كان ذلك منذ أسبوعين أو أكثر قليلا… ظهر رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين في خطاب مطول …أراد الرجل من خلال ظهوره هذا ان ينفي عن نفسه تهما كثيرة أطلقها أعدائه و خصومه على حد سواء فيها ما يتعلق بكونه محسوبا على الإسلاميين بمختلف تياراتهم و فيها ما يتعلق بتعطيل الحوار السياسي برعاية أممية و فيها ما هو مرتبط بكيفية تسييره لشؤون المنطقة الغربية و هي التي تعاني حالة إنهاك أمني و معيشي…حاول أبو سهمين و هو الذي قاد المؤتمر الوطني العام في فترات حالكة جدا و طوال أكثر من خمسين دقيقة أن يبعث برسائل قوة للداخل و الخارج أهم هذه الرسائل أنه لايزال ممسكا بخيوط اللعبة في المنطقة الغربية و نفى خلال كلمته هذه كل ما قيل في شأنه حول تعطيل حوار الصخيرات…دفع الرجل بكل ما يملك من براهين و دعا من يشككون في نزاهته أن يتقدّموا و يتقدم هو و معه كل مسؤولي الدولة وأعضاء المؤتمر الوطني الى القضاء ليبت في ذمتهم المالية…حاول أبو سهمين أن يظهر بمظهر القوي لكنه على العكس من ذلك بدا ضعيفا و مُنهكًا رغم ما رافق الساعات التي تلت هذا الخطاب من استعراض لقوات الشرطة بسياراتها وأسلحتها في العاصمة طرابلس…في مساء نفس اليوم ظهر عضو المؤتمر الوطني عبد الرحمان السويحلي و هو المرشّح لرئاسة المجلس الأعلى للدولة ( هيئة استشارية عليا حسب اتفاق الصخيرات ) و حذّر أبو سهمين من أن قعقعة السلاح لا يمكن أن تخدم الحل في ليبيا …راهن أبو سهمين على نزاهته المالية و على إيمانه العميق بالثورة و على وطنيته و حسن نواياه كي تمهّد له طريق الحل السياسي لكن مسالك السياسة لا تتطلب ربما و خاصة في السياق الليبي الحالي نوايا حسنة بقدر ما تتطلب خيارات موفقة و ناجزة متوفرة على شروط التحقق و الديمومة.
يجد أبو سهمين نفسه في موقف صعب خاصة أن الاتفاق الليبي الليبي الذي راهن عليه ضاربا عرض الحائط باتفاق الصخيرات تعثر و تبعثرت أوراقه بعد أن قام عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي و نظيره في هذا الاتفاق بالإشراف على جلسة البرلمان التي صادقت على اتفاق الصخيرات كما سبق لأبو سهمين أن رفض في ثلاث مناسبات لقاء رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج رغم إصرار الأخير على ذلك
ما قام به عقيلة صالح من تجاهل لاتفاق مالطا ( الليبي-الليبي ) لم يكن إلا طعنة اضافية…يتلقاها أبو سهمين من نظيره في الجهة الشرقية …ربما ليس عقيلة صالح أكثر نزاهة و وطنية من أبو سهمين و هو الّذي وفر الغطاء السياسي لجرائم حفتر في بنغازي إلا أنه بالتأكيد أكثر كياسة و قدرة على المناورة في دروب الحل الليبي و يظهر ذلك من خلال سياسة مجلس النواب في التعاطي مع مجريات الأحداث إذ استدرج عقيلة صالح النواب المقاطعين للبرلمان ليأدوا اليمين أعضاءً جددًا مما يعطي شرعية أكبر لقررات البرلمان و مما يرجّح كفة الاتفاق السياسي على حساب حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بعد ذلك صادق البرلمان على الاتفاق السياسي برعاية أممية و هو ما سيجنبه الحرج الأخلاقي و حتى العقوبات الدولية وبعد التصويت على الاتفاق السياسي برمته صوت البرلمان على تجميد المادة الثامنة من الاتفاق السياسي و هي المادة التي تقضي بشغور المناصب القيادية في الجيش رغم أن الاتفاق السياسي لا يعطي البرلمان الحق في تجميد أيٍ من مواد الاتفاق و مع ذلك أصر البرلمان على مطلبه بتجميد هذه المادة من ثمة صوت البرلمان على حل لجنة الحوار السياسي عن المجلس التي يرأسها النائب محمد شعيب كما رفض المصادقة على تشكيلة حكومة الوفاق المقترحة من قبل المجلس الرئاسي المنبثق عن الاتفاق السياسي و بهذا يكون البرلمان الليبي قد أذهب عن نفسه حرج رفض الاتفاق و ناور بالمجتمع الدولي المهدد للمعرقلين بالعقوبات و وضع الموقعين على اتفاق الصخيرات في مأزق إجرائي و نسف تواصل أعمال لجنة الحوار السياسي بعد أن أقال ممثليه داخلها …هذه الحزمة من القرارات لا تُفهم إلا في إطار واحد…لا حل دون حفاظ خليفة حفتر على منصبه و صلاحياته…على الأقل…هذا ما يقوله أغلب أعضاء نواب البرلمان.
المجلس الرئاسي المناط بعهدته تشكيل الحكومة و انفاذ الكثير من جوانب الاتفاق يشهد هو الأخر انقسامات بسبب موقع حفتر في المشهد بدأت هذه الإنقسامات مع تشكيل اللجنة الأمنية العليا التي ستسهر على تنفيذ الترتيبات الأمنية بعد مجيئ الحكومة الجديدة لطرابلس حيث قرر المجلس أن يترأس العميد عبد الرحمان الطويل و هو من قيادات الثوار هذه اللجنة و هو ما لم يرق لبعض أعضاء المجلس من مساندي حفتر و قد تطور هذا الخلاف بين أعضاء المجلس الرئاسي عند الإعلان عن التشكيلة الأولى لحكومة الوفاق حد انسحاب علي القطراني و عمر الأسود من المجلس قبل العودة اليه مجددا و مع إصرارهما على تأمين موقع حفتر في المشهد الجديد تطور الخلاف داخل المجلس الرئاسي الى الحد الذي جعل أحمد معيتيق وعلي القطراني يتبدلان اللكمات قبل أن ينسحب هذا الأخير من مداولات المجلس عائدا إلى القاهرة مع ذلك خرجت التشكيلة الجديدة لحكومة الوفاق الوطني للعلن بعد لأي طويل.
بالتوازي مع العملية السياسية المتقدّمة ببطئ و بصعوبة يطفو على السطح الحديث عن تدخل عسكري في ليبيا و مردُّ هذا التواجد الواضح لتنظيم الدولة في ليبيا و قيامه بعمليات عدة أشهرها عملية ذبح المصريين الأقباط و حيث يختلف الكثيرون في تفكيك هوية التنظيم فإن نشأته تبدو تقاطعا لعوامل عدة أهمها فوضى السلاح و استباحة الساحة الليبية بما يجعلها عرضة لاختراق المخابرات الأجنبية بالإضافة للفراغ الأمني الذي يسود تقريبا كامل المنطقة الشرقية .
يحاول التنظيم من خلال قاعدته في مدينة سرت السيطرة على مساحة أوسع بما يمكنه من هامش تحرك أكبر في ضل الإنقسام سياسي الحاد و الغياب شبه التام لدور الدولة في التصدي له… لكن هذا التنظيم المتواجد في ليبيا لا يعدو كونه مجموعة مسلحة من مئات المقاتلين غالبهم الأعم من غير الليبيين و لا يمتلك التنظيم في نسخته الليبية اي نوع من الأسلحة النوعية أو الصواريخ التي من الممكن أن تهدد دول الجوار كما أنه لا يحظى بدعم العمق الشعبي في مدينة سرت التي لا تزيد مساحتها عن 77 كلم مربعا بالإضافة إلى أن التنظيم فقد مواقعه في بنغازي و تراجع بشكل ملحوظ في درنة ليقتصر تموقعه على حي الفتائح اين يخوض ضده مجلس شورى ثوار درنة قتالا دون هوادة فضلا على الضربات الجوية التي أنهكت التنظيم في الأشهر الماضية و التي تقوم بها طائرات بدون طيار يرجّح أنها أمريكية و فرنسية بالإضافة لقصف طائرات سلاح الجو التابع لرئاسة الأركان الخاضعة لقيادة المؤتمر الوطني العام و أفقدت عمليات القصف المتكررة هذه التنظيم أميره في ليبيا أبو مغيرة القحطاني.
على العكس من هذه العمليات التي حدت من خطر تنظيم الدولة و أوقفت زحفه نحو مناطق مجاورة لمدينة سرت لم تتسم عمليات سلاح الجو التابع للواء المتقاعد خليفة حفتر بالفعالية كما أن حفتر لم يتسهدف التنظيم في مناسبات كانت عملياته فيها جريئة و خطيرة كمحاولته السيطرة على ميناء السدرة النفطي الشهر الماضي حيث لم يتدخل حفتر رغم استنجاد حرس المنشئات النفطية به ليتدخّل.
تحرّك التنظيم نحو المواقع النفطية ربما يكون هو المعطى لفت الإدراة الأمريكية للتحرك في هذا السياق قالت الصحافة الأمريكية بأن الولايات المتحدة تبحث عن شركاء أقوياء على الأرض و قال الرئيس الأمريكي أن بعث بخبراء لاستطلاع الأمر و تقييم خطر التنظيم و قدرته على التوسّع و الانتشار
الموقف الدولي من وضع تنظيم الدولة في ليبيا يمكن فهمه من خلال تصريحات وزراء دفاع و خارجية حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي فوزير الخارجية البريطاني مثلا صرح منذ ايام قليلة بأن أن بلاده لا تعتزم نشر قوات قتالية في ليبيا لكنها ستسعى إلى تقديم الدعم الإستراتيجي و المخابراتي لحكومتها الجديدة و هو تقريبا نفس ما ذهب إليه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ حيث قال إن حلف الناتو مستعد لمساعدة ليبيا في محاربة التنظيم وخصوصا في تكوين مؤسسات قوة في البلد إذا طلبت الحكومة الجديدة ذلك , الرسالة نفسها وجهتها مفوضة الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية فيديركا موغيريني التي استبعدت اي تدخل عسكري غربي قبل تشكيل حكومة الوفاق الوطني لتتقاطع في ذلك ما قاله المبعوث الأممي السابق في ليبيا طارق متري على موقعه على تويتر و التي وردت كالتالي … في اجتماع روما استبعد البعض تدخلا عسكريا في ليبيا فيما استأخره البعض الآخر. واتفق الكل على دعم العملية السياسية التي يتحكم بها الليبيون اولا.
تصريح وزير الخارجية الإيطالي باولو جينتيلوني لم يشذ عن جوهر تصريحات بقية القادة الغربيين حيث صرّح بأن ليست هناك أية عجلة للتدخل في ليبيا لا من قبل إيطاليا ولا من جانب المجتمع الدولي
كل هذه التصريحات و الإشارات تدل على أن دور الدول الغربية في أي عمل عسكري يستهدف تنظيم الدولة لن يكون إلا في إطار دعم حكومة الوفاق الوطني عسكريا و استخباراتيا و في أقصى الحالات بعمليات إسناد جوي لقوات ليبية على الأرض تستهدف المناطق التي يسيطر عليها التنظيم أساسا مدينة سرت
يثير الحديث عن تدخل غربي في ليبيا مخاوف دول الجوار من أن تطالها شظايا هذا التدخل و إذا كان التونسييون يرفضون هذا التدخل لاعتبارات اقتصادية أولا ثم أمنية فإن الجزائريين يرون أن التدخل يجب أن يكون محدودا بضربات جوية تستهدف مواقع تمركز تنظيم الدولة أما إذا جاوز التدخل هذا الحد فإن ذلك سيضر بالأمن القومي الجزائري بشكل مباشرة , رئيس حكومة الوفاق ذهب لزيارة الجزائر منذ أيام و التقى هناك الرئيس الجزائري و يبدو أن السراج حدثه عن فرضية طلب تدخل أجنبي لم يجبه بو تفليقة في الحين لكن إجابته جاءت مباشرة بعد عودة السراج حيث قررت السلطات الجزائرية إغلاق مجالها الجوي في وجه الطائرات الليبية
مواقف الدول الغربية تبدو على قدر كبير من الكياسة و تعكس دراية عميقة بتفاصيل الساحة الليبية فأي تدخل بري أجنبي في الوضع الحالي الذي يتصف بالتشظي السياسي و بفوضى السلاح سيذكي دعاية تنظيم الدولة في ليبيا و ربما تجد هذه الدعاية لها صدى لدى تنظيمات اخرى معتدلة سترى في هذا التدخل البري احتلالا جديدا كما سيتحول التنظيم الى مغناطيس يجذب الشباب المتطرف من كل أسقاع العالم لمقاتلة القوات التي جاءت لمحاربة التنظيم كما أن تدخلا بريا محتملا سيخلق للتنظيم حاضنة شعبية و يفتقدها الأن و يحاول جاهدا إيجادها كل هذا ينضاف إلى اعتبار أن فصائل كثيرة معتدلة عبرت عن رفضها لأي تدخل بري و هو ما يعني أنها ستتعامل معه في حال حصوله على أنه قوة احتلال الأمر الّذي سيكلف هذه القوات خسائر جسيمة في الأرواح و الآليات و هو درس سبق لدول كثيرة تعلمه في كل من العراق و افغانستان و من الواضح أنها لا تبدو على استعداد لتكراره أو تحمله تكاليفه العسكرية أو المالية أو السياسية الإنتخابية مرة أخرى المعطى الانتخابي يخص على الأقل فرنسا و الولايات المتحدة اذ تنتظر الدولتان استحقاق انتخابيا مهما في 2017 لذلك تنصب الجهود الغربية على دعم الحل السياسي و على ان يحارب الليبيون الإرهاب بأنفسهم.
الحديث عن تدخل غربي محتمل في ليبيا يثير بشكل لافت وسائل الإعلام و المحللين التونسيين حيث تناولت جل وسائل الإعلام في تونس الموضوع من زواياه المختلفة و انطلق من يقدمون أنفسهم كخبراء في الشأن الليبي في تقديم قراءات غريبة لا علاقة لها بالواقع الليبي لا من قريب ولا من بعيد و تعتمد في جزء كبير منها على معطيات مغلوطة و إشاعات إحدى هذه القراءات قدمتها صحيفة الشروق التونسية التي تحدثت في تقرير خاص عن ليبيا عن عملية عسكرية يشارك فيها 50 ألف جندي و مائة طائرة مقاتلة !
حُمّى التدخل الغربي في ليبيا و التي يشهدها الإعلام التونسي منذ أيام تجاوزت الإعلاميين لتطال من هم في موقع القرار فالنائب بالبرلمان التونسي الصحبي بن فرج تحدث عن تدخل عسكري كبير سيحدث في غضون أيام و أن (جماعة فجر ليبيا) على حد تعبيره و حلفاءهم في تونس سيتأثرون حتما بذلك و عليهم أن يقبلوا بهذا التدخل و إلا جرفهم التيار.
يبدون أن النائب التونسي شأنه شأن عديد صناع القرار و الإعلاميين في تونس مغيبون بشكل شبه تام عن نقاش المجتمع الدولي حول ليبيا و يجهلون تفاصيل الخلاف الداخلية جهلا مطبقا زاد من ضبابية الصورة لدى التونسيين المتخفوين من حرب محتملة…حرب يبدو أن جمعا من تجار المنظمات غير الحكومية يتمنون وقوعها كي تنتعش تجارتهم من خلال استجداء المساعدات و الدعم شأنهم شأن بقايا الأنظمة السابقة و هؤلاء هم اليوم أشبه بغربان الحرب الناعقة الّذين قد يجدون في عملية عسكرية كبرى عزاءً لأنفسهم و هم يعتبرون الثورات التي قامت طلبا للحرية و الكرامة مؤامرات و خططا للتقسيم.
رغم كل ما يسود المشهد من توتر فإن الليبيين المجتمعين في المغرب أو في تونس بهدف الحوار أبانوا عن مرونة و برغماتية في إدارة الخلاف و الأن و هم يستعدون للمصادقة على تشكيلة حكومة الوفاق في نسختها الثانية يبدو خلافهم الّذي طال قاب قوسين أو أدنى من أن يطويه التاريخ دون رجعة.