على ضفاف مانثاناريس
يُحكى أنّ أجدادنا العرب المسلمين، وصلوا أثناء فتوحاتهم في شبه الجزيرة الإيبيريّة قبل نحو 1300 عام إلى منطقةٍ عظيمة الشجر، كثيرة الثمر، خصبة التراب، يتوسّطها نهرٌ عذب المياه باردها، يضفي الحياة على ما حوله من شجرٍ وحجر، فشرع أجدادنا -بفكرهم الحضاري النزّاع إلى التمدّن والعمران- في إعادة إعمار تلك البقعة الحيويّة المهملة، فشيّدوا المنازل والقصور، وأكثروا من الحدائق والزهور، على ضفاف ذلك النهر البارد، الذي أطلقوا عليه اسم (نهر الجليد) نظرًا لبرودة مياهه، كما أطلقوا على المدينة التي يمر النهر عبرها اسم (مجريط) أي مجرى نهر الجليد.
(مجريط) هذه أصبحت اليوم (مدريد) عاصمة المملكة الإسبانيّة وثالث أكبر مدن أوروبا، ونهر الجليد أصبح اسمه نهر (مانثاناريس)، الذي مازالت الأزهار والحدائق الغنّاء تزيّن ضفافه، كما تزيّنها بقعةٌ واسعةٌ من العشب الأخضر، يحيط بها سورٌ ضخمٌ ومدرجاتٌ تتّسع لما يربو عن ال55 ألفًا من الحضور، إنّه ملعب (فيسنتي كالديرون) معقل نادي أتلتيكو مدريد، ذلك النادي العريق الذي تأسس في العاصمة الإسبانيّة عام 1903، على يد مجموعةٍ من الطلاب المنحدرين من إقليم الباسك، على أن يكون فرعًا للنادي الباسكي الشهير (أتلتيك بلباو)، فاقتبس عنه لباسه الرسمي (الأزرق والأبيض) في البداية، قبل أن يستقلّ النادي المدريديّ بنفسه، ويتّخذ من القميص المقلّم باللونين الأحمر والأبيض (الروخو بلانكوس) لباسًا له، ومن رمز مدينة مدريد (الدبّ وشجرة الفراولة) شعارًا له.
قطب إسبانيا الثالث
الأتليتي متوّجًا بلقب الليغا عام 2014
يعتبر نادي (الأتليتي) ثالث أكثر الأندية الإسبانيّة تتويجًا بالدوري الإسباني (بعد ريال مدريد وبرشلونة)، فسجلّاته تزخر ب10 بطولاتٍ، فضلًا عن 8 مرّات أحرز فيها المركز الثاني.
أولى البطولات وثانيها أحرزهما النادي إبّان الحرب العالميّة الثانية بين عامي 1939 و1941، وكان يحمل حينها اسم (أتلتيكو أفياسيون مدريد) إثر اندماجه مع نادي أفياسيون السرقسطي، أمّا ثالث الألقاب ورابعها فجاءا متتاليين أيضًا بين عامي 1949 و1951.
فترة الستينيّات والسبعينيات زخرت ب4 ألقاب دوري في المواسم التالية: (1965-1966)، (1969-1970)، (1972-1973)، و(1976-1977)، فيما انتظر عشّاق الروخو بلانكوس حتى موسم (1995-1996) ليشهدوا فوز فريقهم بلقبه التاسع.
أمّا عاشر الألقاب وآخرها فكان في الموسم ما قبل الماضي (2013-2014)، على يد صانع أفراح الأتليتي في الحقبة الحالية المدرّب الآرجنتيني دييغو سيميوني.
وفيما يخصّ مسابقة الكأس المحليّة، فقد أحرز الأتليتي اللقب 10 مرّاتٍ أعوام: 1960، 1961، 1965، 1972، 1976، 1985، 1991، 1992، 1996، و2013، كما بلغ المباراة النهائيّة في 9 مناسباتٍ أخرى، وحقّق لقب (كأس السوبر الإسباني) مرّتين، عامي 1985 و2014.
أتلتيكو الأوروبي
نهائي الشامبيونز ليغ 2014 بين أتلتيكو وجاره ريال مدريد
أوّل ظهور للنادي المدريدي في سجلّات الأبطال الأوروبيّة كان عام 1962، حين لعب نهائي البطولة الأوروبيّة للأندية أبطال الكؤوس (أُلغيت عام 1999)، وفاز على فيورنتينا الإيطالي بثلاثيّةٍ نظيفةٍ أدخلته التاريخ الأوروبي، وكاد الأتليتي يعيد الكرّة في العام التالي، لولا سقوطه في الموقعة النهائية أمام توتنهام الانكليزي بنتيجة 1-5.
عام 1974 كاد يتحوّل إلى عنوانٍ عريضٍ في تاريخ الروخو بلانكوس، حين نجحوا في بلوغ نهائي أمجد البطولات الأوروبيّة: دوري أبطال أوروبا، ليواجهوا العملاق الألماني بايرن ميونيخ في بروكسل، فتنتهي المواجهة بالتعادل الإيجابي بهدفٍ لمثله، لتُعاد المباراة بعد يومين (بمقتضى قانون تلك المرحلة)، فيخسر الأتليتي برباعيّةٍ بيضاء ضيّعت حلم بلوغ عرش أوروبا، ولكنّ ذلك لم يمنعهم من انتهاز فرصة اعتذار البايرن عن خوض مباراة (كأس الانتركونتيننتال) أمام بطل قارّة أمريكا الجنوبيّة، فشاركوا في المباراة كممثّلين عن قارة أوروبا، وتفوّقوا على إنديبيندينتي الآرجنتيني وأحرزوا اللقب العالمي.
عام 1986 عاد الأتليتي للظهور في نهائي أبطال الكؤوس الأوروبيّة على أمل تكرار إنجازهم الأوروبي الوحيد، ولكنّ الرياح جرت بما لا تشتهي سفنهم، فهُزموا أمام دينامو كييف الأوكراني في النهائي بثلاثيّةٍ نظيفة.
وبعد ابتعادٍ عن منصات التتويج الأوروبيّة دام زُهاء 48 عامًا، عاد الأتليتي من بوابة بطولة اليوروبا ليغ (الثانية من حيث الأهميّة)، حيث أحرز لقب عام 2010 على حساب فولهام الانكليزي، في النهائي الذي انتهى بنتيجة 2-1، قبل أن يضيف (كأس السوبر الأوروبي) إلى سجلاته، إثر انتصاره على إنتر ميلانو الإيطالي بهدفين نظيفين.
وبعد عامين أعاد الأتليتي الكرّة، فجدّد فوزه باليوروبا ليغ عام 2012، بعد تفوّقه في النهائي على مواطنه أتلتيك بلباو بثلاثيّةٍ بيضاء، قبل أن يعود للفوز بكأس السوبر الأوروبي، بتفوّقه على تشيلسي الانكليزي بنتيجة 4-1.
ولامس أبناء الروخو بلانكوس حلم عرش أوروبا مجدّدًا، بنجاحهم في الإطاحة بميلان وتشيلسي وبرشلونة في طريقهم نحو مباراة قمّة (الشامبيونز ليغ)، التي جمعتهم بجارهم الملكي في نهائي لشبونة المثير، الذي ابتسمت دقائقه الأخيرة للريال، فسجّل مدافعهم سيرخيو راموس هدف التعادل القاتل، قبل أن يُجهزوا على أبناء مدينتهم بثلاثيّةٍ بعد التمديد، لتنتهي المباراة بنتيجة 4-1 للريال، وليتأجّل حلم الأتليتي في التتويج بأمجد البطولات الأوروبيّة حتى حين.
أجيالٌ من ذهب
المغربي العربي بن مبارك أحد أبرز أساطير الأتليتي
إذا عدنا إلى سجلّات النادي المدريدي، نجد الكثير من الأسماء التي صنعت تاريخه وإنجازاته، بدءًا بنجمي جيل الأربعينيات ريكاردو غوميز ورامون غابيلوندو بقيادة المدرّب والحارس الأسطوري السابق ريكاردو زامورا، ومرورًا بنجمنا المغربي العربي بن مبارك الذي تألّق مطلع الخمسينيات تحت قيادة المدرّب الآرجنتيني هيلينو هيريرا، ومن ثمّ ظهرت أسماء نجوم الستينيات والسبعينيات كفافا، أديلاردو، إنريكة كولار، خوسيه غاراتي، ولويس أراغونيس أعظم هدّاف في تاريخ الأتليتي، والذي قاد النادي فترة السبعينيات كمدرب.
في الثمانينات ورغم شحّ الألقاب، ظهرت أسماءٌ ممتازةٌ في صفوف الأتليتي أبرزها البرتغالي باولو فوتري والمكسيكي هوغو سانشيز، ومن بعدهما ظهر الجيل الذي حقّق الثنائيّة المحليّة منتصف التسعينيات، بقيادة المدرب الصربي رادومير أنتيتش، وتواجد نجومٍ كلويس كامينيرو، دييغو سيميوني، كيكو، والحارس خوسيه مولينا.
أمّا في الألفيّة الجديدة، فقد تعاقبت أسماءٌ كثيرةٌ على صفوف النادي، أبرزها: سيرخيو أغويرو، دييغو فورلان، دافيد دي خيا، راداميل فالكاو، دييغو، دافيد فيا، دييغو كوستا، أردا توران، وابن النادي فيرناندو توريس الذي عاد إلى بيته القديم العام الماضي، ليلتحق بكتيبة الأتليتي الحالية إلى جانب النجوم: أوبلاك، خوان فران، غودين، خيمينيز، فيليبي، غابي، تياغو، كوكي، كاراسكو، والهدّاف الرائع غريزمان.
حقبة سيميوني الحالية
دييغو سيميوني المدرّب الحالي للأتليتي
في أواخر عام 2011، قام رئيس نادي الأتليتي إنريكي سيريزو بخطوةٍ جريئةٍ سيذكرها له أبناء النادي بكلّ خير، بتعيينه الآرجنتيني دييغو سيميوني كمدرّبٍ للفريق خلفًا للمُقال غريغوريو مانزانو، ووقتها لم يكن اللاعب السابق المولود في بوينس آيرس عام 1970 يمتلك الكثير في تاريخه كمدرّب، فسجلّه التدريبي في أوروبا اقتصر على تدريب كاتانيا الإيطالي المتواضع لفترةٍ وجيزة، وقبلها درّب عدّة أنديةٍ آرجنتينيّةٍ أشهرها إستوديانتس وريفر بلايت، الذين أحرز معهما لقب الدوري الآرجنتيني، أمّا سجله كلاعبٍ فيزخر بالكثير من التجارب والنجاحات، أهمّها مع لاتسيو والإنتر الإيطاليين، ومع الأتليتي ذاته حيث كان أحد صانعي إنجاز الثنائيّة المحليّة عام 1996، كما يتضمّن سجلّه كلاعبٍ مع منتخب التانغو أكثر من 100 مباراة دوليّة، حقّق فيها بطولة كوبا أمريكا عامي 1991 و1993.
باكورة نجاحات سيميوني التدريبيّة مع الأتليتي كانت في أوّل مواسمه، بإحرازه كأسي اليورو ليغ والسوبر الأوروبي عام 2012، قبل أن يضيف لقب كأس إسبانيا في موسمه الثاني، وليشهد موسمه الثالث أفضل إنجازاته، حين قاد كتيبة الروخو بلانكوس لانتزاع لقب الليغا من العملاقين البارسا والريال، كما نجح في قيادتهم إلى نهائي الشامبيونز ليغ، ليتمّ اختياره حينها كثالث أفضل مدرّب في العالم عن عام 2014.
في الموسم الماضي ورغم عدم تحقيقه للألقاب، إلّا أنّه كرّس فريقه كقطبٍ ثالثٍ للكرة الإسبانيّة، بإنهائه الليغا في المركز الثالث، إضافةً إلى بلوغه ربع نهائي دوري أبطال أوروبا حيث خسر بصعوبةٍ أمام غريمه وابن مدينته الريال.
وفي الموسم الحالي، يسير الأتليتي بخطىً ثابتةٍ نحو إعادة إنجاز الموسم ما قبل الماضي، فهو ينفرد بوصافة الليغا بفارق 3 نقاطٍ فقط عن البارسا المتصدّر، كما استطاع تصدّر مجموعته في الشامبيونز ليغ لينتظر مواجهة أيندهوفن الهولندي في ثمن النهائي، وهي إنجازاتٌ لم تعد تشكّل مفاجأةً للمتتبّعين، في ظلّ التشكيلة القويّة المتماسكة التي بناها سيميوني على مدى مواسمه ال4، والتي لم تتأثّر برحيل نجمٍ أو أكثر عن صفوف النادي، فروح الفريق وعقلية الفوز هي السلاح الأمضى للأتليتي في طريقه نحو بلوغ قمّة إسبانيا وأوروبا.