قبل عدة سنوات، وعندما اندلعت أزمة مكتب الإرشاد الشهيرة، التي تزامن فيها قرار الأستاذ محمد مهدي عاكف بعدم التجديد بعد أن قضى ولايتَيْ عهد كمرشد عام للإخوان المسلمين، مع أزمة تصعيد الدكتور عصام العريان، بعد وفاة عضو مكتب الإرشاد وقتها، الدكتور محمد هلال؛ طفا إلى السطح حديث مهم عن وضع جماعة الإخوان المسلمين على المستوى العالمي، إذا ما تفاقمت أزمة المكتب في حينه، باعتبار القيمة الروحية والتنظيمية والسياسية للإخوان المسلمين في مصر.
منذ البداية، وبعض ذلك منصوص عليه في اللائحتَيْن العامة والعالمية للإخوان المسلمين؛ فإن لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وضعية خاصة فوق قُطْرية، ويبدو ذلك في أن المرشد العام للجماعة دائمًا ما يكون من مصر، كما أن مكتب الإرشاد في مصر يشكِّل أكثر من نصف عدد أعضاء مكتب الإرشاد العام، الدولي، كما أن لفضيلة المرشد نائبين، أو أكثر، يخصص بعضهم للإخوان في مصر، وواحد فقط للإخوان في الخارج.
هذه المركزية لها أوجهها الإيجابية بطبيعة الحال؛ حيث إنها سمحت لتنظيم مصر في العقود الماضية باستيعاب الكثير من الأزمات التي طرأت على الجماعة، أو في بعض التنظيمات القُطْرية كما في حالة أزمة إخوان الجزائر في العام 2006/2007م، وما بعده، وكان لمصر الكلمة الفصل في أزمة إخوان الأردن، سواء على المستوى الداخلي، أو مع حركة “حماس”، بسبب انفصال تنظيم إخوان الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، عن تنظيم الإخوان في الأردن؛ حيث نشب خلاف لائحي على تبعية مخيمات اللجوء الفلسطينية في الأردن، ومكاتب الخليج الأربعة الخاصة بفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1967م.
أضف لذلك، أن تنظيم الإخوان في مصر، كان له القول الفصل في التنظيمات والجماعات التي تمثل الإخوان المسلمين في أقطارها، وهو ما تم في حالة أزمة انشقاق حسن الترابي في السودان، في مطلع التسعينات، وعبد المجيد المناصرة في الجزائر، في العقد الأول من الألفية الجديدة، وكذلك أزمة جمعية الإصلاح الاجتماعي في الصومال، في 2006م؛ حيث قرر مكتب الإرشاد في مصر، من هو التنظيم الذي يمثل الإخوان في البلدان الثلاثة، وهو من اعتمد استقلال “حماس” كتنظيم للإخوان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، كما تقدم.
خلفية تاريخية وفكرية لا بد منها
كان لهذه المركزية الروحية والتنظيمية لتنظيم الإخوان في مصر، دورٌ شديد الأهمية في توحيد الإخوان المسلمين على مستوى العالم، من خلال البرامج التربوية الموحدة، وتوحيد الرؤى من المواقف والقضايا المستجدة، وغير ذلك من الأمور.
وكان من بين أهم هذه الأمور، هو حسم إخوان مصر لمسألة استخدام العنف، أو اللجوء إلى قوى خارجية، في عملية التغيير والإصلاح على المستوى الداخلي، ولذلك كان موقف إخوان مصر حاسمًا في فصل مواقف وسياسات إخوان سوريا، والكيفية التي كانوا يتعاطون بها مع المعارضة التي كانت تسعى للإطاحة بالنظام البعثي الأسدي، إبان حكم حافظ الأسد، ثم في فترة بشار الأسد، ولكن مع قدر من المرونة التي تسمح بها ظروف التنظيم، من خلال مبدأ أن أهل مكة أدرى بشعابها.
ووفق هذا المبدأ، كان يُترَك للتنظيمات القُطرية الإخوانية مجالاً للحركة الحرة في تحديد مواقفهم من الأمور التي تُعرَض عليهم في بلدانهم، ولكن وفق ثوابت الجماعة الأم، فلا يجوز – مثلاً – كان أن يتبنى تنظيم معبِّر عن الإخوان في بلده، موقفًا مؤيدًا للتطبيع مع الكيان الصهيوني على سبيل المثال.
أزمة مكتب الإرشاد في 2008م: بداية الحديث
المهم أنه قد ظهرت تساؤلات عدة في هذا الصدد، خلال أزمة خلافة الأستاذ محمد مهدي عاكف، في العامَيْن 2008/ 2009م، وفي حينه، أكد البعض على أن هذه الأدوار ذات الحساسية والخطورة الكبيرتَيْن لتنظيم الإخوان في مصر، يجب أن تخضع لحسابات أخرى، خلافًا لروحية وأبوية تنظيم مصر – لو صح التعبير – وأنها على تأثيرها على الجماعة والدعوة في العالم بأسره؛ فإنها يجب أن تكون في إطار أكثر اتساعًا في هويته، وأكثر مؤسسية.
ولقد طُرحت في وقتها بعض الأسماء غير المصرية لخلافة الأستاذ عاكف، مثل الأستاذ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة التونسية، ولكن تم حسم أزمة خلافة الأستاذ عاكف، وتشكيل مكتب الإرشاد من خلال انتخابات جديدة وفق اللائحتَيْن العامة والعالمية للجماعة.
إلا أن هذا الوضع، حاكمية ومركزية التنظيم المصري في حراك الجماعة القُطْري والعالمي، كان له جانبه السلبي – ككل شيء في واقع الأمر في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، والسياسة من الإنسانيات بالمعنى العلمي للكلمة – حيث إنه جعل الجماعة – ككل – تكون عرضة لأية هزات تتعرض لها الجماعة في مصر.
تجدد مأزق مركزية التنظيم الأم بعد الثورة
وقد يبدو أن هذا الجدل قد تجدد بعد سلسلة الأزمات التي ضربت تنظيم مصر في العامَيْن ونصف الأخيرة، سواء حالة التشتيت التنظيمية التي جرت، أو الأزمة الداخلية التي أدت إلى انشقاق الجماعة في مصر إلى أكثر من جناح؛ إلا أن هذه الرؤية خاطئة؛ حيث إن هذا الجدل قد تجدد بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م في مصر، وثورات الربيع العربي، مباشرةً، ولكنه ظل حبيس المكاتب الإدارية واللقاءات الخاصة، وإن تم تداول بعضه في وسائل الإعلام.
كانت الخيارات التي تبنتها الجماعة في مصر، في مرحلة ما بعد الثورة، دور في تداول بعض الهمسات في داخل التنظيمات الإخوانية في الخارج، وخصوصًا في البلدان ذات الطبيعة المجتمعية الأقرب إلى فكرة الثورة الراديكالية حتى حصول التغيير، ولو وصل الأمر إلى مستوى العنف المسلح، وتوظيف قوى إقليمية ودولية في الأمر؛ كما تم في ليبيا وسوريا.
فعلى العكس، أخذ إخوان مصر بمنظومة من السياسات التي أبقت على النظام القديم، من دون تطهيره، بما في ذلك مؤسسات الدولة الأمنية والإعلامية والسيادية، وإدخال المجلس العسكري القديم في منظومة إدارة المرحلة الانتقالية بعد الثورة، مع الحديث عن إغلاق ملف شهداء الثورة، بالحديث عن دِيَّات لذوي الشهداء، من دون محاكمات ثورية ناجزة تحقق العدالة اللازمة لأي استقرار، بالإضافة إلى الخطو السريع في انتخابات مجلسَيْ الشعب والشورى، والرئاسة، بخلاف كل “النصائح” التي وجهها الأقرباء في الداخل والخارج.
وكان التوتر مكتومًا بسبب هذه السياسات التي لم ترض السياسيين والراديكاليين على حد سواء في الإخوان في الدول العربية، وخرج إلى العلن في تصريحات أطلقها الغنوشي بعد زيارة قام بها إلى مصر عقب ثورتَيْ مصر وتونس، وتحديدًا في العام 2012م، عندما رأى أن سلوك الإخوان في مصر قد تحول من مشاركة إلى مغالبة على حساب القوى الثورية الأخرى، وبمساعدة المجلس العسكري في ذلك الحين.
هنا بدأ أول افتراق بين إخوان مصر وبين الإخوان في الدول العربية الأخرى التي شهدت أو “كادت” تشهد ثورات وانتفاضات شعبية، مثل تونس والمغرب وليبيا وسوريا.
ففي سوريا انخرط الإخوان – على مستوى الصف وسط غموض في موقف الجماعة المؤسسية – في العمل العسكري ضد بشار، وكذلك تم في ليبيا، وفي ليبيا كذلك، لم يقبل الإخوان هناك – خلافًا لما جرى في مصر – تسليم السلطة طواعية إلى نظام يحافظ على أو يتضمن بقايا من نظام العقيد معمر القذافي.
في المغرب وتونس، كان العكس، وكان هذا العكس مخالفًا بدوره لموقف الإخوان في مصر من العملية السياسية بعد ثورات الربيع العربي؛ حيث قَبِلَ الإخوان في تونس ممثلين في حركة النهضة، وفي المغرب، ممثلين في حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، ذراعها السياسي أو الحزبي، مبدأ المشاركة، والقنوع بنتائج مرحلية، حتى لا يتعرضوا إلى ممانعة قد تقتلعهم من جذورهم كما حدث في حالة الإخوان في مصر.
إذًا، الإخوان في مصر بعد الثورة لم يقدموا النموذج الجامع الجذاب للمكون الإخواني الآخر في الدول العربية، خصوصًا في دول الثورات، سواء الأكثر ميلاً إلى المهادنة والموائمة، أو الأكثر ميلاً لفكرة العنف من أصحاب المدرسة الراديكالية في التغيير المسلح؛ ردًّا على عنف الأنظمة هناك، بحق الثورة والثوار، كما جرى في ليبيا وفي سوريا من جرائم لم تزل مستمرة للآن.
التشتت التنظيمي أم أزمة التنظيم؟
تفاقم الحديث عن ضرورة كسر مركزية الإخوان في مصر على مستوى الجماعة عالميًّا، بعد الضربة القاصمة التي تلقتها الجماعة بعد الانقلاب وفض اعتصامَيْ رابعة والنهضة بالقوة المسلحة، وما تلا ذلك من حسم عسكري وأمني من جانب النظام الحالي للخصومة بينه وبين الجماعة؛ حيث إن الإخوان في مصر لم يعد لديهم تنظيم معلن يعمل على ممارسة أدواره السابقة قبل الانقلاب، وقبل الثورات العربية، على مستوى الجماعة في العالم العربي والإسلامي، وفي العالم الواسع من خلفه، ولاسيما في الأمريكتَيْن وأوروبا الغربية.
ففي هذه المناطق؛ فإن الأقليات المسلمة، والجمعيات الإسلامية التي أسستها الدعوة في أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية، هي الأكثر احتياجًا للجماعة الأم في مصر، وللإخوان والمنظمات الإسلامية بشكل عام في العالم الإسلامي، تربويًّا وفكريًّا وتنظيميًّا، بسبب ظروفهم كأقليات تواجه أعنف صور العنصرية والاضطهاد.
ولكن في تلك المرحلة كانت الأزمة التي يواجهها التنظيم الأم في مصر، وحجم العنف والقسوة الوحشية المستخدمة ضدهم، تمنع – في المستوى الأخلاقي – الكثيرين من الحديث في هذا الأمر، حتى لا يُساء فهم الأمر على أن البعض في التنظيم الدولي يعمل على استغلال أزمة دموية مثل هذه، لتحقيق مطامع شخصية.
إلا أن ما قاد إلى الحديث الصريح التام حول ضرورة الخروج من مركزية التنظيم الأم في مصر، هو الأزمة الداخلية، والطريقة التي تم التعامل بها من جانب أطرافها، معها على المستوى التنظيمي والإعلامي؛ حيث إن ما تم – وتم تفصيله في موضوعات سابقة – قد أذى الصورة الذهنية للإخوان المسلمين كدعوة وفكرة وجماعة، أمام الجمهور العام، في العالم العربي والإسلامي بالكامل، وكان له أثره الكبير على العمل الاحتجاجي والثوري في مصر نفسها.
ويضع البعض في هذا الإطار إعلان الإخوان المسلمين في الأردن – الجناح المعترف به في الجماعة الأم، وليس جناح عبد المجيد الذنيبات المنشق عنه، وأسس جماعة أخرى بنفس الاسم قبل نحو عام – عن انفصاله عن الإخوان في مصر، والجماعة الأم.
ولكن هذا الأمر يعوزه بعض الدقة في التوصيف، لأن الحديث الإعلامي قد ضلل وشوشر على ما تم، بحيث جرى ربطٌ خاطئ بين الأمرَيْن؛ إعلان الإخوان في الأردن، والحديث الجاري عن كسر مركزية التنظيم المصري.
فما تم على وجه الدقة، هو تعديل اللائحة الداخلية للجماعة هناك، ومن بين ذلك أنه قد تم فصلها عن الجماعة الأم، التي هي جماعة الإخوان المسلمين في العالم، بشكل عام، فيما لم يأتِ أي مسؤول داخل الجماعة في الأردن على ذكر إخوان مصر بكلمة واحدة، ولا التعديلات كذلك أتت على ذكر إخوان مصر.
التضليل الذي تم في الأمر، أساسه تصريحات نقلها عدة مواقع إخبارية، بعدما تم نقل تصريحات زكي بني إرشيد، نائب المراقب العام لإخوان الأردن، حول التعديلات التي تمت، ثم تم نسبت مواقع عدة تصريحات أخرى له بها موضوع الانفصال عن إخوان مصر، لكن في حقيقة الأمر هذه التصريحات ليست إلا عبارة عن أقوال مرسلة على لسان مصدر مجهَّل لم يتم ذكر اسمه أصلاً في المواد الخبرية اتي تناولت الموضوع.
وتعليقا على ذلك، صرح مصدر في تنظيم الإخوان المصريين للكاتب بأن الطرف المسؤول عن هذا الخلط، هو نفسه الذي سرَّب أسرار ووثائق اجتماعات مجلس شورى الإخوان التي عُقدت في تركيا في مطلع العام 2015م، وتابع المصدر الذي ينتمي إلى أحد الجناحين المتصارعين على قيادة التنظيم المصري إن تلك التسريبات “كانت باعثًا لقيادة الجماعة في مصر، ممثلة في الدكتور محمود عزت، القائم بأعمال المرشد العام للإخوان المسلمين، والدكتور محمود حسين، الأمين العام لإخوان مصر، على فتح تحقيقات قادت إلى أن الجناح المعارض لها، هو من سرَّب هذه الوثائق، وتفاصيل الاجتماعات، وأشارت – هذه التحقيقات – إلى دورٍ ما لمحمد منتصر، في ذلك مما قاد إلى قرار إبعاده من منصب المتحدث باسم الإخوان المسلمين في مصر.”
ولذلك، فمن الأجدر بالصواب عدم اختزال الموقف الأخير لإخوان الأردن في قضية كسر مركزية الإخوان في مصر؛ أو الانقسام الحاصل في الجماعة، حيث أن الأمر مرتبط بعدد من الأمور المعقدة التي تخص إخوان الأردن، من بينها العامل المصري طبعًا، لكن ليس بهذه الصورة التي يصورها البعض؛ حيث جاءت خطوة الفصل من أجل تفادي ما جرى في مصر بحظر الجماعة في الأردن من جانب القضاء، في ظل التعاون الوثيق بين النظامَيْن المصري والأردني، ولتفادي اتهام دائم موجه للإخوان وتنظيماتهم القُطْرية في كل زمان ومكان، وهو أنهم يعملون في إطار إستراتيجية “التنظيم الدولي”، وليس لمصلحة الأوطان.
البعض من جهةٍ أخرى يضعون موقف حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، من النظام في مصر، في سياق – كذلك – الانفصال عن مواقف الإخوان في مصر؛ حيث إن الاتصالات بين “حماس” وبين الأجهزة المسؤولة عن الشأن الفلسطيني في مصر، وعلى رأسها المخابرات العامة، حتى بعد الانقلاب وفض رابعة والنهضة، وسط تقارير عدة تشير إلى اعتراض القيادات السياسية لحركة “حماس” على الكيفية التي أدار بها الإخوان في مصر، المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير.
بطبيعة الحال؛ فإن التطورات الأخيرة في مصر، في العالم العربي والإسلامي، وتبدل الظروف إزاء العرب والمسلمين في أوروبا؛ سوف يكون لها أكبر الأثر على جماعة الإخوان المسلمين بشكل عام، بما في ذلك طبيعة التفكير في التحديات القائمة، وسُبُل التعامل معها، وكيفية إدارة الموقف الراهن، على مختلف المستويات، السياسية والتنظيمية.
وإن هذه التطورات – كذلك – سوف يكون لها أبلغ الأدوار في تجديد تفكير الإخوان تجاه أحوال الجماعة التنظيمية، بعد أن أثبتت تجارب العقود الأخيرة، أن المركزية الشديدة، وما ينبني عليها من قرارات ومواقف، إنما يجب العمل على إيجاد تعديلات – ولو مؤلمة – في بنية الجماعة التنظيمية والفكرية، بما في ذلك اللائحة، مهما كان الثمن، وإلا فإن البديل هو تشرذم الجماعة التي ظلت إلى وقت قريب، ووسط عواصف داخلية، إقليمية، ودولية مروعة، دائمًا جسدًا واحدًا.
وتبقى نقطة أخيرة، وهي أن الكاتب عندما قدم هذه السرديات؛ فإنه لا يقدم موقفًا خاصًّا أو شخصيًّا، يتبنى وجهة نظر طرف على حساب آخر، وإنما حرص بحيادية الباحث وموضوعيته، على ذكر الحقائق المحيطة بالأمور التي يناقشها كافة، والتأكيد على صحة المعلومات التي يوردها، ونسبتها إلى مصدرها، أما القناعات؛ فهي في علم الله عز وجل، وهو الذي يحاسبنا على ضمائرنا فيما نقول ونكتب.. وفيما نفكر!