق الإنسان، ويتكون الفريق من بعض أبرز القانونيين في العالم ومنهم المدير السابق لدائرة الادعاء العام في بريطانيا اللورد كين مكدونالد، والمحامي الدولي الجنوب أفريقي والمقرر الخاص للأممم المتحدة لحقوق الإنسان البرفسور جون دوغارد، ومحامي حقوق الإنسان ذائع الصيت مايكيل مانسفيلد.
أثناء المؤتمر الصحفي، انضم كل من طيب علي ومايكل مانسفيلد إلى الدكتور عبد الموجود درديري، أحد أعضاء البرلمان المصري المعلق، والبرفسور ريتشارد فولك،القانوني البارز و المقرر الخاص للإمم المتحدة بشأن وضع حقوق الإنسان في فلسطين، لمناقشة النتائج الأولية لتقريرهم ومناشدة المجتمع الدولي التصريح بهذه الجرائم وإعلان معارضته لها بشكل فعال.
أكد جميع المتحدثين مراراً وتكراراً بأننا نشترك معاً في حمل هذا العبء التاريخي وبأن مستقبلنا المشترك، بما في ذلك الحقوق التي نؤمن بها جميعاً، تعتمد على مآلات الأمور في مصر.
منذ مأساة الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ والعيون الغربية، وخاصة عيون الأمريكان، مركزة على الشرق الأوسط في محاولة لفهم لماذا حصلت الهجمات. ولكن، وكما يشير الأكاديمي الأمريكي ديريك غريغوري في كتابه “الحاضر الاستعماري”، البحث عن الإجابة “هناك” بدلاً من البحث عنها “هنا”، خلقت الولايات المتحدة وحفاؤها الأوروبيون مواقع استثنائية، حيث ينساقون وراء منطق المشاريع الاستعمارية والاستشراقية في تصور أن الحياة “هناك” تحكمها قيم أخلاقية ومبادئ قانونية مختلفة عن تلك التي تحكم الحياة “هنا”. مثل هذه النظرة المنسوبة لما بعد حقبة الاستعمار لا تكتفي بإعادة إنتاج التمايز بين البشر بل تذهب أيضاً بكل الإنجازات التي تحققت حتى الآن في مجال حماية الحقوق الأساسية للإنسان في حقبة ما بعد الاستعمار. يقول غريغوري بأن “مثل هذا الخلل – المتمثل في اعتبار تدبر “الآخر” امتيازاً دونما اعتراف بما تراه فيه بالمقابل – هو الذي يسم هذه النظرة الاستعمارية المعاصرة.”
شهدت العيون الغربية مؤخراً انطلاق الانتفاضات العربية التي فجرها بشر عاديون من خلال مسيرات احتجاجية انسابت في الشوارع والطرقات تطالب بشجاعة بإنهاء عقود من الدكتاتورية وتدشين مرحلة جديدة يسود فيها القانون وتمارس فيها الديمقراطية. ولكن، وبينما أسرت الانتفاضات الثورية في العالم العربي خيال الغربيين، لم يكن ذلك كاف لقطع الطريق على النظرة الاستعمارية والإطاحة بالتمايز المنشأ الذي تحدث عنه غريغوري، فقد التزم الغرب إلى حد بعيد الصمت منذ أن سحق انقلاب العسكر ديمقراطية مصر ومارسوا الإرهاب في حق شعبها.
والآن، يقول ضحايا الانقلاب الذين يناضلون من أجل استعادة الديمقراطية في مصر بأنه آن الأوان لأن يقر المجتمع الدولي بحقيقة ما تراه عيناه. فالمصريون الذين ينكل بهم نظام عسكري يتلقى تسليحه ودعمه من الأقطار الغربية يطالبون الآن المجتمع الدولي بأن يدعم بشكل فعال نضالهم في سبيل استعادة الديمقراطية وأن يساعدهم في محاسبة نظام الانقلاب العسكري على الجرائم التي ارتكبها ضد الإنسانية. سنحت الفرصة قبل انعقاد المؤتمر الصحفي أن تجرى مؤسسة “ميمو” حواراً شاملاً حول الجهود المبذولة في هذا المجال مع المحامي مايكل مانسفيلد الذي عمل لما يزيد عن أربعة عقود في قضايا ذات علاقة بالنضال في سبيل الحقوق المدنية حول العالم، وكان مؤخراً أحد القضاة في محكمة راسيل حول فلسطين.
يغمر مانسفيلد الغضب جراء ما يسميه “صمتنا الجماعي”، ويتساءل “لماذا لا ينتبه أحد للنقطة التي حاول الرئيس محمد مرسي نفسه لفت نظرنا إليها، وهي أنه أطيح به من خلال انقلاب عسكري.” ويؤكد مانسفيلد على أن مقاضاة مرتكبي الانقلاب في مصر أمر في غاية الأهمية لأن “الشرق الأوسط بوتقة لما يجري في العالم.”
أوضح مانسفيلد في حديثه مع “ميمو” أن اللجوء إلى الاختصاص القضائي الدولي لتحقيق العدالة في مصر ليس أمراً غير مسبوق، مستشهداً بقضايا أخرى “تثبت الحاجة إلى إنفاذ القانون الدولي.” وفصل ذلك بالقول إن “إحدى القضايا التي يحب الاستشهاد بها تتعلق بشيء فعله الإسرائيليون أنفسهم. فلعل الناس يذكرون بأن الأسرائيليين تسلموا في عام ١٩٦١ مجرم الحرب أدولف آيكمان من جنوب أمريكا ونقلوه إلى القدس ليمثل أمام القضاء على أساس أن ما من جهة أخرى كانت ستقوم بهده المهمة.”
بما أن آيكمان كان قد ارتكب جرائم حرب لم يكن سيحاكم بشأنها في أي مكان آخر، اعتبر الإسرائيليون أنفسهم في موقع يؤهلهم لفعل ذلك. بالطبع كثيرون، بمن فيهم الأكاديمية اليهودية حنا أريندت، انتقدوا إسرائيل لأنها حاكمت آيكمان باسم المعانة اليهودية بدلاً من محاكته باسم معاناة البشرية ككل. وفي هذا المجال لاحظت المنظرة الناقدة جوديث بتلر بأن “تدمير وتشريد شعوب بأسرها لم يكن عدواناً على فئات محددة بعينها وإنما على البشرية بأسرها.”
خلال المؤتمر الصحفي الذي انعقد يوم السبت الماضي، قال البرفسور فولك بأننا كمواطنين ذوي ضمير حي في العصر الحديث “لا ينبغي أن نقنع بإحالة الأمور إلى الحكومات أو الدول بوصفها المنفذ لسيادة القانون. إذا كنا فعلاً نعتقد بأهمية المجتمع الديمقراطي فإن لنا الحق جميعاً وعلينا الواجب كذلك بأن نرفع عقيرتنا في وجه من يرتكبون جرائم ضد الإنسانية لأننا بصدد جرائم غير قطرية، جرائم ضد البشرية. ونحن جميعاً، وبشكل مؤكد وأساسي جداً، بشر قبل أن نكون مواطني دولة بعينها وقبل أن ننتمي إلى دين بعينه أو عرقية بعينها. بشريتنا تهيب بنا أن نرد على الفظائع والجرائم البشعة.”
يوافق مانسفيلد، بالطبع، على أهمية الجانب الأخلاقي، ولكنه يضيف أيضاً جانباً عملياً مؤكداً على أننا “جميعاً لنا مصلحة، ومصلحة راسخة، في ضمان حق تقرير المصير لشعوب منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك مصر وفلسطين.”
كل من يشك في أهمية هذه المصلحة الذاتية بإمكانه أن يدركها بمجرد التدبر بما يجري ضمن حدود بلاده. فيما يتعلق بالمملكة المتحدة يشير مانسفيلد إلى ما تقوم به الشرطة من تجسس على الطلبة في جامعة كامبريدج كما كشفت عن ذلك مؤخراً صحيفة الغارديان. وفي الولايات المتحدة يستمرون في توسيع دائرة ما يسمى بقانون الوطنية ناهيك عن ممارسة الرقابة الجماعية والتجسس على المسلمين الأمريكيين، والتي يزعم الصحفي تريفر آرونسون أنها تمخضت عن اختراع المباحث الفيدرالية الأمريكية لإرهابيين وذلك، ببساطة، لتبرير قيام عناصرها بالتعدي على الحريات المدنية للمواطنين.
في نفس المؤتمر الصحفي عبر الدكتور الدرديري بصوت يشوبه الحزن عن مشاعره تجاه ما يجري في مصر قائلاً بأن “مصر اليوم على مفترق طرق”، وأضاف: “ما يجري في مصر الآن ستكون له تداعيات خطيرة على مستقبلنا جميعاً. فأي مستقبل نريد لأنفسنا؟ هل نريد مستقبلاً من حرب الكل فيها ضد الكل؟ أم أننا هنريد مستقبلاً من الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان؟
سألت مانسفيلد كيف تشكل تجاربه السابقة الطريقة التي يرى من خلالها النضال من أجل العدل والديمقراطية في مصر فأجاب: “توصلت إلى القناعة بأن القتال داخل المحكمة، أي النضال داخل المحكمة في سبيل تحقيق العدالة، إنما هو جزء من الصورة الأكبر. لن تتمكن من الحصول على العدالة داخل المحاكم مالم توجد مناخاً خارج المحكمة، أو حتى ثقافة إن أمكن، تمكن الناس من التعرف على سيادة القانون وعلى الحاجة إلى أن لا تتجاهلهم المعاهدات الخاصة بحماية حقوق الإنسان، ومن التوصل إلى قناعة إضافة إلى ذلك بأن كل ذلك سيسهم في تحسين الأوضاع الفردية أو الخاصة للناس في حياتهم العامة. وحينما يدرك الناس بأن هذه الحقوق ليست وهمية، وأنها ليست مجردة، وبأنها مهمة فعلياً حينما يتعلق الأمر بحقوق التجمع والتعبير والتنظيم وما إليها فإنهم سيتوقفون عن اعتبار ما يقومون به من نشاطات مضمون النجاح بلا عناء، وسيدركون بأن حرياتهم صينت وعاشت لأن شخصاً ما اهتم بكسوتها، إذا رغبت، بثقافة الحقوق.”
ومضى شارحاً: “المشكلة الكبرى هنا تتمثل في عدم احترام سيادة القانون من قبل الدول القومية التي تتصرف كما لو كانت جماعات إرهابية، وأعتبر إسرائيل واحدة منها، ومن الواضح أن نفس الأمر ينطبق الآن على مصر. إذا كانت مثل هذه الدول تضرب عرض الحائظ بكل القيم وتقول بأنها غير معنية، وتصر على الاستمرار في نهجها المنتهك لحقوق الإنسان، ومهما كان المنطق الذي تستند إليه، فإنها ستصبح نماذج مريعة تحتذى من قبل الآخرين الذين سيقولون إذا كانت تلك الدول تتصرف بهذا الشكل فلم لا نفعل ذلك نحن أيضاً. وبهذا تذهب في مهب الريح كل الجهود التي بذلها الحقوقيون والسياسيون عبر قرون في سبيل إرساء قواعد حضارية للسلوك. ويسود بذلك قانون الغاب، ويصبح الحق مع من يملك القوة والنفوذ.”
مانسفيلد وزملاؤه يحاولون التأكيد على نقطة مهمة، وهي أن حقوقنا في عالم اليوم ستتوقف باستمرار على حقوق الآخرين. وإذا كان الإطار الحالي لضمان حقوقنا غير مثالي، فإنه يظل إطاراً ناضلنا لأسباب أخلاقية قوية في سبيل إيجاده وسنستمر ببذل الجهود لإصلاحه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. وأياً كان عوار هذا الإطار، فإنه يتوجب عليه أن يعلي سيادة القانون دونما تمييز، وإلا فإن كل ما نبذله من جهد سيصبح بلا معنى.
وطبقاً لما يقوله مانسفيلد فإن “المشكلة التي تواجه الجميع هي أن القرارات المهمة تتخذ داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهذا المجلس تهيمن عليه الدول الخمس صاحبة العضوية الدائمة فيه، والتي تتمتع جميعها بحق النقض، الذي تمارسه الولايات المتحدة خصوصاً بشكل منتظم، وبالذات كلما تعلق الأمر بإسرائيل. وتمارسه أيضاً في مختلف الأطر إذا ما قدرت بأن أمراً ما قد يضر بمصالحها القومية، وأياً كانت هذه المصالح. أعتقد جازماً أنه يتوجب إلغاء حق النقض وأنه ينبغي تغيير مجلس الأمن.” إلا مانسفيلد أكد على أنه “بالمقابل، لا ينبغي التوقف عن ممارسة الضغوط على الدول الأعضاء، بما في ذلك على المملكة المتحدة، إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية في المجلس.”
ويرى مانسفيلد بأن هذه ليست السبيل الوحيد المتاح للعمل، ويشرح ذلك قائلاً: “أظن أن كل جهد يبذل لعزل الحكومة غير الشرعية في مصر وممارسة الضغوط باتجاه إلغاء الإجراءات المتخذة حالياً ضد الرئيس مرسي، كل ذلك سيكون مفيداً. وعليه، فإنك تبدأ بأعضاء مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة وبأعضاء البرلمان في بريطانيا، وهكذا. لكن، ينبغي أن يكون هناك شكل من أشكال التنسيق بين من يقومون بهذا الجهد، لا مفر من ذلك.”
ثمة قضايا سابقة يسترشد بها فريق القانونيين الدوليين في سعيهم لتحقيق العدالة في مصر، ومنها على سبيل المثال محاكمة دكتاتور تشيلي السابق أوغستو بينوشيه، ومنها أيضاً إصدار محكمة بريطانية قبل فترة قصيرة مذكرة جلب بحق السياسية الإسرائيلية تسيبي ليفني بشأن دورها في جرائم حرب ارتكبت خلال الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة بنهاية ٢٠٠٨ ومطلع ٢٠٠٩. يشير مانسفيلد إلى أنه على الرغم من أن كل قضية تختلف عن الأخرى من الناحية القانونية والسياسية إلا أن المشترك فيما بينها جميعاً أنها تبعث برسالة واحدة “إلى من تسول لهم أنفسهم ارتكاب جرائم حرب أو الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية مفادها أن بإمكانكم أن تهربوا ولكنكم لن تجدوا مكاناً تختبئون فيه. لا يوجد مكان آمن يؤويكم، أو الأحرى ألا يتاح لكم الحصول على مأوى آمن.”
كما حذر الدكتور درديري زعماء الانقلاب في مصر قائلاً: “نحن، كشعب مصري، عازمون على الإعلان على الملأ بوضوح أن ما حدث لن يتكرر أبداً. ولن نسمح بتاتاً أن يفلت من العقاب أولئك الذين قتلونا.”
رغم أنه من الأهمية بمكان أن يظل الشعب المصري باستمرار متحكماً بمصيره، ما يؤكده بوضوح الجهد القانوني الدولي الساعي إلي تحقيق العدالة في مصر هو الآتي: وجود المأوى الآمن الذي يمكن أن يلجأ إليه مرتكبو الجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك مجرمو الحرب في مصر، من عدمه يتوقف ليس فقط على إرادة الشعب المصري، وعلى منظماتنا الدولية وعلى دولنا، وإنما أيضاً على كل واحد منا، فرداً فرداً.