بعد الأحاديث الإعلامية عن تدخل سعودي بري وشيك في سوريا، ثم الإعلان عن إرسال طائرات سعودية مقاتلة إلى قاعدة إنجيرليك العسكرية، أتى القصف المدفعي التركي لمواقع قوات حماية الشعب (الكردية) في محيط اعزاز في حلب ليرفع من وتيرة النقاش حول تدخل عسكري تركي – سعودي مفترض وقريب في سوريا.
لا شك أن سرعة التطورات وحالة السيولة في المنطقة تجعلان من أي محاولة للتحليل والاستشراف سيرًا في حقل من الألغام وكلَّ رسم لسيناريوهات مستقبلية ضربًا من الكهانة، بيد أن العودة للخطوط العريضة من البديهيات قد تفيدنا في رسم الصورة الأقرب للفهم والتحليل والتقدير.
من المسلم به أن أي عمل سياسي و/ أو عسكري هو نتاج تفاعل عدد من العوامل المتشابكة، في مقدمتها الإرادة السياسية والقدرات والسياق وتطورات الأحداث وموازين القوى والتوازنات الإقليمية والدولية وغيرها، وعليه فإننا نقول إن التدخل الروسي العسكري في سوريا في سبتمبر الماضي قد ضيق هامش المناورة العسكرية – الإستراتيجية التركية فيها إلى أبعد الحدود، وإن التوافق الأمريكي – الروسي على خارطة طريق للحل – بغض النظر عن فرص نجاحها – قد همّش كثيرًا القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة، وإن التطورات في كل من اليمن وجنوب شرقي تركيا قد ألهت كلًا من السعودية وتركيا بملفات داخلية شائكة ومتفاعلة وقلصت من إمكاناتهما للمبادرة خارج الحدود.
من جهة أخرى فإن أي مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا ستكون مغامرة خاسرة في الميزان العسكري والإستراتيجي سيما في ظل الموقف الأمريكي – شمال الأطلسي المتحفظ، فضلًا عن أنه قد يرقى فعليًا لدرجة الاستدراج والتوريط أكثر من كونه مبادرة فاعلة ومؤثرة.
هذا الاستهلال لا بد منه برأيي لوضع الأمور في نصابها، ردًا على الأحلام الوردية التي يعيشها أغلب العوام والكثير من المهتمين بفعل ما يروجه بعض الكتاب والإعلاميين من أخبار وسيناريوهات مفترضة، بينما الواقع يقول – مثلًا – إن أي تدخل بري عسكري (سعودي و/ أو تركي) دفاعًا عن المعارضة السورية وفي مواجهة النظام ليست واردة بالمطلق في ظل المعطيات الحالية، وهو ما أكده المسؤولون السعوديون والأتراك على حد سواء مؤخرًا.
إذن، بعد كل التطورات المذكورة، وبعد مسار جنيف 3 ومآلاته وخصوصًا التغول الروسي مؤخرًا ودعم موسكو للنظام والفصائل الكردية المسلحة على جبهة حلب لفك ارتباطها الجغرافي واللوجستي بتركيا، غدت كل من أنقرة والرياض في موقع الدفاع لا الهجوم، لمحاولة إيقاف تدهور الأوضاع وانعكاساتها عليهما، ولتقليل الخسائر قدر الإمكان.
إن أي تدخل بري من تركيا أو السعودية لا يمكن أن يكون منفردًا دون غطاء دولي عبر قرار من مجلس الأمن، أو على الأقل تحت سقف التحالف الدولي، وهو ما لا يمكن تصور وقوعه حاليًا.
وبالتالي فكل ما يجري الحديث عنه بالنسبة للرياض هو إرسال عدد من طائراتها المقاتلة للمشاركة مع طائرات التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة، وهما سقف وهدف بعيدان جدًا نظريًا وعمليًا عما رُوِّج له بخصوص التدخل السعودي المفترض، من جهة أخرى، فإن من عجز عن مد الثوار بأسلحة نوعية – مضادات الطائرات تحديدًا – بسبب الفيتو الأمريكي سيكون أعجز عن التدخل العسكري البري والمواجهة المباشرة، سيما في ظل المعارضة الأمريكية.
أما بالنسبة لتركيا، فإنها مهتمة بالقضية السورية لعدة اعتبارات لا مجال لحصرها هنا، أهمها وأخطرها في الوقت الحالي هو المشروع السياسي الكردي على حدودها الجنوبية، حيث تحاول قوات حماية الشعب – تحت لافتة قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل هي معظمها – ربط المناطق التي تسيطر عليها في الشرق (مركزها عين العرب/ كوباني) بتلك الموجودة في الغرب (مركزها عفرين) ثم مد هذا الممر حتى البحر المتوسط ليكون نواة لدولة كردية في الشمال السوري، وهذا هو المشروع الذي تعمل عليه روسيا حاليًا دعمًا وتسليحًا، لمعاقبة تركيا وتحجيم دورها، من خلال عزلها عن المعارضة في حلب وريفها بالقوات الكردية، وبضوء أخضر أمريكي يعلو وينخفض تكتيكيًا حسب الظروف، لكنه ثابت ومستمر في إطاره العام.
وعليه، فإن أولوية تركيا وما يمكنها فعله الآن، وبعد كل هذا الانتظار وكل هذه الإخفاقات الإستراتيجية وخاصة بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية، ليس متعلقًا بدعم المعارضة السورية لتنتصر على النظام ولا بمبادرة لمواجهة الروس، بل هي مرتبطة بشكل أساسي ومباشر بحماية أمنها القومي وخطوطه الحمراء على الحدود، وهنا تقدم تركيا لحلفائها قبل خصومها خطوطًا حمرًا ثلاثة:
1- تقدم القوات الكردية المسلحة غرب الفرات، أو نحو الشرق من عفرين كما فعلت مؤخرًا، وهو المعيار الأهم والأكثر حزمًا بالنسبة لأنقرة بطبيعة الحال.
2- أمن حدودها، الذي تعتبر أنه مهدد بشكل مقصود من روسيا والنظام عبر التسبب بموجات جديدة وكبيرة من اللاجئين.
3- وجود حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) أو تنظيم الدولة على حدودها.
إن سيطرة الفصائل الكردية على مناطق المعارضة في حلب ستعني إرهاصات دويلة كردية عازلة لها عن سوريا ومعادية لها على حدودها، وقد بدأت إشارات ذلك فعليًا من خلال انتقال بعض قيادات حزب العمال الكردستاني من معسكرات جبال قنديل إلى عين العرب (كوباني)، وقتال عدد كبير من مقاتلي الحزب إلى جانب الفصائل الكردية في سوريا، فضلًا عن انتقال الأسلحة الروسية والأمريكية من سوريا إلى الداخل التركي لأيدي مسلحي حزب العمال في المدن التركية مؤخرًا.
ولذا، فرفض تركيا الحاسم لفتح جبهة جديدة لحزب العمال ضدها من الأراضي السورية هو الذي دفعها لاستخدام المدفعية لمحاولة منع تلك القوات من التقدم نحو اعزاز، وهو تحرك يأتي في الوقت بدل الضائع، أولًا لأن المدفعية تركت وحيدة دون غطاء جوي بسبب السيطرة الروسية على الأجواء، وثانيًا لأن القصف المدفعي لم يستطع – ولم يكن ليستطيع – منع تلك القوات من السيطرة على بلدة تل رفعت المهمة في ريف حلب.
وعليه، فإن تدخل البلدين المفترض في سوريا دفاعي في المقام الأول، وسياسي في المقام الثاني، من حيث توظيفه في الضغط لتعديل كفة الموازين المائلة لمصلحة روسيا بشكل واضح ومختل.
يطرح البعض سردية تتحدث عن المشاركة السعودية – التركية تحت غطاء التحالف ضد تنظيم الدولة ثم التفلت منه لمهاجمة النظام ودعم المعارضة، وهو سيناريو خيالي يفترض إرادة غير موجودة في هذا السياق – خاصة لدى الرياض – وإمكاناتٍ مفتــَقرٌ إليها، فكما أن أي تدخل بري يحتاج لقرار أممي ومشاركة دولية فإن استقلالية المقاتلات عن رؤية وخطة وإعدادات التحالف أيضًا دونها عقبات ميدانية ولوجستية وعسكرية كبيرة لا يمكن تخطيها بسهولة.
إذن، هل لن يتدخل البلدان أبدًا في سوريا إلا بهذا المستوى الدفاعي الخجول؟
أعتقد أن المعطيات تقول بهذا على المدى المنظور، بيد أن التدخل، في ظل السيولة وتدحرج الأحداث، يبقى خيارًا واردًا دائمًا، وقد يمهد له أحد أمرين:
الأول، تخطي الحدود التي يمكن لأنقرة السكوت عنها في المشروع الكردي، وبالتالي اضطرارها للتدخل مجبرة على أن تتحمل تبعات ذلك، وهي تبعات ليست سهلة أبدًا في ظل التعقيدات الحالية والتوقعات المستقبلية، وقد تكون سيطرة الفصائل الكردية على تل رفعت إحدى مقدمات هذا السيناريو.
الثاني، الضوء الأخضر الأمريكي لكلا البلدين أو أحدهما لدخول سوريا بمستوى معين، لكن حظ هذا السيناريو ليس وافرًا فضلًا عن أن حصوله سيعني التوريط أكثر منه الدعم والسماح، بما يخدم الإستراتيجية الأمريكية بتوريط الجميع وتخسير الجميع وضرب الجميع بعضهم ببعض ليعودوا للشروط الأمريكية دون إراقة دم جندي أمريكي واحد.
إن ما يحتاجه البلدان، تركيا والمملكة، ويمكنهما فعلًا إحداث الفرق بواسطته ثلاثة أمور كتبناها سابقًا ونعيدها:
1- رفع مستوى التنسيق بينهما لحالة تحالف إستراتيجي “حقيقي” في الخطة والتنفيذ، بعيدًا عن حالة التنافس وعدم الثقة المبطنة ضمنًا في التعامل، على الأقل مع الملف السوري وحاليًا.
2- توحيد المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، لتنطق بلسان واحد وتضرب ببندقية موحدة.
3- خرق السقف الأمريكي بإيصال أسلحة نوعية وتحديدًا مضادات الطائرات للمعارضة السورية، مما يعينها على تحييد سلاح الطيران جزئيًا، دعمًا لصمودها وحماية لداعميها في نهاية المطاف.
إن هذه الشروط الثلاثة أسهل كثيرًا من التدخل العسكري المباشر، وقد تغني عنه فعلًا، فضلًا عن أنها أسرع تنفيذًا وحصدًا للنتائج بسبب متطلباتها اللوجسيتية القليلة جدًا مقارنة مع التدخل العسكري، لكنها، أي الشروط الثلاثة، يجب أن تكون مسبوقة برؤية واضحة وعزيمة صادقة لإنفاذ هذا السيناريو، لا الاكتفاء بالتهديد والمناورة به فقط كما كان الحال في السابق وحتى الآن.
إن سياسة التفريق بين الفصائل، وإغراء بعضها ببعض، وتمزيق صفها، وتشجيع اقتتالها الداخلي، فضلًا عن السلاح المسيس والمشروط وفق رؤى غير متوافقة مع رؤى الثورة والشعب ومقتصرة على مواجهة دولة بعينها أو فرد بذاته، كلها عوامل سادت سابقًا وتضعف حاليًا الثقة بالوعود العنترية والتصريحات الرنانة التي نسمعها بين الساعة والأخرى.
أمر أخير يجب ذكره وعدم إغفال خطورته، وهو أن التدخل العسكري المفترض – بريًا أو جويًا، حاليًا أو لاحقًا – ينبغي أن يسير على هدى ووفق إستراتيجية واضحة المعالم ومتضمنة لكافة العواقب والسيناريوهات البديلة، مع ضمانات ذاتية – وليس من واشنطن والمجتمع الدولي – لإنفاذه حتى يبلغ أهدافه النهائية، وإلا أصبح مجرد خطوة تفصيلية تخدم سيناريو التقسيم النهائي أكثر من خدمتها للثورة والشعب وأهدافهما، من خلال السماح – الأمريكي – بتدخل إلى مستوى معين ضمن تدخلات دول أخرى تعمل على حماية وتثبيت الحدود العملية الحالية بين القوى المختلفة: النظام والفصائل الكردية والمعارضة “المعتدلة” وتنظيم الدولة، وهو سيناريو التقسيم الفعلي ووقف إطلاق النار اعتمادًا على حدوده، وتمهيدًا للتقسيم الرسمي لاحقًا، أو ربما حتى دون الحاجة إليه.
إن التدخل العسكري – الذي رفضناه ابتداءً ومبدءًا – بات ضرورة وحاجة ماسة كي لا تضيع سوريا إلى الأبد (شعار مناصري الأسد) ويقنن الاحتلال الروسي بها، وتشرَّع المجازر اليومية أكثر مما هي عليه اليوم، وتخسر الأطراف الأخرى كافة وفي مقدمتها الشعب السوري ثم الثلاثي تركيا – السعودية وقطر، ولذلك قلنا ونقول إن نصرتهم اليوم للمعارضة في وجه تغول النظام والروس قد تكون الفرصة السانحة الأخيرة للدفاع عن مصالحهم قبل أن تكون التزامًا أخلاقيًا أو مبدئيًا منهم تجاه الشعب السوري، وقبل أن يندموا ولات ساعة مندم.