جلبت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي عاشتها تونس سنة 2014 تطورًا كبيرًا في المشهد السياسي أفضى إلى انحصار دور الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية وغيابها عن التأثير فيه ولعب أدوار متقدمة في السلطة وفي اتخاذ القرار السياسي في البلاد.
ورغم ما كان لهذه الأحزاب من أدوار في السلطة والمعارضة ما بعد ثورة 14 يناير وما تحمله من إرث نضالي وتراكم للتجربة السياسية، فقد عجزت عن فرض حضورها وتحقيق نتائج تضمن لها حالة الاستقرار وديمومة التواجد في مراكز السلطة والقرار، وعجزت جل هذه الأحزاب عن بلورة تصورات حقيقية وجدية للنهوض بوضعها وبناء رؤية إستراتيجية تعيد لها الاعتبار السياسي وتمنحها فرصة تجديد تواجدها في المشهد الوطني من خلال الاستحقاقات الكبرى القادمة ومنها الانتخابات البلدية نهاية هذه السنة.
في مقابل غياب أحزاب العائلة الديمقراطية الاجتماعية، يشهد المشهد السياسي الحالي تشوهات في طبيعة معالمه وأدوار الفاعلين فيه، فاستفرد قطبي الحكم – النهضة والنداء – بالمشهد السياسي واستحكما فيه، كما سمحت الظروف القائمة خلال السنوات الماضية من دفع العديد من القوى الاجتماعية والنقابية وأبرزها الاتحاد العام التونسي للشغل من لعب أدوار سياسية غير ما هو مطروح عليها ضمن دورها الوطني الذي بنيت عليه.
ويمكن توصيف المشهد السياسي القائم في البلاد بالهجيم وغير الطبيعي، الذي يدعو إلى مسارعة التعديل فيه وتقويم إعوجاجه لصالح المسار الانتقالي وحاجة الديمقراطية إلى تعدد اللاعبين الحقيقيين من مختلف العائلات السياسية وإلى تعديل الأدوار المطروحة على مختلف الفاعلين بما يسمح ببناء مشهد سياسي قابل للاستثمار فيه، بفاعلين في السلطة والمعارضة وقوى اجتماعية ونقابية تلعب أدوارها الطبيعية في سياق ما تحتاجه الديمقراطية الوليدة في تونس.
هنا يأتي الحديث عن العائلة الديمقراطية الاجتماعية بأحزابها التي تبحث إلى اليوم عن سبل للخروج من أزمتها وإيجاد أدوار لها في مستقبل العملية السياسية، ورغم ما تجتهد فيه لبناء تحالفات داخلها وتطوير صيغ عملها، إلا أنها لم توفّق لجمع أحزابها تحت يافطة عمل موحد ورؤية إستراتيجية مستقبلية، لتتواصل خلافاتها الداخلية وسطوة “الفردانية” القيادية التي تشتتها وتربك محاولاتها المتكررة لذلك، إلا أن ما يمكن إقراره اليوم في خضم التطورات القائمة في المشهد السياسي وسرعتها التي أتاحت الفرصة لولوج لاعبين جدد للتنافس على السلطة والقرار، أن الباب لا يزال مفتوحًا أمام العائلة الديمقراطية الاجتماعية لتجديد صلتها بالحراك الحزبي وبناء تحالفات قد تمتّن حضورها ودورها المستقبلي، فهل يكون المؤتمر القادم لحركة النهضة بوابة لعودتها السياسية؟
يأتي المؤتمر العاشر لحركة النهضة محمولاً بالكثير من القضايا الداخلية التي تبحث عن التجديد والتطوير، وهي كذلك فرصة متجددة للحركة لمزيد من إنضاج تصورها للمشهد السياسي ومقاربتها لدور الفاعلين البارزين على الساحة الوطنية، مستحضرة التحالفات القائمة وكيفية تمتينها ودعم خيار التوافق الذي تبنّته وحتى إيجاد تصورات جديدة تفضي إلى تعديل المشهد السياسي الحالي وتقويمه، ورغم أن اللوائح الداخلية للمؤتمر العاشر قد لا تحمل جديدًا على مستوى التحالفات القائمة وخيار التوافق الذي تسير عليه الحركة، إلا أنها قد تطرح دعم حضور باقي العائلات السياسية وسبل فسح المجال لها للعب أدوار متقدمة تعزز بها المشهد الحالي.
وينظر البعض من داخل الحركة إلى ضرورة أخذ فرصة التواجد في السلطة والحجم الانتخابي الذي تحظى به للمساهمة في رسم معالم جديدة وأكثر توازن على المشهد السياسي، تكون بذلك داعمة للخيارات السياسية الكبرى التي تحتاجها البلاد للسنوات المقبلة.
يجمع حركة النهضة بالعائلة الديمقراطية الاجتماعية تاريخ طويل ومسيرة زاوجت بين النضال والسلطة وقد خبرتها في الكثير من المواطن والمحطات الفارقة في تاريخ البلاد، واليوم يطرح سؤال قدرة هذه العائلة على الاستجابة لتصورات سياسية قد تطرحها حركة النهضة لمزيد من تدعيم المشهد السياسي وتطويره، وأول ما يدفع حركة النهضة اليوم للتفكير في هذا الخيار حاجتها لمزيد من دعم فكرة التوافق التي تحتاج دعائم تقويها رغم ما قد تطرحه من إرباكات في الشراكة السياسية الحالية مع نداء تونس، كما أن حاجة البلاد اليوم تدعو للتفكير بجدية في سبل إرساء مشروع وطني واضح المعالم يحمل رؤية اقتصادية تنموية تعزز المسار الديمقراطي وتدعمه، ما يتطلب حاضنة سياسية قوية قد لا توفرها النخبة الحاكمة اليوم.
وعلى صعيد آخر، فإن مشهد المعارضة القائمة اليوم لا يزال ضعيفًا ويفتقر للطرح القوي من ناحية التصورات السياسية والاقتصادية، كما أنه مشهد مستحكم في أغبه بيد طرف سياسي وحيد – الجبهة الشعبية – التي أزاحت المعارضة في الكثير من المحطات عن لعب دورها التعديلي الذي يقدم الحلول والبدائل.
وإذ تعبر حركة النهضة اليوم عن حاجتها لمزيد دعم الاستقرار السياسي في البلاد والانطلاق في الإصلاحات الكبرى خاصة الاقتصادية منها، يتطلب ذلك توافقًا سياسيًا موسعًا يتجاوز حدود التوافق القائم ليفرز حاضنة موسعة تلعب فيه كافة العائلات السياسية في البلاد أدوارًا ريادية فيه – إن كانت في السلطة أو المعارضة – كما يكون فيه للمجتمع المدني والقوى الاجتماعية والنقابية الكبرى نفس قوة الدور الذي لعبته في الفترة السابقة.
تسير حركة النهضة بخطى ثابتة لإنجاز مؤتمرها العاشر ربيع السنة الحالية، لتناقش فيه جملة من الخيارات الكبرى لتعزيز بناءها الداخلي وتطوير أداء هياكلها ونجاعة قراراتها المؤسساتية، ولتمحص أكثر في تصوراتها السياسية المطروحة ودعم مسار الانتقال الديمقراطي، وتبقى الخيارات أمام حركة النهضة مفتوحة لمزيد من التعديل في المشهد القائم وتطعيمه أكثر بالفاعلين السياسيين وتحصينه من التشويه الحاصل، الذي وإن حقق حالة من الاستقرار السياسي الظرفي فهو بلا شك يحمل هشاشة قابلة للانكسار في أي لحظة.