ماذا يحدث في حلب؟
أصبحت حلب اليوم ميدانًا لمعركة كسر عظم، ليس بين النظام السوري والمعارضة المسلحة فحسب، بل أساسًا بين محورين تركي-سعودي و روسي- إيراني.
وهذان المحوران هما في الحقيقة طرفا المعادلة الأهم في معادلة الصراع، وربما تكون معركة حلب، على الأرجح، الساحة الأهم من أجل إعلان وفاة المشهد السوري بكليته وإبراز الصراع بوجهه الحقيقي بين محورين إقليميين ودوليين، فهل ستكون حلب الميدان الفاصل في مسيرة الثورة السورية ومستقبل سورية؟
استطاع النظام السوري، بدعمٍ جويٍّ من الطائرات الروسية، السيطرة على طريق رئيسية تقطع ريف حلب الشمالي عن الجزء “المحرّر” الواقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة، فضلًا عن مواقع مهمة ابتداءًا من مطار كويرس العسكري وتلة برلهي في الشرق، إلى مطار منغ العسكري وبلدات ماير ورتيان، إضافة إلى عدة قرى وبلدات، والأهم من ذلك فك الحصار عن بلدتي كفريا والفوعة اللتين تعدان ورقة تفاوضية في ملف الإغائة. لكن هذه المكاسب لا تعني أن ما حققه النظام ميدانيًا يعد حرزًا جغرافيًا مهمًا إذا ما نظرنا إليها تبعًا لحسابات المعارك وكسب المساحات، فماذا يعني اكتساب النظام أراضٍ إضافيةٍ مساحتها لا تزيد على ـ 1% وضمها إلى نسبة الـ اـ 25% الواقعة تحت سيطرته؟.
ما الذي تريده موسكو من معركة حلب؟
الهدف الروسي المعلن هو إغلاق الحدود التركية السورية عبر قطع طريق إعزاز نهائيًا، الطريق الدولي من غازي عنتاب في تركيا إلى مدينة حلب، والحيلولة دون دخول الإمدادات للمعارضة المسلحة، وبالتالي محاصرتها من جانب الجيش السوري النظامي والميليشيات التي تقاتل معه و”قوات سوريا الديمقراطية”. لكن هذا الهدف المعلن يبدو مجرد تفصيل في خطة أكبر ذات مقاصد أوسع.
تمثل حلب إذًا في معركتها الراهنة رقعة شطرنج لكلا المحورين مكلفة بحمل الرسائل السياسية المرسلة بطرود عسكرية، فقد أرادت موسكو إيصال رسالة واضحة إلى السعودية وتركيا معًا، بعد ساعات قليلة من انتهاء مباحثات “جنيف3″، مضمونها أنها مصرة على بقاء الأسد ونظامه، على الأقل في دويلته المفيدة، وبالتالي إخضاع المحور السعودي–التركي وإنهاكه للوصول إلى طاولة مفاوضات أخرى غير مشروطة بفاتحة وخاتمة مصير النظام السوري.
ومن جهة أخرى تسعى موسكو من معركتها في حلب للضغط على تركيا بقصد تحييدها عن الوضع السوري وإشغالها بنفسها، أكان ذلك من خلال ملف النازحين القادمين من ريف حلب الشمالي الذين يتزايد عددهم طردًا مع الطلعات الجوية الروسية في سماء حلب (نحو 70 ألف نازح قرب معبر باب السلامة)، أو من خلال إرباكها بفتح المشكلة الكردية في داخلها، خصوصًا بعد سماح روسيا لوحدات حماية الشعب الكردية بالتقدم إلى الحدود السورية التركية.
تحركات المحور السعودي – التركي
لم يكن أمام السعودية والدول الخليجية الأخرى إلا الاختيار بين المواجهة والتسليم، فأبدت الاستعداد للدخول بقوات برية في ساحة الصراع تحت عنوان القضاء على تنظيم الدولة ضمن تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة.
وفعلًا بدأ التحضير ، بعد أيام من اشتداد القصف على مدينة حلب، في غرفة العمليات المشتركة للجبهة الشمالية التي تضم السعودية والإمارات وقطر وأميركا وفرنسا وبريطانيا وتركيا، في مدينة أضنة التركية، لنشاط أولي من التدخل العسكري في سورية، إضافة إلى رفع جاهزية المعارضة بالسلاح من 40 طنًا إلى 120 طنًا..
في عقب ذلك بدا للمراقبين انخفاض طلعات الطيران الروسي من 320 طلعة يومياً إلى 180 طلعة، ما يوحي بشيء من التهدئة لكن مع المحافظة على زخم القصف الروسي، ربما تمهيدًا لجر المجتمع الدولي نحو جولة مفاوضات سياسية أخرى يكون الحكم الفاصل فيها حجم القوات الروسية العسكرية وقدراتها في سورية، إلى جانب الضغط الذي تولده الكارثة الإنسانية المتزايدة في حلب.
في يوم السبت 13 شباط/ فبراير وصلت مقاتلات سعودية إلى قاعدة إنجرليك التركية، إضافة إلى دفعة أخرى مرتقبة في الأيام المقبلة، للمشاركة في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ما يعني إيصال رسالة سعودية إلى الروس أنها قادرة على ربط الأقوال بالأفعال، وتزامنت الرسالة مع تصريحات سعودية تؤكد أن التخلص من وجود تنظيم الدولة الإسلامية وتمدده لن يحصل إلا بإسقاط الأسد ونظامه.
أما الرد التركي فقد جاء عبر عدم فتح الأبواب لاستيعاب النازحين الجدد، إذ بحسب الرؤية التركية لو قام أردوغان باحتوائهم فمن الممكن أن تفقد الكارثة الإنسانية حدتها أمام المجتمع الدولي، وتذهب أدراج الرياح مثل موجات النزوح السابقة التي لم يكترث إليها أحد، ما يعني بالنسبة إلى أردوغان ضرورة إظهار النظام السوري وحلفائه الروس أمام العالم بوصفهم المسؤولين الحقيقيين عن مأساة المدنيين المهجرين.
كذلك، وجهت تركيا ضربات لقوات حماية الشعب الكردية في المناطق القريبة من منطقة “اعزاز” الحدودية ردًا على نيران من النظام السوري، وذلك وفقًا لقواعد الاشتباك بحسب التصريحات الرسمية التركية. كما أطلقت تركيا تحذيرات لوحدات حماية الشعب من إغلاق الممر الواصل بين منطقة “إعزاز” في ريف حلب الشمالي والحدود التركية، وطالبتها بالانسحاب من محيط المنطقة، وحذرتها أيضًا من استغلال سيطرتها على مطار منغ العسكري ضد تركيا أو المعارضة السورية. وهذا ما يعني أنها مستعدة في أي لحظة للدخول إلى ساحة الصراع على الأرض.
مؤتمر ميونيخ والجاهزية الروسية
في مؤتمر ميونخ للأمن، على بعد آلاف الكيلومترات من حلب، يتردّد صدى القصف الروسي في الكواليس، لتفرض موسكو على القوى الكبرى إما الرضوخ للرؤية الروسية في ظل المعطيات الخاسرة للمعارضة أو الدخول في مواجهة الثقل العسكري الروسي في حلب التي ما تزال تعاني قصف الطائرات الروسية وتنتظر التقدم المتسارع لقوات النظام والميليشيات الموالية له.
وقد عبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن رؤية موسكو هذه من خلال الإفصاح عن تفاؤله الضعيف بنجاح فرص وقف إطلاق النار، وكأنه يريد أن يقول إنه ماضٍ في حربه إلى النهاية، وتزامن ذلك مع قرار موسكو إرسال قطع عسكرية إضافية إلى السواحل السورية، فقد أعلن الجيش الروسي أن سفينة “زيليني دول” المزودة بصواريخ بعيدة المدى وكاسحة الألغام “كوفروفيتس” قد انطلقتا من ميناء سيفاستوبول في القرم لتنفيذ مهامٍ في المتوسط، ولا تستبعد مصادر أمنية روسية أن تشارك هذه القطع البحرية في الحملة العسكرية لدعم قوات الأسد.
سيناريوهات محتملة
السيناريو الأول لمعركة حلب هو خلق توازن قوى جديد لمصلحة محور المعارضة – السعودية – تركيا عبر دخول قوات عربية تركية إلى الميدان وفرض معطيات جديدة على الأرض تقود إلى اختلال أوراق التفاوض من جديد في المحافل الدولية، وإلى احتمال حدوث جولات عسكرية جديدة بين وكلاء الصراع (النظام وميليشياته، المعارضة المسلحة) بدعم من المحاور الداعمة، تستنزف دماء جديدة، ريثما يصبح من الممكن العودة إلى التفاوض السياسي الذي قد تخيّم عليه، في ظل الوضع العسكري الجديد، فكرة تقسيم سورية إلى ثلاثة أقسام، سنية وعلوية (سورية المجدية) وكردية.
أما السيناريو الثاني فهو سقوط مدينة حلب وريفها في قبضة النظام السوري وحلفائه واستنزاف المعارضة المتبقية في حصار خانق إلى حين التوجه من جديد إلى طاولة المفاوضات بشروط روسية جديدة.
أخيرًا، أمام القصف الروسي والمخاطر المحتملة من تقدم النظام وميليشياته، واحتمالات الدخول السعودي التركي إلى سورية وما يمكن أن يضيفه إلى المشهد السوري المعقد أصلًا، تصبح المعارضة السورية بشقيها، السياسي والعسكري، أمام لحظة فاصلة تتطلب تفكيرًا جديًا بالسيناريوهات المحتملة وتفصيلاتها، وعملًا مختلفًا أساسه وضع خطة سياسية عسكرية متكاملة للتقليل من حجم الخسائر أمام التصميم الروسي والاحتفاظ بقدرتها على فرض حد أدنى من الشروط عندما يحين موعد التفاوض من جديد.